"... ولوريثتي أقول إن عليها أن تحافظ على حديقتي وبيتي في سانتا آغاتا كما هما على حالهما اليوم تماماً ودون أي تبديل، كما أطلب منها كذلك أن تحافظ على حالتها الراهنة، كل البراري والبساتين التي تحيط بالحديقة. ويسري هذا الأمر على ما أطلبه من ورثة وريثتي. أما بالنسبة إلى جنازتي فإنني أريدها أن تكون في غاية البساطة، وأن تقام إما عند الفجر أو ليلاً في كنيسة (آفي ماريا) من دون أن يصحبها أي غناء أو أية موسيقى. كذلك أرجو ألا يصار إلى نعيي علانية بأي شكل من الأشكال أو تبعاً للصيغ المعتادة. وأطلب أن يصار غداة دفني إلى توزيع 1000 ليرة على فقراء قرية سانتا آغاتا...". بهذه التوصيات ختم الموسيقي الإيطالي جوزيبي فيردي وصيته التي دبجها وأعاد تصحيحها مرات ومرات وهو يخطو آخر خطوات حياته في هذا العالم. وكان ذلك في عام 1901، وهو الذي كان قد بلغ حينها الـ88 لكنه كان لا يزال في قمة عطائه ووعيه.
تكريم في غير مكانه
كان واعياً وواثقاً من مكانه ومكانته في عالم الفن كما في حياة وطنه إلى درجة أنه كان قد كتب قبل ذلك بثلاث سنوات وتحديداً يوم بلغته أخبار عن عزم مدينة ميلانو على تكريمه تكريماً سامياً، ليحتج على ذلك عبر نص وجد لاحقاً بين أوراقه يقول فيه "إن الساعة الآن الخامسة من بعد الظهر ولقد قرأت لتوي في الكورييري (صحيفة "الكورييري ديلا سيرا" المسائية الكبرى) أن السلطات المتخصصة قد (قررت إعطاء اسم جوزيبي فيردي للمعهد الموسيقي في ميلانو). يا إلهي، لقد كان هذا ما ينقص لإقلاق راحة بال وإزعاج روح شيطان بائس مثلي. بائس لا يتمنى أكثر من أن يترك على سجيته ليموت بسلام ودعة. يا إلهي، حتى هذا التمني البسيط لا أعطاه! ترى أي سوء ارتكبته في حياتي لكي يصار إلى تعذيبي على هذه الشاكلة؟!".
بوح من دون مستمعين
والحال أن ثمة باحثين كثراً انكبوا باكراً وحتى قبل رحيل فيردي على جمع مئات الأوراق التي كان يدون عليها بين فترة وفترة ملاحظات وتعليقات من هذا النوع. وهي غالباً ما كانت تتسم بتساؤلات حول شؤون كانت تبعث فيه الاضطراب وإذ يعجز عن استجلاء أبعادها أو ضرورتها لحياته، كان يرميها حبراً على الورق من دون أن يبدو في حياته العامة أنه يشكو الأمر لشخص معين. ومن هنا كان فيردي الميال إلى الانطواء مكتفياً بريشته وأوراقه رفاقاً يبثها شكاواه ويحتج في حضرتها على ما كان يبدو له حملاً ثقيلاً يرهق كاهله، لكنه في الحقيقة من النوع الذي يعتبره آخرون أمنيات تسير خطاهم على درب الصعود الفني والاجتماعي. كان يبث كل ذلك على الورق وهو يمارس حياته الطبيعية، مشعراً الآخرين بأنه إنما يعيش أجمل حياة في أعظم العوالم الممكنة. من ثم كان الناس ولا سيما المحيطون به من أهله وخلصائه يعتبرونه سعيداً في حياته. أما هو فلسوف تكشف أوراقه عن أنه لم يكن على تلك السعادة بل كان دائم القلق من دون أن يشكو. ودائم الحزن حتى وهو يبتسم محاطاً بجمهرة كبيرة من أهله ورفاقه.
قلق في الحياة الداخلية
والحال أن فيردي لم يعش تلك "الازدواجية" فقط في السنوات الأخيرة من حياته، بل إننا نجده باكراً منذ عام 1854 يكتب وهو في باريس في نوع من القلق حول مسائل تتعلق بمستقبله الفني: "هل تراني سأكتب للاسكالا؟ لا وألف لا، لن أكتب لها، ولكني لو سئلت عن السبب في ذلك لم يكن من السهل عليَّ أن آتي بجواب، فقد يمكنني أن أعزو السبب إلى قلة رغبتي في أن أكتب أو إلى ترددي في توقيع أي عقد، كما يستخلص كثر. وليس السبب بالطبع كثرة التزاماتي التي ستشغل وقتي وتستنفد طاقتي حتى عام 1956. والسبب هنا بسيط. ففي الواقع ليس في برنامجي ما سيشغلني سوى تلك الأوبرا التي أكتبها الآن بالفعل، ولكن ليس كذلك، وكما يزعم آخرون بسبب رغبتي في أن أستقر هنا (في باريس حيث كتب هذا النص). أستقر في باريس؟ لماذا؟ لأي سبب، أفي سبيل المجد؟ مستحيل! في سبيل المال؟ لا أعتقد، فأنا في إيطاليا أجني من المال أضعافاً مضاعفة. بل لو أنني أردت ذلك فعلاً لما قدرت عليه. فأنا موله بصحرائي وسمائي، ولست من النوع الذي يمكنه أن ينحني بغية الحصول على مكسب أمام أي دوق أو كونت أو مركيز... لا لن أنحني أمام أحد...".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
أوبرا فاغنر التافهة
وبعد دزينة من السنوات نرى فيردي يقول في رسالة يبعث بها إلى بعض أصدقائه يعلق فيها على تقديم حضره لمسرحية منافسه الرئيس في فن الأوبرا ريتشارد فاغنر "لو هانغرين": "انطباعي المباشر عن هذه الأوبرا خلاصته أنها تافهة. موسيقاها تبدو جميلة فقط حين تكون واضحة ومشغولة بصياغة مضبوطة. أما الحركة فيها فتتسم ببطء يغمر النص كله. ومن هنا الضجر الذي يحسه المرء وهو يشاهدها. في المقابل لا بد من الاعتراف بأن التوزيع الموسيقي فيها لافت للنظر. ومع ذلك فإن النتيجة النهائية تؤكد أن العمل ثقيل، فيه قدر كبير من النسغ لكنه يفتقر إلى أي قدر من الرهافة. بشكل عام يمكننا أن نقول إن هذه الأوبرا سيئة في المقاطع الأكثر صعوبة من مقاطعها"، لكن فيردي لم يكن ناقداً لفاغنر وحده، بل كان ناقداً لعمله هو نفسه وربما بشكل يبدو في ظاهره أشد حدة، لكنه في باطنه يتسم بقدر كبير من الحس التبريري. وهكذا مثلاً نراه يكتب في رسالة بعث بها إلى ناشره "ريكوردي" في عام 1875 يقول "تتكلم عن النتائج؟ عن أية نتائج؟ إذاً فلنتكلم بعض الشيء عنها: فبعد ربع قرن من الغياب لا شك أنني أستأهل أن يصفر لي جمهور (لا سكالا) عند نهاية تقديم الفصل الأول من (قوة الأقدار). والحال أنني بعد (عايدة) كنت عرضة لكثير من ضروب الافتراء الذي لا ينتهي. فقيل مثلاً إنني لم أعد ذلك الفيردي الذي لحن (الحفل المقنع) (وتحديداً نفس ذلك "الحفل المقنع" الذي قوبل بقدر هائل من صفير الاستهجان في لا سكالا نفسها). وقيل إن كل شيء في (عايدة) كان قبيحاً باستثناء الفصل الرابع، وقيل إن هذا العمل قد كشف كم أنني لا أعرف أن ألحن للمغنين، وإن الفصلين الثاني والرابع يحتويان وحدهما ألحاناً يمكن التهاون معها (ولا شيء في الفصل الثالث!)، وإنني لم أكن في نهاية الأمر أكثر من مقلد لفاغنر! ويا لها من نتيجة رائعة بعد 35 عاماً من المسار المهني! يا لبؤسي إذ لم أعد أعتبر سوى مقلد!...".
معارك مؤلمة على رغم الانتصار
وفي الـ15 من فبراير (شباط) 1883 وإذ وصل إليه نبأ موت فاغنر نراه يكتب بيد مرتعشة: "يا للحزن! يا للحزن! يا للحزن! لقد مات فاغنر! أمس حين بلغني النبأ شعرت بأن ثمة، إن جاز لي القول، صاعقة ضربتني. ليس ثمة أدنى شك في أن الراحل كان رجلاً عظيماً!". وبعد ذلك بعام نراه يكتب في موضوع آخر تماماً: "يا لبؤسهم كل أولئك الفنانين الذين يتصفون بود لا يمنعهم من أن يكونوا حسودين. وهم عادة ما يكونون عبيداً لجمهور يتصف من ناحيته بالجهل المطبق (لحسن حظهم)، جمهور ذي نزوات وجائر في أحكامه. وإنني لأضحك حين أتذكر أنني أنا كانت لي بدوري لحظات ضعف مخجلة. كان ذلك حين بلغت الـ25، بيد أن تلك اللحظات كانت سريعة قصيرة وعابرة. فأنا بعد ذلك بعام واحد أدركت أن العصابة السوداء التي كانت تعميني قد سقطت، وحين احتككت لاحقاً بالجمهور تسلحت بدروع سميكة وحضرت نفسي لطلقات البنادق. فالواقع أنني منذ ذلك الحين رحت أخوض كثيراً من المعارك والصراعات. معارك لم تكن من بينها معركة ترضيني حتى ولو شعرت بأنني أخرج منها مكللاً بالانتصار!".