ملخص
في عام 1932 ظهرت أول مطبعة رسمية باللغتين الفرنسية والعربية في الجزائر تستخدم الحروف الأبجدية المغاربية القديمة لخدمة الاستعمار.
عرفت عملية طبع الكتب ونشرها في الجزائر بطئاً كبيراً بسبب تأخر ظهور آلات الطباعة، مما أثر سلباً في الواقع الثقافي وعطل نشر منتجات الحياة الفكرية المعبرة عن التحضر الاجتماعي، بسبب الهيمنة الاستعمارية على الحياة العلمية لعقود طويلة.
ولم تكن المطابع العربية في الجزائر كافية لمواكبة حركة التأليف النشطة، بداية من العقد الأول من القرن الـ20، لعجزها المادي وعراقيل السلطة الاستعمارية التي ما فتئت تضايقها.
احتكار فرنسي
وعمد الاستعمار الفرنسي منذ دخوله إلى الجزائر في عام 1830 إلى احتكار المطابع وحركة الطباعة والنشر، ففي عام 1932 ظهرت أول مطبعة رسمية باللغتين الفرنسية والعربية، تستخدم الحروف الأبجدية المغاربية القديمة، لخدمة الأهداف الاستعمارية الهدامة للدين واللغة العربية، وتعليم المستعمرين لغة الجزائريين حتى يتمكنوا من التواصل معهم، وإصدار النشريات والجرائد لتضليل الوعي الوطني وتزييف الحقائق والدعاية إلى المشاريع الاستعمارية، إضافة إلى إصدار الكتب والمعاجم.
وسرعان ما انتشرت المطابع الرسمية والخاصة الفرنسية في معظم المدن الجزائرية الكبرى، فظهرت مطبعة "براشيه وباستيد" عام 1833 وتكفلت بطبع كتب مدرسية موجهة إلى تعليم اللغة العربية الفصحى والدارجة الجزائرية.
ثم ظهرت مطابع أخرى على غرار مطبعة "بودري بورغي" عام 1853 ومطبعة "بروسبير روادو" عام 1953 ومطبعة "بودري" عام 1866، كما خرجت إلى النور في مدينة وهران (غرب الجزائر) أيضاً مطبعة "هاينز" منذ عام 1875 وأصبحت من أشهر المطابع.
وخلال الفترة بين 1871 و1880 ظهرت مطبعة "لوميرسييه" التي تخصصت في طبع الكتب العسكرية، لتتكاثر بعد ذلك المطابع - عهد الجمهورية الثالثة - فكانت مطبعة "فونتانة" و"أمبير" و"غيشين"، وأخرى مخصصة للغة العربية مثل "القبطان" و"سارلين".
ورافق هذه المطابع إنشاء مكتبات لنشر وتوزيع المؤلفات والكتب والمخطوطات، مثل مكتبتي "باكونيه" و"شارلو" التي نشرت كتباً لأدباء فرنسيين نشأوا في الجزائر أمثال ألبير كامو وروبلس، ومن المكتبات الناشرة (الطابعة) في وهران "روادو"، ومكتبة "لوفوك"، وفي قسنطينة "أرنولية"، وفي البليدة "موجان". وبحسب إحصاء أجري عام 1957، فإن عدد المطابع الفرنسية في الجزائر بلغ 280 مطبعة.
جهود مضنية
في المقابل، اقتصرت العملية لدى الجزائريين، آنذاك، على جهود النسخ الجماعي كوسيلة لنشر أكبر عدد من الكتب والمؤلفات، أي الاعتماد على جهد النساخين لنسخ المخطوط وكان ذلك يتطلب وقتاً وجهداً كبيرين.
وبعد 70 عاماً من الاحتكار الفرنسي للمطابع وحركة الطباعة والنشر، ظهرت أول مطبعة جزائرية في أواخر القرن الـ19، ثم تلتها مطابع أخرى عديدة، وكانت جميعها تحت رقابة الاستعمار، ووجدت المؤلفات الجزائرية طريقها إلى الظهور، مستفيدة من التحول الحضاري الذي عرفته الدول العربية مع بداية عصر النهضة.
وعلى رغم أن الجزائر في هذه المرحلة كانت خاضعة للاحتلال الفرنسي، فإن حركة النشر شهدت نمواً بداية من مطلع القرن الـ20، بظهور الصحف والاعتماد على المطابع الفرنسية إلى جانب المطابع العربية في الدول المجاورة.
وبحسب بحث أكاديمي بعنوان "تاريخ طباعة المصحف في الجزائر"، يتفق معظم المؤرخين أن "الجزائر لم تشهد مطبعة متخصصة في طبع الكتب إلا في نهاية القرن الـ19، فقد كانت معظم الكتب في العهد العثماني والفترة الأولى من الاحتلال الفرنسي تتسرب إلى الجزائر من مصر ودول المشرق العربي".
وكان القناصل الفرنسيون يتعاملون مع تجار الكتب في المشرق العربي من أجل تحسين صورة بلادهم في الشرق الأوسط، كما كان المستشرقون الفرنسيون بالجزائر في حاجة إلى معرفة ما يكتب في مصر وبلاد الشام والحجاز.
وفي 1895 أسست أول مطبعة جزائرية على يد رودوسي قدور بن مراد، التركي الأصل، تخصصت في نشر التراث العربي والإسلامي وطباعة المصحف الشريف، قبل أن تغير اسمها وصارت تعرف باسم "المطبعة الثعالبية" نسبة إلى شيخ علماء الجزائر عبدالرحمن الثعالبي (1385-1471).
وقيل أيضاً إن تسمية مطبعة "الأخوين رودوسي" بالمطبعة "الثعالبية" نسبة إلى الخط الثعالبي الذي كانت تستعمله في الطباعة، إذ بدأت كمكتبة لبيع الكتب بالحي القديم (حي القصبة حالياً)، وصارت أول مكتبة تشرع في استيراد الكتب الشرقية من مصر، وأدخلت إلى الوطن كثيراً من كتب التفسير والحديث والفقه واللغة، ولها فهرسة سنوية تعرض فيها كتبها بخاصة الشرقية منها.
أول مطبعة
بحسب المراجع التاريخية فإن نشاط المطبعة الثعالبية كان ملحوظاً في نشر المؤلفات والكتب الفقهية واللغوية، من بينها طباعتها متن "مختصر خليل" في الفقه المالكي عام 1903، وكتاب "البستان في ذكر الأولياء والعلماء بتلمسان" لابن مريم طبع عام 1908، ومتن العاصمية لابن عاصم الغرناطي عام 1909، وكتاب "منار الإشراف على فضل عصاة الإشراف ومواليهم من الأطراف" لصاحبه الأديب الشيخ عاشور الخنقي عام 1914، وكتاب "إيقاظ الوسنان في العمل بالحديث والقرآن" للشيخ محمد بن علي السنوسي طبع عام 1914، وكتاب في التراجم يحمل عنوان "تعطير الأكوان في شذا نفحات أهل العرفان" لمؤلفه محمد بن الصغير بن الحاج المختار عام 1916 وغيرها من الكتب.
وعمدت مطبعة رودوسي إلى وضع فهارس لمطبوعاتها، وصل عددها إلى 30 فهرساً، مما يدل على حركية العمل المطبعي والتأليفي الذي كانت تشهده الجزائر مطلع القرن الـ20 على رغم الحصار الذي فرضه الاستعمار على انتشار اللغة العربية.
ويقول المؤرخ الجزائري الراحل أبو القاسم سعد الله في إبرازه دور الأخوين رودوسي ومطبعتهما ومكتبتهما الأدبية في التاريخ الثقافي للجزائر "كان رودوسي مراد وقدور من سكان جزيرة رودس، ويتاجران في الكتب مع لبنان ومصر وغيرهما، وربطا علاقات مع السلطات الفرنسية في تجارة الكتب من المشرق، وسمح لهما في عهد غول كامبون بالاستقرار في الجزائر والمتاجرة في الكتب، لا سيما الاستيراد وبعد استقرارهما أنشآ مطبعة وفتحا مكتبة.
وتخصصت المطبعة بالتدرج في الكتب الدينية وكذلك المصحف الشريف، وفتحت فرنسا لهما الطريق إلى أفريقيا أيضاً، فراجت كتب المطبعة الثعالبية في غرب أفريقيا والمستعمرات الفرنسية الأخرى، كما اشتهرت في تونس والمغرب الأقصى، واختص رودوسي بحروف خاصة يطبع بها المصحف الشريف وغيره، مثل تفسير القرآن للثعالبي. وكشف الرموز لابن حمادوش، والكنز المكنون في الشعر الملحون، وبعض التراجم والأعمال الفقهية والغالب أن الخطاط لهذه الأعمال هو الشيخ السفطي".
حركية فكرية
ونشطت حركة الطباعة والنشر في الجزائر منذ 1920، ولعل الأمر كان في سياق النهضة الفكرية العربية في هذا الوقت، وانتشار الوعي السياسي عموماً، وقد ظهرت عديد من المطابع الجزائرية التي كانت غايتها الأولى هي طباعة الصحف والجرائد، ثم طباعة الكتب، ومن أبرز المطابع "النجاح" وأسسها عبدالحفيظ بن الهاشمي ومامي إسماعيل في قسنطينة عام 1919، وكانت تطبع الصحيفة الأسبوعية "النجاح" التي صارت صحيفة يومية، والمطبعة الجزائرية الإسلامية التي أسسها الشيخ عبدالحميد بن باديس في قسنطينة عام 1920 وكانت تطبع صحف "جمعية العلماء المسلمين" مثل المنتقد والشهاب والبصائر.
وأسس أبو اليقظان "المطبعة العربية" بالجزائر العاصمة عام 1931، التي اهتمت بنشر الكتب ذات الاتجاه الوطني والإصلاحي، فطبعت بعض مؤلفاته ومؤلفات أحمد توفيق المدني، مثل كتاب محمد عثمان باشا داي الجزائر.
وأسهمت هذه المطبعة في نشر صحف وجرائد وكتب عدة، كان لها الأثر الكبير في إيصال العلم والثقافة إلى عموم الشعب الجزائري، فضلاً عن أن الشيخ أبا اليقظان جعل مقر المطبعة ملتقى لرجال الفكر والثقافة والإصلاح، يجتمعون فيه لنقاش المسائل التي كانت تواجههم لمحاربة الوضع الاستعماري الذي كانت تشهده البلاد.
وبعد استقلال الجزائر عام 1962 أسست "الشركة الوطنية للنشر والتوزيع" وهي بمثابة انطلاقة رسمية لصناعة الكتاب الجزائري المطبوع، بعد تضحيات كبيرة من أجل الحفاظ على الهوية الوطنية ومواجهة مخططات التغريب التي مارسها الاستعمار الفرنسي على الشعب الجزائري طوال عقود طويلة.