ملخص
العمل الفني يكتمل في استعادة بدايته الدائمة
تحت عنوان "مساحات وسيطة" يعرض الرسام اللبناني إدغار مازجي عدداً من الأعمال المشغولة على مدى السنتين الأخيرتين. ما يُقارب الثلاثين عملاً من أحجام متوسطة وكبيرة تحتضنها غاليري آرت أون 56 في الجميزة. اللوحات التي يقدّمها مازجي قريبة بعضاً من بعض لدرجة أنها تُشعر المتفرّج بأنه أمام حكاية متواصلة، أو رواية متواصلة داخل معرض.تحمل اللوحات بصمات تجريدية، من خلال هذا التراكم الفني ويرى الفنان أشياء تحرّره من الإحصار ضمن بوتقة واحدة للشغل. يبدأ برؤية صور مختلفة يجمعها كأنّها فسيفساء تتركّب ضربةً وراء ضربة. كلّ اللّوحات تبدأ من مكان مجهول ولا تبيّن أبداً على ماذا سنحصل، ولماذا؟
تتطوّر اللوحة عند مازجي بارتجال مستمر. لوحة يسودُها غياب المحفز، تمشي وتمشي من دون أيّ معرفة بالصّورة التي ستصل إليها. ربما هذه هي المساحات الوسيطة، التي تنقل اللوحة من حال إلى حال ومن مستوى إلى آخر. تهبكَ كمشاهد، فرصةً ومجالاً للخلق والتصوّر، إلى أن تنتهي على شكل صور لا يوجد بينها عامل مشترك سوى أرضية واحدة هي الرسم بذاته.
البصمات التي يتّبعها مازجي في اشتغاله على اللوحة، هي بصمات دينامية بعض الشيء، توصل إلى صور هادئة. ثمة تناقض بين طريقة الرسم واللوحة المنتجة بقوة وصلابة وحيويّة، عنفٌ لا يبدو ظاهراً إنما يختبئ خلف حكاية، وهذه الحكاية في لوحة إدغار هي غنائيّة، شخوصٌ تغنّي من دون أدنى معرفة إلى أين ستصل.
هناك خيطٌ واضح يجمع الأعمال المطروحة في الصالة، يصحُّ اختصار هذا الخيط بهدوء الأشخاص وتناغمهم مع دينامية الضربات العريضة. الشخوص الموجودة ساكنة، ومشغولة بالتفكير بأشياء نجهلها وغير واضحة لمن يرى، وكأنها تتقصد ذلك وتخفيه. ما يهمّنا بالمحصّلة هو اللوحة في ظهورها الأخير كلوحة، ولا يمكننا النظر إليها انطلاقاً من أيّ شيء آخر. المعرض هو نسخته الأخيرة بطبيعة الحال.
الارتجال حاضر في سيرورة هذه اللوحات ال 30، ويكونُ الفنان حراً وليس عالقاً بالحالة الأولى التي خطط لها. لا تبدأ اللوحة بصورة معينة ومن ثم تأتي التعديلات. اللوحة دائماً هي في بداياتها، وكأنها في مشغل متجدد حتى تصل صورتها الأخيرة.
بين مكانتين، التجريد والتشخيص، يسير إدغار مازجي بحذاقة. هو في محل بين الاثنين. يشتغل بتجريد ويختتم بتشخيص، هو يريد أن يري أن الجمال بغض النظر عن الألوان، هو بالأسود والأبيض. يستطيع أن يبني على التجريد هنا حكايةً وسرداً، يُلاقي شخوصه في الختام. اللوحات في عمومها تأتي من محل عائلي، فيها حياة عائلة وتوصيف لها ولتفاصيلها التي تسقط إسقاطاً. الحيوانات أيضاً لها حضور مختلف. وكأنّ مازجي يدخل إلى التجريد يأخذ منه ما يريد من دون أن يضيع داخله، يدخل في المتاهة ويخرج سليماً كما يناسب اللوحة، هو رام في هامش مفتوح. يُتابع بحثه عن اللوحة، بجاذب كبير وبأشكال وضربات مفتوحة. القصة لديه ليست القصة بداتها، يسأل مازجي ما هو الرسم وما هي احتمالاته، والرسم طريق لفهم الحياة.
لوحة "لاعب دربكة" وألوانها الثلاثة، تشبه موسيقى الدربكة "دم تك إس"، فضربات لوحته موزّعة في 3 ألوان. "دم" أسود ورمادي، "تك" أصفر أبيض، "إس" الفراغ والسكوت في اللوحة. لديه مرونة بالفضاء، وهناك شبكة ممدودة. فضاء مرن ومتاهة لا تضيع.
ينسحب هذا على عموم اللوحات، عيونٌ مغبشة ووجوه في اللوحة عينها، واضحة تحدق. شخوصٌ تسقط إسقاطاً على اللوحة، كأنها من خارجها أو تبني عليها. في لوحة "جاكلين" الشخصية الرئيسية هي جاكلين لكنها مقلوبة، قام بتصوير الصيغة الصحيحة. ما يجب أن نراه، ليس تجريداً عبثياً إنما وجد ليقدّم سيناريو معيناً بالزمان والمكان والرابط. ربما على المشاهد ربط الحوار، كأن يضع وجهة نظرنا في اللوحة.
في لوحة "بريق قهوة تركية" ما هو واضح هو شارب القهوة والقهوة. الشخصية واضحة، ضربات سريعة تدخل عليها طبقات. في لوحة أخرى "المرأة والقطة" مندمجتان بعلاقة روحية. الفراغ الذي وراءهما الذي يملأ الفناء الخلفي للوحة، هو ربما كلام القطة أو مواؤها كما يراه مازجي، أشبه بتجسيد ل "ديالوغ" بينهما.
المتفحّص للأعمال يرى أنّ في لوحات مازجي بطلين رئيسين: الشخوص والتجريد الذي هو جزء أساسي من مكوّنات المشهد. الفراغ أيضاً ملأه بالتجريد والإسقاطات على اللوحة. يقدّم العمل وكأنّ التجريد له والتشخيص للمشاهد الذي يرى. لوحاتٌ عبارة عن لقطات، شهيق وزفير. الشهيق هو رحلة بناء كليّة تجريديّة والزّفير هو الشخوص التي تدخل اللوحة غيلةً وبلا إنذار.
الخلفية هي ملعب مازجي الذي يركن إليه ويستكين. دائماً ما هناك حركة، يأخذ لقطات ويقف عندها. هو أشبه بمصوّر يقدّم حيثيّات القصة بلا نقصان. حيثيات خالية من الشعور داخل عمل فني ذي دربة ممتازة. هكذا كي لا يبقى الفنان عالقاً في الحالة الأولى، وكي نصل معه إلى خلاصات حول العمل الفني وتفاصيله الدفينة.