Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"بريكس" وحدود تغيير العالم

تصر الدول على تجاهل تحدياتها الرئيسة كالتغير المناخي ومكافحة الفقر وتبحث عن استمرار النفوذ

قادة دول مجموعة البريكس ووزير خارجية روسيا ممثلا عن بوتين في صورة تذكرية بقمتهم الأخيرة (أ ف ب)

ملخص

ربما سيتوقف مستقبل العالم على شكل انتهاء الحرب الأوكرانية وهل سيعجل هذا بتحولات النظام الدولي أم سيكون الأمر في حاجة إلى جولات جديدة أو توسعات ضخمة في كتلة "بريكس" أو الاثنتين معاً؟

الكلمة المفتاحية الرئيسة في مسألة تجمع "بريكس" ثم توسعه في قمة جوهانسبورغ الأخيرة هي محاولة إجراء تعديلات أو إصلاح للنظام الدولي الراهن، ولكن هذا المفهوم الواسع يتضمن كثيراً من الأسئلة الفرعية التي ليست لها إجابة واحدة، بالضبط مثل السؤال الرئيس عن تغيير العالم.

ومن دون فهم خلفية النشأة لا يبدو للمستقبل معنى، فالبداية من تجمع أصغر في بدايات القرن الحالي لعب رئيس جنوب أفريقيا الأسبق تابو مبيكي دوراً في تأسيسه، وكان يضم البرازيل والهند، ولم تتجاوب مصر مع دعوته في البداية، وتابو ليس مجرد رئيس، بل الرجل الذي أعتز بمعرفته شخصياً، صاحب رؤية، بعضها كان متبلوراً، وبعضها الآخر تبلور مع رؤى الشركاء الدوليين، ولكن منتدى حوار "إبسا" (الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا) كانت حدوده ضيقة، فهو نادي الساعين إلى الحصول على العضوية الدائمة في مجلس الأمن ليرافقوا الكبار الآخرين، وهم الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والصين وبريطانيا وفرنسا في التمتع بحق شل وتعويق إضافي من قدرة الأمم المتحدة على حفظ السلم والأمن الدوليين.

ومن ثم قبل نهاية العقد الأول من هذا القرن، اجتمعت روسيا والصين والهند والبرازيل لتشكل "بريك" الذي ضم جنوب أفريقيا بعدها بفترة قصيرة ويصبح "بريكس" من الأحرف الأولى للدول الخمس، لتتبلور الأهداف أكثر، فهذا التجمع يضم تركيبة جديدة تجمع كتلة سكانية ضخمة وجزءاً من قيادات دول الجنوب السابق، وكذلك كتلة تتميز بالصعود الاقتصادي، ويصبح الهدف أكثر وضوحاً وصراحة، وهو إعادة ترتيب الأوضاع الدولية.

طموحات ومبررات مشروعة

يتفهم كثير أن الصين التي نجحت في بناء تنمية اقتصادية ضخمة ومتواصلة وأصبحت ثاني قوة اقتصادية في العالم وتقترب من إزاحة الولايات المتحدة على مقعد الصدارة الاقتصادية تدرك أهمية بناء مكانة وحضور سياسي مشابه أو قريب ويلحظون صبر بكين في هذه المساعي، ومراقبة أدائها في الأمم المتحدة – على رغم تمتعها بحق الفيتو - يكشف أنها لم تكن تزاحم أحداً وتدرك قوتها المحدودة في التأثير بالقرار الدولي.

ومن ناحية أخرى فإن روسيا بعد عودة تماسكها في ظل الرئيس فلاديمير بوتين عادت من جديد تحاول استعادة دورها المؤثر السابق، وما يمكن قوله إن كل الشواهد أصبحت تؤكد أن معضلة روسيا في ثقافة سياسية متأصلة في التاريخ والشخصية الروسية محورها فكرة التوسع الإمبراطوري والتطلع إلى مكانة دولية كبرى.

ومن الواضح أن رغبة بوتين في الثأر لسقوط إمبراطورية بلاده السوفياتية السابقة شكلت منذ البداية حافزاً مهماً في سياساته الداخلية والخارجية، وأصبحت الآن متبلورة في شكل خطاب سياسي محدد يبرر حربه الأوكرانية وجملة تحركاته، وكذلك رؤيته الواضحة لوظيفة "بريكس" في التحضير لنظام دولي متعدد الأقطاب تنتهي فيه هيمنة واشنطن والقوى الغربية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

الأطراف الثلاثة يجمعها الهدف السابق فقط مع القوتين أصحاب الفيتو في مجلس الأمن، فقد حصلتا على تأييدهما لضمهما إلى النادي المغلق للقيادة، ولديهم طموحات بلعب دور قيادي في الجنوب، على رغم أن سجل سياسات الدول الثلاث يكشف عن تذبذب واضح، وتغليب لمصالحهم مع الدول الغربية بأكثر من مصالح دول الجنوب عموماً، ولكنها أيضاً أي هذه الدول الخمس تعي أن النظام الدولي الراهن الذي يقوده الغرب يحتاج مراجعة، وهذا ما يمكن أن نطلق عليه المبررات التي لم يبلورها الساسة وحدهم، بل هناك تراكم لاجتهادات بعضها على قدر من التبلور في شأن إخفاقات هذا النظام، ولعلي كتبت كثيراً عن هذه الأبعاد، وعلى رأسها خلل نظام السلم والأمن الدوليين بسبب رئيس، وهو تبعيته لمجلس الأمن الدولي وسيطرة حق النقض على هذا المجلس، ومن ثم سيطرة ثلاثة أطراف غربية، بخاصة واشنطن، على المنظمة واستثمارها لسقوط الاتحاد السوفياتي والصعود البطيء للصين لتكريس هيمنتها حتى على الهيكل الوظيفي للمنظمة، كما أدت سيطرة التمويل الغربي على تعميق سيطرة الولايات المتحدة الهيكلية على المنظمة الأممية - وهو خطأ لا يحاسب الغرب عليه وحده - فهناك مسؤولية عالمية، وفي النهاية أصبحنا أمام منظومة مختلة تكرس المعايير المزدوجة والمصالح الغربية، ومن ثم عدم العدالة الدولية ليضاف إلى كل هذا التنافس الدولي والإقليمي لعدم وجود معايير دولية متفق عليها ومحل احترام لنصل إلى حالة الأوضاع الدولية الراهنة المختلة.

ولكن هذا النقاش المستتر في دوائر فكرية لا تقتصر على الجنوب، بل تمتد أيضاً لدوائر فكرية غربية لا يغير من حقيقة أن الساعين إلى التغيير ليسوا مثاليين، ولكن فقط يريدون المشاركة في إدارة عالم المستقبل.

مغزى التوسيع

ربما يكون المغزى الرئيس لمسألة توسيع "بريكس" أن الأطراف يتحركون خطوات إضافية بعيدة من مجرد المشاركة في مسألة توسيع مجلس الأمن، سواء في اتجاه تدعيم تبادلات اقتصادية بينية تؤسس لمصالح متشابكة، أو في اتجاه تيار عريض يشارك في مراجعة الترتيبات والأوضاع الدولية الراهنة التي كما ذكرنا آن أوان مراجعتها، وهي مراجعة ليست سهلة وليست واضحة بعد لدى معظم أطراف المجتمع الدولي، ولكن المشهد الكلي يتضمن تفاصيل عديدة متناقضة.

من بين هذه التفاصيل حجم التشابكات الضخمة بين الغرب وقوى "بريكس"، بخاصة الصين والهند، كما أن هذه التوسعة الأخيرة ضمت عدداً من الأطراف الدولية التي يحاول بعضها عمل توازنات معينة مع واشنطن، ولكنها ما زالت تحتفظ بعلاقات وثيقة معها ومع الغرب، وبخاصة السعودية ومصر والإمارات والأرجنتين، وتراهن واشنطن على الهند للتباعد عن هذه الكتلة وتطرح مشروعها الجديد الذي ينافس طريق الحرير الصيني، ولكن في التقدير أن الهند لديها وجهات نظر ناضجة ومتبلورة ستستفيد من هذا التنافس لصالح برامج تطورها دون أن تقلل روابطها التقليدية مع روسيا، وكأنها ستعيد استنساخ تجربة الصين لصالحها وهي تفعل ذلك بالفعل.

وفيما يتعلق بالهند أيضاً تنفخ القوى الغربية في تناقضاتها ومخاوفها من الصين، وهي كبيرة وتتناسى التناقضات داخل المعسكر الغربي وعملية التهميش الأميركية المستمرة لفرنسا التي قد تكون لها تداعياتها في المستقبل وإن كان التراجع المستمر لباريس وفي مكانتها الدولية سيكون له آثاره بهذا الصدد في حدود تباعدها عن المعسكر الغربي.

وما ذكرناه سابقاً ليس إلا قليلاً جداً من اعتبارات عديدة ومتشابكة، ولكن القصد منها أنه في عالم بهذا القدر من التشابك والهلامية ستصبح عملية التغيير بالغة الصعوبة، وسيكون المخاض صعباً.

والأرجح أن دول "بريكس" على رغم المشروع الأميركي – الهندي، ستواصل تدعيم علاقاتها البينية، وقد تتوسع أكثر بضم دول جديدة، وإن من شأن بناء وتعميق هذه العلاقات البينية إضافة خطوات جديدة لإنهاء الهيمنة الاقتصادية الأوروبية دون أن يعني هذا أن زمن صدارة الدولار الأميركي قد قارب على الزوال، فمؤشرات هذا ما زالت بعيدة حتى الآن.

ومن ناحية أخرى ستتواصل بؤر الصراعات الإقليمية مع أدوار وازنة للقوى الإقليمية المختلفة تزاحم تلك الكبرى دون قدرة أي جانب على حسمها لصالحه، والكثير سيتوقف على شكل انتهاء الحرب الأوكرانية وهل سيعجل هذا بتحولات النظام الدولي أم سيكون الأمر في حاجة إلى جولات جديدة أو توسعات ضخمة في كتلة "بريكس" أو الاثنتين معاً؟ مما يعني مزيداً من الأخطار في هذا العالم الذي يصر على تجاهل تحدياته الرئيسة وعلى رأسها قضايا التغير المناخي والتنمية ومكافحة الفقر، وبدلاً من ذلك البحث عن استمرار النفوذ أو الحصول عليه.

اقرأ المزيد

المزيد من تحلیل