ملخص
لقد خرج زيت الزيتون من ميزان الربح مع ارتفاع تكاليف الإنتاج، وانخفاض المردود إثر التغير المناخي، ما يفضي إلى توقعات بتدني إنتاج الموسم الحالي ليصل إلى النصف مقارنة بالعام الماضي
حمامة تحمل في منقارها غصن زيتون في لوحة رسمها الفنان العالمي بابلو بيكاسو وباتت رمزاً للسلام، لكن للزيتون في سوريا حكاية أخرى طبعت بلون الدم ورائحة البارود.
فكثير من الحروب والنزاعات دارت على سفوح وجبال وهضاب غرست بأشجار الثمرة المباركة، واحتمى خلف جذوعها مقاتلون قد صبوا الرصاص على خصومهم من أبناء البلد الواحد، ونالت أغصانها وابلاً من طلقات نار الرشاشات والبنادق، وكم أرخت بفيئها على نازحين كأم رؤوف لا تعرف القسوة بعدما تجرعوا مرارة هجرة قسرية من بيوتهم، فما كان لهم من ملجأ أو مأوى إلا حقول شجرتهم الخضراء يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.
كل ذلك "غيض من فيض" لما قاسته شجرة العطاء والسلام على مر سنوات الحرب، إلى درجة أن أيادي امتدت لقطعها بشكل جائر مع دخول البلاد حالة الفوضى العارمة، لكثير من الأغراض منها التخريب أو التحطيب للتدفئة، والحرق للتفحيم وسط انهيار القطاع الزراعي وخروج أراض بمساحات واسعة عن الإنتاج.
بين الحلم والكابوس
لطالما حلمت سوريا، البلد المصنف زراعياً في المقام الأول، بالحصول على ترتيب متقدم بالإنتاج، وكان قبل اندلاع النزاع المسلح يتباهى بامتلاك 90 مليون شجرة، وصنف بين عديد من البلاد بالترتيب الخامس عالمياً عام 2004، حينها بلغت ذروة الإنتاج ما يناهز مليون طن، وحل بعد إسبانيا وإيطاليا واليونان وتركيا، متفوقاً على تونس في ذلك العام لتضرر محاصيلها الزراعية، وبات الاهتمام بالزيتون يتنامى إلى درجة باتت تزرع ملايين الشجيرات قبل الأزمة، وليس بالغريب أن يشبه السوريون شجرتهم بـ "الذهب الأخضر" لما درت على الاقتصاد الوطني من خيرات منها تدفق القطع الأجنبي نتيجة تزايد الإنتاج ومعه كميات التصدير للخارج.
لقد خرج "الذهب الأخضر" من ميزان الربح مع خسارات المزارعين نتيجة ارتفاع تكاليف الإنتاج، وانخفاض المردود على إثر التغير المناخي من جفاف وانخفاض كميات الأمطار، ما يفضي إلى توقعات تدني إنتاج الموسم الحالي ليصل إلى النصف مقارنة بالعام الماضي، بحسب رئيسة مكتب الزيتون التابع لوزارة الزراعة، عبير جوهر، وهي تتوقع ألا يتجاوز 380 ألف طن فيما قد لا تتخطى كمية زيت الزيتون 49 ألف طن.
ويحرص المزارعون ومعاصر الزيتون، منذ بداية أكتوبر (تشرين الأول) من كل عام، بالوصول إلى السهول والجبال لجني وقطاف الثمار، وإرسالها إلى المعاصر، ويعزو المهندس الزراعي جمال الأحمر تراجع الإنتاج إلى التغيرات المناخية، وما تعرضت له شجرة الزيتون من تدمير غير مسبوق لدرجة اقتلاعها، وأضاف "زيت الزيتون السوري يتميز بجودته بين أنواع زيتون دول البحر المتوسط، إذ لا تزيد نسبة حموضته 1.5 ميليمتر في المئة، فضلاً عن احتوائه على زيوت طيارة، وكل ذلك وغيره من مواصفات تمنحه قيمة غذائية يتفرد بها عن بقية أنواع الزيوت المماثلة".
الزيت يغادر المائدة
في غضون ذلك، ارتفع ثمن كيلوغرام الزيت الواحد أكثر من ثلاثة أضعاف عن العام الماضي، ما يرجح إيقاف التصدير هذا العام من قبل الحكومة لفترة طويلة، بغية تغطية حاجة الاستهلاك المحلي الذي يقدر بين 70 إلى 80 ألف طن، بينما يتوقع إنتاج نصف الكمية هذا الموسم، ويرد الباحث الزراعي هذا التدني بالإنتاج، إضافة إلى تواجد الكميات الكبيرة من الزيتون في أراض خارج سيطرة النظام وأغلبها في ريفي حلب وإدلب، سببه التغير المناخي ما زاد من الطلب عليه، وفق رأيه، وأدى بالتالي إلى ارتفاع ثمنه.
في المقابل، تتأهب الأوساط التجارية إلى كسب صفقات مربحة بعد توقف كثير منها عن البيع بهدف استهداف أسواق خارجية، ما رفع سعر كيلوغرام الواحد إلى أكثر من 80 ألف ليرة (أي ما يعادل ستة دولارات أميركية)، ويتفاوت سعر عبوة الزيت (حجمها بين 16 إلى 20 كيلوغراماً) بين مليون إلى مليون و300 ألف ليرة، أي ما يعادل 100 دولار.
وأمام هذا الغلاء الفاحش في أسعار الزيت، توقفت العائلات عن شرائه بالعبوات الكبيرة للتخزين، وهو ما درجت عليه عادة البيوت السورية، واكتفى رب العائلة بشراء بضع من الليترات فقط.
وانصرف السوريون المثقلون بأعباء التضخم الحاصل، بالعمل على اجتراح حلول بديلة، ولعل التحايل على لقمة العيش من أصعب الأساليب المتبعة في سوريا، لأن كل شيء مكلف.
وحسب وصف المواطن رمضان عزام "لكي أكسب مزيداً من زيت الزيتون أمزجها مع القليل من زيت دوار الشمس أو زيت الذرة وغيرها، أعلم أن هذا غير صحي لكن ما باليد حيلة، فسعر الليتر الواحد من زيت دوار الشمس يصل إلى قرابة 20 ألف ليرة، ما يعادل دولاراً ونصف الدولار".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المطبخ وأشهى الأطباق
في الأثناء، تنتشر في الأسواق المحلية أنواع مجهولة المصدر من الزيوت، وقد حذرت مصادر في وزارة التجارة وحماية المستهلك من شراء منتجات زيت الزيتون من دون التأكد من مصدرها بسبب الغش الحاصل في المادة، فضلاً عن إضافة مواد غير صالحة للاستهلاك البشري تسبب ضرراً على الصحة العامة.
وثمة سيدات أقلعن عن استخدام زيت الزيتون لغلاء سعره منذ زمن، أو استخدامه في الطبخ والتخفيف ما استطعن من استخدام هذه المادة، التي تعد أشبه بكنز داخل المطبخ، والاستعاضة عنه بزيت جديد في الأسواق يسمى "زيت النخيل" تستخدمه المطاعم، وباتت تستهلكه الأسر السورية لرخص ثمنه، وقد يفي بالغرض.
تروي السيدة أم عمار ما يواجهها من أعباء في الأسواق حين شراء المنتجات الغذائية لا سيما الزيت الذي تحاول أن تتجنب شراءه بعد غلائه، وقالت ممازحة "ذلك أثر في شهية وجودة أطباق المأكولات التي أصنعها"، وأردفت، "من الوجبات التي لا يمكن الاستغناء عنها هي المكدوس (الباذنجان بالجوز)، ولعلنا اليوم استعضنا عن الجوز لغلاء سعره بالفستق الحلبي، وهو أقل سعراً، واليوم استعضت عن زيت الزيتون بالزيوت النباتية".
مقابل ذلك أوقفت دمشق قراراً يقضي بتصدير زيت الزيتون لتوفير الكميات التي تحتاجها الأسواق المحلية، بينما يرى أحد المزارعين أن زيادة سعر الزيت تعود إلى ارتفاع تكاليف التسويق وأجور اليد العاملة، علاوة على ارتفاع أسعار المحروقات وأجور المعاصر، كل ذلك ترك تأثيراً في ثمن الزيت في نهاية المطاف.
وتجمعت أراضي زراعة الزيتون بكثافة في الشمال والشمال الغربي، وهي مناطق خاضت حروباً شرسة على امتداد عقد من الزمن، وأشهرها في ريفي حلب وإدلب اللذين يستحوذان على نسبة 46 في المئة، منها 20 في المئة في عفرين التي تسيطر عليها المعارضة السورية المسلحة، ويعد الزيت "العفريني" من أشهى الزيوت السورية.
ودفع إغلاق الطرق إلى ارتفاع سعر المنتج، والاعتماد على ما تبقى من أراض في الساحل تنتج الزيتون ونسبتها 18 في المئة، مع انتشار معاصر الزيتون التي تسعى لتلبية حاجة السوق المتزايدة وسط ضعف العرض وزيادة الطلب، بينما يرغب أصحاب الأرض الخضراء في مناطق القسم الشمالي الخاضعة لسيطرة المعارضة، بإدخال منتجاتهم إلى الأسواق المغلقة منذ سنوات الحرب.