في بلاد الأندلس عام 936م ولد ونما الطفل "خلف" لأبيه ابن العباس، الفنان الذي يعمل في النقوش الخشبية بمهارة فائقة في قصر الخليفة في مدينة الزهراء، وقد كان والده يعده لأن يخلفه في هذه المهنة، لا سيما أنه تعلمها بشكل جيد من مساعدي أبيه ومن أبيه بشكل شخصي.
ذات يوم مشمس من أيام الأندلس، فاجأ خلف أباه وكان قد بلغ الـ20 من العمر قائلاً بهدوء "أبي أريد أن أتعلم الطب، على يد صديقك الطبيب عيسى ابن إسحاق".
فقال له العباس: "ماذا؟ الطب طريقه صعب يا بني، وخطأه يعني الموت أو العاهة"، وأردف "الخطأ في نقش الحجر أهون كثيراً يا بني".
كانت أم خلف وأخته جالستين تسمعان حوارهما، فقالت الأم لزوجها عباس "لقد فزع خلف حين ماتت جارتنا وهي تضع وليدها، وعجزت القابلة عن إنقاذه وإنقاذها".
هنا قال العباس لخلف "الهذا السبب تفكر أن تكون طبيباً، أتظن أنك لو صرت طبيباً ستنقذ الجنين وأمه، الأطباء يا بني يتركون ذلك للقابلات، مثلما يتركون الجراحات للحجامين". فقال خلف بعزم أقلق أباه "ذلك هو خطأهم يا أبي، وحين أصير طبيباً سأفعل بيدي النقاش هاتين ما يهرب الأطباء من فعله، وما يتركونه للقابلات والحجامين، إنني لم أترفع على الحجر فكيف أترفع على أجساد الناس وحياة الناس. الدين يا أبي طب الأرواح، والطب يا أبي حياة الأبدان، أما النقش فلا يزيد على كونه زينة للجدران".
فرح عيسى بقدوم خلف إليه ليدرس الطب على يديه، وسأله أن يتجول في "البيمارستان" (المستشفى) ويرى أحوال المرضى وآلامهم فربما يعدل عن رأيه، غير أن خلف حين عاد إليه بعد جولة واسعة في كل الأرجاء، أكد له أن أنين المتألمين هو ما يدفعه إلى إكمال هذا المشوار في دراسته الطب والطبابة.
طوال سنوات عرف خلف من أطباء بيمارستان قرطبة كثيراً من المعارف الطبية والكيماوية، عن الأعشاب وآثارها في الشفاء، وعن الأدوية المفردة والمركبة المتخذة من النباتات والمعادن والأحجار وأجزاء الحيوان، وعرف كثيراً عن طب جالينوس وأبقراط وديسقورديدس وابن سينا والرازي، وعرف كيف ومتى يجرب الدواء في الحيوان قبل استخدامه في علاج الإنسان.
أتيحت الفرصة أخيراً لخلف ليقرن العلم بالعمل فمارس التشخيص والعلاج مع أطباء "البيمارستان"، وصار فيهما ماهراً وبالدواء خبيراً، وحريصاً على التدرج في العلاج، من الغذاء إلى الأدوية المنفردة إلى الأدوية المركبة.
وحان الوقت لمنح خلف إجازة الممارسة للطب في مجلس حاشد، كان على رأسه المحتسب، وردد خلف وراءه قسم أبقراط "برئت من قابض أنفس الحكماء... إن خبأت نصحاً، أو بذلت ضراً، أو قدمت ما يقل عمله، إذا عرفت ما يعظم نفعه... والله شاهد عليَّ".
ابن حزم الأندلسي يعرف بأبو الكاسيس
عاش الزهراوي في القرن الـ10 الميلادي، وفي القرون التسعة التالية شاعت معارف الجراحة الزهراوية، وصارت طرائق الزهراوي الجراحية معروفة عند كل أطباء أوروبا باسم "الزهراوية في الجراحة"، وذلك في الجامعات والمستشفيات.
كتب الأوروبيون اسم الزهراوي ونطقوه بطرق شتى، فهو: البلكاسس، وأبو الكاسس، والسروي، وأكرراني، وزاهرفيوس، والكرافي، والزهراوي.
ولعل أول إشارة وردت عنه إنما جاءت من طريق العلامة الأندلسي الشهير، ابن حزم (994-1064)، الذي رأى الزهراوي في أخريات حياته شيخاً كبيراً، ولاحظ عبقريته الطبية، وأدرك كيف ينظر إليه بوصفه أحد أبرز أعلام الأندلس في عصره وفي مجاله الطبي تحديداً.
أما الطبيب والمؤرخ المسلم ابن أبي أصيبعة (1203-1270) فقال عن الزهراوي "إنه كان طبيباً فاضلاً خبيراً بالأدوية المفردة والمركبة، جيد العلاج، وله تصانيف مشهورة في صناعة الطب، وأفضلها كتابه الكبير المعروف بالجراحة للزهراوي"، ويضيف "لخلف بن عباس الزهراوي من الكتب الكثير، وفي القلب منها (التصريف لمن عجز عن التأليف)، وهو أكبر تصانيفه وأشهرها، وهو كتاب تام في معناه"، ووصفه المفكر والكاتب الفرنسي غوستاف لوبون بأنه "أشهر جراحي العرب". ووصف عملية سحق الحصاة في المثانة على الخصوص، فغدت من اختراعات العصر الحاضر.
لم يكن الزهراوي طبيباً جراحاً ماهراً فحسب، ولكنه كان صاحب دراية واسعة بالفكر والأدب والفلسفة، مما يعني أنه صدق فيه الوصف القديم للطبيب، أي "الحكيم"، ولم يكن بعيداً من مسارات السياسة ومساقات الحكم.
عرف عن الزهراوي أنه كان طبيباً لعبدالرحمن الثالث المعروف بالناصر، ثم طبيباً لابنه الحكم الثاني المستنصر.
سار على درب الزهراوي عديد من الجراحين الأوروبيين، حتى إنهم في بعض الأحيان انتحلوا بعض اكتشافاته من دون ذكر اسمه كمصدر أولي، إضافة إلى كونه رائد الجراحة الحديثة، كان أبو القاسم معلماً عظيماً، فكان لنصوصه الطبية دور كبير في تشكيل العمليات الجراحية الأوروبية حتى عصر النهضة وما بعده.
ماذا عن علاقة الزهراوي بالجراحة بوجه خاص؟
التشريح... مدخل الطبيب النطاسي
خبر الزهراوي حال الجراحة في عهده، التي كانت تتعاطى مع ما هو سطحي فقط، وتقصر عن الدخول إلى الجسد، لا سيما وأنه لم تكن هناك بعد أدوات جراحية، إلا من الذهب والفضة، أي من المواد التي لا تصدأ.
قضى الزهراوي شاباً أشهراً وليالي ساهراً تحت قنديل مضاء، يدرس من جديد كل ما يتصل بالجراحة والأحوال التي تحتاج فيها الأمراض للجراحات، وطرق إجرائها في ضوء ما يعرفه من معارف التشريح، وجغرافية العروق والأعصاب والأعضاء في الجسد البشري، ويقدر لها الآلات الجراحية اللازمة في كل جراحة، والمعدن الذي تتخذ منه هذه الآلات وتلك الأدوات.
كانت فلسفة الزهراوي الطبية تقوم على أن الطبيب الماهر لا يكون طبيباً إلا بعد معرفة تامة، ودراسة وافية لعلم التشريح، وهو يذهب إلى أن "صناعة الطب طويلة، وينبغي لصاحبها أن يرتاض قبل ذلك في علم التشريح... لأنه من لم يكن عالماً بما ذكرنا من التشريح، لم يخل أن يقع في خطأ يقتل الناس به".
كان اهتمامه بعلم التشريح ودراسته سبباً في الفتح الكبير الذي تحقق على يديه في علم الجراحة فضلاً عن اختراعاته الأدوات الجراحية، وكان من الغريب واللافت أن علم التشريح كان علماً محتقراً من قبله، فجاء الزهراوي ليغير الأوضاع ويبدل الطباع، ويكون من أوائل الأطباء الذين يجرون العمليات الجراحية بأيديهم، فقد كان من قبله يوكلون هذه المهمة لعبيدهم أو إمائهم.
لم يكن لقب "أبي الجراحة الحديثة" الذي لقب به الزهراوي من فراغ، فقد كان نتاجاً لمسيرة طويلة من الجد والكد والتعب وطرق أبواب التعلم هنا وهناك، إذ كان ذلك الطبيب القرطبي يؤمن بفكرة شمولية العلم، كأحد أسباب نجاح الطبيب، وأن تلقي القدر الكافي من العلوم عامة مع التركيز على تخصص بعينه هو الدرب الأيسر نحو بلوغ الغاية وتحقيق الأهداف المنشودة.
خلال مسيرة ممتدة لأكثر من خمسة عقود كاملة نجح الزهراوي في إثراء الطب والجراحة بعشرات الاكتشافات والاختراعات، فهو أول من أقر ضرورة ربط الشرايين قبل إجراء أية عملية جراحية كالبتر وغيرها، وذلك منعاً لحدوث النزف، كما أنه أول من أدخل القطن في الاستخدامات الطبية.
شرح الزهراوي علم الجراحة، وابتكر طرقاً جديدة لها، امتد نجاحها فيما وراء حدود إسبانيا بكثير، وينسب له استخدام خيوط في الجراحة، وهي الخيوط التي تستعمل اليوم وثبت فاعليتها بصورة كبيرة بخاصة في الجراحات الداخلية لامتصاص الجسم لها، وكان الزهراوي يصنع تلك الخيوط من أمعاء القطط والكلاب ويستخدمها في جروح الأمعاء والمعدة.
ولعله من المدهش أن الزهراوي وقبل أكثر من 1000 عام، وجد طريقه إلى الجراحات التجميلية، فهو أول من استخدم الخيوط التجميلية تحت الجلد، وأول من استخدم خيوط الحرير في ربط الشرايين بعد الجراحة، وأدخل أوتار العود فيها، وابتكر الخياطة المثمنة، كما أنه أول من استعمل الخياطة بإبرتين وخيط واحد.
عن التصريف لمن عجز عن التأليف
لعل أعظم إرث فكري تركه الزهراوي هو موسوعته الطبية الخالدة المعنونة "التصريف لمن عجز عن التأليف"، التي تعتبر إحدى أهم موسوعات الطب القديم والحديث على حد سواء، بل يمكننا القطع أنها أنفذها تأثيراً وتفسيراً وحضوراً على موائد الطب والأطباء والباحثين على مدار أكثر من 1000 عام.
وللقارئ أن يتساءل كيف لهذا الفتى الرقيق الحال في طفولته أن يقدم على تأليف نحو 30 مجلداً جمع فيها العلوم الطبية والصيدلانية في زمانه، وشملت طب الأسنان والولادة.
احتوى كتاب الزهراوي العمدة هذا على وصف تشريحي وتصنيف لأعراض نحو 325 مرضاً وعلاجاتها، والجوانب المتعلقة بالجراحة والجراحات التجبيرية والصيدلة وغيرها، فإن المحتوى الأبرز للكتاب تمثل في الجراحة، وقد قال عنه ابن حزم الأندلسي "لئن قلنا إنه لم يؤلف في الطب، أجمع منه ولا أحسن للقول والعمل في الطبائع، لنصدقن".
هل لعب هذا الكتاب دوراً مهماً وحيوياً في الحياة الطبية في أوروبا القديمة؟
المؤكد أن ذلك كذلك قولاً وفعلاً، لا سيما بعد أن قام بترجمته إلى اللغة اللاتينية، أحد أهم المترجمين العلميين في مدينة طليطلة في الأندلس القديمة، وكان ذلك في القرن الـ12 الميلادي، وظل يستخدم لمدة خمسة قرون، كما كان مصدراً أساسياً للمعرفة الطبية، واستخدمه الأطباء والجراحون كمرجع لهم.
الكتاب يتألف من ثلاثة أبواب، وينقسم كل باب إلى 20 فصلاً فرعياً، ويغطي معظم مجالات الطب والصيدلة.
يستهل الزهراوي موسوعته بمقدمة تطرق فيها إلى علم التشريح الذي يراه النواة الأولى لبناء طبيب ماهر، ولا يمكن لأي طبيب أن يمتهن الطب دون دراسته، وفي هذا يقول في المقدمة "صناعة الطب طويلة، وينبغي لصاحبها أن يرتاض في ذلك قبل علم التشريح".
يقول العالم الأندلسي الكبير في مقدمة كتابه لأجيال الأطباء التي ستأتي من بعده في ما يشبه الخطاب التاريخي "هذا الكتاب ألفته لكم، وجعلته مقصوراً عليكم ولم أعدل به إلى سواكم، عظيم الفائدة، قريب المنفعة، وسميته كتاب التصريف لمن عجز عن التأليف، وذلك لكثرة تصرفه بين يدي الطبيب، وكثرة حاجته إليه في كل الأوقات، وليجد فيه من جميع الصفات ما يغنيه عن التأليف، فضمنت كتابي هذا كل ما خبرته واستحسنته في طول عمري منذ 60 سنة".
والثابت أن هذا الكتاب لم يكن المؤلف الوحيد للزهراوي، فقد أخرج عديداً من المؤلفات والرسائل الممتازة في عالم الطب والتشريح، وفي مجالات أخرى مثل طب العيون، وسوف يترك هو وعلماء المسلمين في الأندلس من بعده إرثاً كبيراً في طب العيون، ليصبح الأطباء الإسبان اليوم هم أفضل من يرجع المرء إليهم في هذا الفرع من الطبابة، كما كتب عن السمنة والرشاقة، ومن أبرز كتبه الأخرى، كتاب "نور العين" و"تفسير الأكيال والأوزان" و"المقالة في عمل اليد"، ومع ذلك ظلت موسوعته الخالدة هي الإنجاز الأكبر في مسيرته الممتدة قرابة ستة عقود.
أدوات الجراحة والصيدلة وطب الأسنان
لم تتوقف إبداعات الزهراوي عند الطب والطبابة وإن برع فيها، ذلك أنه عرف عنه مساهماته في علم "الإقربازين"، أو الصيدلة.
عاش الزهراوي رائداً مبدعاً كذلك في تحضير الأدوية باستخدام تقنيات التسامي والتقطير، ومن أعظم ما ترك للبشرية وليس للأندلسيين أو للأوروبيين فقط، كتابه الذي ترجم إلى اللاتينية تحت عنوان "Liber Servtoris"، الذي يعد كتاباً مرجعياً في سياق الأدوية والتركيبات الكيماوية، لا سيما أنه يمد القارئ بالوصفات والشرح لكيفية تحضير عينات من العقاقير المركبة.
ففي الباب الثالث من المقالة الـ28 من كتابه الشهير نقرأ كيفية صنع الحبوب (أقراص الدواء)، وطريقة صنع القالب الذي تصب فيه هذه الأقراص أو تحضر، مع طبع أسمائها عليها باستخدام لوح من الأبنوس أو العاج، مشقوق نصفين طولاً، ويحفر في كل وجه قدر غلظ نصف القرص، وينقش على قعر أحد الوجهين اسم القرص المراد صنعه مطبوعاً بشكل معكوس، فيكون النقش صحيحاً عند خروج الأقراص من قالبها، وذلك منعاً للغش في الأدوية، وإخضاعها للرقابة.
وللزهراوي أيضاً مساهمات واضحة ومهمة، بل قيمة أيضاً في عالم طب الأسنان، وجراحة الفكين، وقد أفرد لهذا التخصص فصلاً خاصاً به، شرح فيه كيفية خلع الأسنان بلطف، وبين أسباب كسور الفك أثناء الخلع، وطرق استخراج جذور الأضراس، وطرق تنظيف الأسنان، وعلاج كسور الفكين، والأضراس النابتة في غير مكانها، وبرع في تقويم الأسنان.
ومما قاله عن خلع الأسنان "ينبغي أن تعالج الضرس من وجعه بكل حيلة، ويتوانى عن خلعه إذ ليس منه خوف إذا خلع".
ابتكر الزهراوي أكثر من 200 أداة جراحية، وقد رسم تصاميمها بدقة في كتبه لمن أراد أن يصنعها... بعض هذه الأدوات لا تزال تستخدم إلى يومنا هذا، ومن أشهرها: الحقنة، وملقط التوليد، والإبرة والخيط الجراحي، واللاصق الطبي.
استعمل الزهراوي في علاجه آلات جراحية مبتكرة مثل العقاقة والمبرد والكلاليب، ومنها ما تدل ملامح بعضها على أنها أسلاك بدائية للأدوات الحديثة المستخدمة الآن، منها مشرط بتر، ومقص لا يصدأ للخيوط الجراحية، ومشرط مفصل الركبة، ومشرطان مطليان بالنيكل، ومشرط صغير لشق الجروح، وكلاب، وماسك، ومبعدة ذاتية لإبقاء جانبي الجرح مفتوحين أثناء العملية الجراحية.
كما أن له ابتكارات أخرى ينهجها الجراحون إلى اليوم، مثل استخدام الحبر لتحديد موضع الشف على جسم المريض قبل الجراحة.
الولادة بين الزهراوي وطرق جالينوس
في المقدمة أشرنا إلى أن الزهراوي قد وقر لديه أهمية الطب والطبيب، لا سيما بعد أن توفيت جارته التي عجزت القابلات عن توليدها، ولهذا يتساءل المرء: هل كان للرجل أن يهمل هذا الفرع من فروع الطب، أي التوليد، حتى مع وجود القابلات؟
المؤكد أن الزهراوي هو أول من توسع في مجال البحث الخاص بعلم التوليد، وطرق تدبير الولادات العسيرة، وكيفية إخراج المشيمة الملتصقة، والحمل خارج الرحم، والجنين الميت، كما أنه أول من استعمل آلات خاصة لتوسيع عنق الرحم.
في الباب الثاني من مؤلفه "التصريف لمن عجز عن التأليف"، يتناول الزهراوي قبل 1000 عام، أورام السرطانات لا سيما تلك التي تصيب النساء، وتوسع في شرح أمراض النساء والولادة، وينسب له اختراع الملقط لإخراج رأس الجنين من الرحم، كما تحدث عما سمي "العلاج العام" ويقصد به جراحة البطن والأمعاء وخياطتها وأدوات الخياطة المستخدمة، وفي هذا قال في كتابه "وقد يمكن أن يخاط الأمعاء أيضاً بالخيط الرقيق الذي يسل من مصران الحيوان اللاصق به".
وربما يدهش القارئ حين يدرك كيف أن الزهراوي وصف قبل 1000 عام وصفاً دقيقاً "جفت" الولادة وكان هو من ابتكره، ناهيك بالمنظار المهبلي المستخدم حالياً في الفحص النسائي.
حلم الزهراوي ثلاثة أحلام وقام على تنفيذها في حياته:
أما الأول منها فهو تدريب القابلات على إنقاذ الأمهات والأجنة إلى حين وصول الأطباء، ويروى أنه كان يقف خلف ستار خفيف، ويعطي إرشاداته المناسبة للقابلات في تدبير حالات الولادة العسيرة، كما روي عنه أنه كان ينص بوضع مرآة تحت مقعدة المرأة ليرى كل شيء على هيئته.
أما الحلم الثاني فتعلق بتدريب ممرضات ماهرات حاذقات، يقدرن على مساعدة الأطباء، وبذلك يكون سابقاً لأشهر ممرضة في العالم الحديث الإنجليزية فلورنس نايتنغيل.
بينما الحلم الثالث كان موصولاً بتأليف موسوعته عن الطب، وقد وفى بهذا الحلم بالفعل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الطبيب الزاهد والعالم الناسك المبدع
يدهش المرء حين يتعمق في شخصية الزهراوي، لا سيما بعد أن يقرأ عنه ما كتبه كبار المؤرخين الأوروبيين من أمثال المؤرخ الأميركي دونالد كامبل في كتابه عن "الطب العربي" إذ يقول "إن طرق الزهراوي ألغت طرق جالينوس (الطبيب الإغريقي الشهير)، وحافظت على مركز متميز في أوروبا لـ500 عام، كما ساعد على رفع مكانة الجراحة في أوروبا المسيحية".
أما المستشرق الفرنسي جاك ريسلر فيتحدث عن الزهراوي في كتاب "الحضارة الغربية" فيقول "كان الناس من جميع أنحاء العالم المسيحي يذهبون لإجراء العمليات الجراحية في قرطبة".
وعلى رغم المكانة العالية التي بلغها الزهراوي، فإنه عاش فقيراً على ما يبدو، متقشفاً، محباً لطلبة الطب وصنعته، واصفاً لهم في مقدمة كتابه الشهير بـ"أبنائه"، باذلاً وقته ومجهوده لمساعدة الفقراء والمرضى، ويبدو أنه كان على خلاف كثير من العلماء الذين اعتادوا أن يكونوا أدوات للسلاطين والحكام في ذلك الوقت، إذ اعتبر أن للعلم مكانة عالية رفيعة، وأن مكانة العالم تنتقص حال اعتبار العالم نفسه خادماً للسلطان وليس خادماً للإنسان.
ومن المدهش أن البحث العميق عن هذا العالم يكشف لنا عن مخترعات عديدة في حياته، فهو على سبيل المثال يعد أول رائد لفكرة الطباعة في العالم، فقد خطا الخطوة الأولى في صناعة الطباعة، وسبق بها الألماني يوحنا غوتنبرغ بعدة قرون، وقد سجل الزهراوي فكرته عن الطباعة ونفذها في المقالة الـ28 من كتابه "التصريف".
ولعل التساؤل الهم هو: هل كانت البيئة العلمية التي نشأ فيها الزهراوي دافعاً له للتفوق والتميز في مجالاته المتعددة والمتنوعة، لا سيما في علوم الطب والتشريح؟
المؤكد أن الأمر بالفعل كان على هذا النحو، فقد نشأ الزهراوي في بيئة تولي اهتماماً شديداً بالعلم والتفكير وتنمية العقل، وهي الفترة التي كانت فيها الحضارة الإسلامية في أوج تطورها، فمدينة قرطبة وحدها كان بها 50 مستشفى، و70 مكتبة، كما كانت مدارسها من أعظم المدارس في العالم في مختلف المجالات، مما جعلها تستقطب طلاب العلم من مختلف أنحاء العالم، ما يقطع بأن الإنسان ابن بيئته وهكذا كان الزهراوي ابن الأندلس.