الروائي السنغالي الفرنكوفوني الشاب محمد مبوغار سار (1990)، والمتوج بجائزة غونكور لعام 2021 عن روايته "أكثر ذكريات الرجال سرية"، صدرت له في أمد قريب رواية "سقوط الجوقة" بالعربية عن "دار سؤال" وبترجمة الشاعر بهاء إيعالي، وكانت لها أصداء واسعة في الأوساط الغربية المعنية بهجرة الوافدين إليها عبر البحر والبر. وغالب الظن أن فصول هذه المأساة لا تزال تتوالى إلى يومنا هذا، ما دامت ظواهر الفساد والتمييز والتخلف والنزاعات الداخلية سائدة في أفريقيا وبلاد المشرق العربي إلى حين كتابة هذه السطور.
تحكي الرواية الواقعة في 463 صفحة من القطع الوسط و64 مشهداً مغامرة 72 رجلاً من بلدان أفريقية مختلفة، الغابون والسنغال ونيجيريا وغانا ومالي، لعبور البحر بطريقة غير شرعية من سواحل طرابلس الغرب (ليبيا) إلى شواطئ صقلية في إيطاليا، هرباً من جحيم بلدانهم إلى نعيم أوروبا على ما كانوا يحلمون.
وعلى ذمة الراوي ويدعى جوغوي سن، وهو مهاجر سابق والناجي الوحيد من هجرة سابقة والمقيم في إحدى مدن ساحل صقلية الشرقي، تحط رحلة هؤلاء المهاجرين الـ 72 في مدينة صغيرة تدعى آلتينو ذات يوم من أيام القرن الـ 21 لتبدأ مغامرتهم الثانية والأشد ضراوة من البقاء على قيد الحياة وسط الأمواج العاتية.
عقدة الحكاية
بيد أن حكاية الرواية لا تكاد تقف عند هذا الحد، إذ يتحول نزول هؤلاء المهاجرين الأفارقة في بلدة آلتينو الساحلية سبباً إضافيا لنزاع أهلي بين جماعة مرحبة بالمهاجرين، عمادها الكاهن الأعمى أميديو بونيانو وسابرينا والأخت ماريا والدكتور بيسوتو ومساعداه الشابان جياني ولوسيا وكارلا رئيسة "جمعية سانتا مارتا" والساعية إلى مساعدة المهاجرين على الإقامة في البلدة، والحصول على أوراق تخولهم العمل والتنقل والاندماج تالياً في نسيج المجتمع الإيطالي، ونسيان ما عانوه في سبيل هذه المرحلة.
وفي المقابل أحدث مجيء اللاجئين رداً سلبياً لدى جمهرة من معارضي وصول الأجانب إلى البلدة، وقد ترأس هذا التوجه المعارض الشخصية الراعدة "موريزيو مانجيالبيري، يعينه رجاله وكثير من أرباب السلطة من مثل المرشح لرئاسة البلدية ومتنفذون آخرون من الاتجاه نفسه لا يرغبون في تشويه الانسجام القائم في مجتمعاتهم المكتفية بذاتها، والمنضوية في مشاريع التقدم والرفاهية التي لا تني البورجوازية الإيطالية تدعو إلى تحقيقها في منابرها.
ويظل الصراع قائماً بين الكاهن الأعمى والعجوز بونيانو صاحب الحس المسيحي الأصيل والناظر إلى اللاجئين الجدد على أنهم فرصة لتجديد المسيحيين في رعيته إيمانهم، باعتبار المهاجرين إخوة للمسيح بحسب التطويبات، والعمل على إعانتهم على الاندماج في البيئة الإيطالية، يعاونه كثير من فعاليات البلدة، وبين من يمثل النزعة المحافظة والحرص على روح المدينة ومصالح أبنائها الأصليين من أمثال فابيو كالكانيو وجماعته، وهؤلاء كانوا خططوا ليوقعوا بالمهاجرين فراحوا ينسبون إليهم كل أعمال السلب والسرقة والتعديات وحتى القتل، التي كانوا هم فاعليها، من أجل تجريدهم من حقوقهم ومنعهم من الإقامة، وإعادة ترحيلهم إلى بلادهم التي كانت قد دفعتهم دفعاً إلى هجرتها طلباً لبعض الكرامة والحياة.
وإذ يتصاعد التوتر بين الفريقين وتتدخل الشرطة عبثاً لكبح جماح الأحداث، يقرر الفريق الثاني الأخذ بالثأر من المهاجرين المقيمين في مهجع كبير أشبه بالحظيرة، يقيناً منهم أنهم مسؤولون عن مقتل شقيق زعيمهم، ويكاد يحصل القتال المميت بين الطرفين لولا انفجار بركان إتنا المجاور لمدينة آلتينو وتهديده السكان بالموت المحتم.
شخصيات وخطابات
في هذه الرواية تتعدد نقاط الجذب والاهتمام، ويتجاوز بها الكاتب مجرد سرد واقعة درامية جرت فعلاً أو أمكن له تخيلها، وأحكم صدقيتها إلى جعلها معرضاً لشخصيات نموذجية حملها قدراً من الرموز والقيم والتأملات في الحياة المعاصرة، وصلات المهاجرين بالغرب وصورة الغرب عن نفسه وصوره عن الشعوب الأخرى، ولا سيما تلك التي كانت مستعمرات له لعقود خلت.
ومن تلك الشخصيات جوغوي سن السنغالي الأصل والمهاجر الأسبق إلى مدينة آلتينو والناجي الوحيد في موجة هجرة سابقة، والمترجم المعتمد لدى المدينة للمهاجرين الأفارقة الذين يتحدث لغتهم.
ثم إن الفضل يعود لجوغوي في أنه تقصى مغامرات الوافدين الجدد إلى الجزيرة، وكان أدرك في قرارته طعم الانتظار المرّ، انتظار أن يحظى بموافقة السلطات الرسمية انضمامه الرسمي في حياة المدينة الاجتماعية، ولكنه لا يقل عن إخوانه شعوراً بالخزي حيال بؤسهم ورغباتهم، وفي الاندماج السريع وتعلم اللغة الإيطالية، ومساهمتهم الفاعلة في الأنشطة التي تنظمها البلدية مثل لعبة كرة القدم وانتصارهم فيها.
ولئن سجل جوغوي عثرات إخوانه في مجتمع غير مرحب بهم بالأساس، وآلامهم الشخصية وشوقهم القاتل لذويهم في غربتهم الأليمة، فإنه من دون تفاصيل حياة أخرى ممكنة كان فيها الاندماج ناجحاً وبناء العلاقات الإنسانية بين الجماعات المختلفة عرقاً وثقافة وديناً، موفقاً ومثمراً وواعداً على نحو ما خبره كثير من المهاجرين حديثاً، على ما شاءه المؤلف محمد مبوغار سار.
ومن الشخصيات البارزة أيضاً الكاهن الأعمى أميديو بونيانو الذي سبقت الإشارة إليه، والذي يمثل برأي الكاتب وجهة نظر الكنيسة الكاثوليكية الرسمية حول المهاجرين، والتي تدعو إلى مؤازرتهم في كل حين وتيسير إقامتهم حيثما حلوا، على رغم طابع هجرتهم غير الشرعي، عملاً بتعاليم المسيحية لنصرة الفقراء وتوفير حاجاتهم الأساس، ريثما تجد السلطات الرسمية لهم حلاً.
ولا يدع الكاتب مناسبة إلا ويؤكد فيها أن الكاهن أرسى بتعاليمه وأفعاله توجهاً فعالاً له مريدوه، وملتزمون بخطه كما بين الكاتب.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كذلك يجد القراء نموذج الشاعر جيوزيبي فونتانيي والمنعزل في صمت شرس والمؤيد لاتجاه الانفتاح على المهاجرين وإعانة الكاهن في مسعاه، ولا يغيّب المؤلف الإشارة إلى مسألة الكتابة ولزوم العناية بالمعاني الإنسانية والتزام الصمت حين تصير الكتابة مجرد موضة إذ يقول "توقفت عن الكتابة لأنه تكون لدي انطباع بأن كل الناس يكتبون، وبالتالي ينبغي لفعل الكتابة أن يتجدد، أما التجديد وتجاوز الصمت فيعني أن ندخل فيها (الكتابة) الحاضر بآلامه ومظاهر عنفه وتناقضاته، وليس غريباً على هذا الشاعر وفقاً لمنطقه أن يتجاوز صمته ويمضي إلى مؤازرة الفريق المسيحي في تصديه للفريق الآخر بزعامة موريزيو مانجيالبيري، اليميني والساعي إلى عرقلة كل جهود الفريق الأول، وطرد المهاجرين من الجزيرة، أياً يكن الثمن الذي سيدفعه المواطنون من أرواحهم ومصالحهم ومعنوياتهم، ولكن اللافت أن الكاتب في ما يظهره من آراء لهذه الشخصيات يميل إلى خطاب الكاهن بونيانو ومن يؤيده وتابع مسيرته الإنسانية والروحية في آن.
أصوات ووجهات نظر
وفي الرواية أيضاً وقفات أو فصول ستة تتعدد فيها الأصوات بحيث تتناوب على الظهور عبرها شخصيات فاعلة في الرواية، يبدي في خلالها كل منهم تصوره للأمور انطلاقاً من وجهة نظر معينة، وفي هذا الشأن يطل الراوي جوغوي سن ليروي بعضاً من سيرته وكيفية نجاته وحيداً من مركب كان يقل 60 من إخوانه الأفارقة المهاجرين بصورة غير شرعية، وكيف أنه أُنقذ وعُومل بعناية، وتعلم اللغة الإيطالية حتى صار جزءاً لا يتجزأ من مجتمع مدينة آلتينو، ويتولى ترجمة أقوال اللاجئين الجدد ممن حالفهم الحظ وبلغوا شواطئ صقلية أحياء، قادمين من السنغال ومالي والكونغو وتوغو والغابون، ويتكلمون اللغة السريرية ولغات أخرى.
ومن الأصوات التي تتوالى في الرواية لدى كل فصل، وعلى هيئة كراسة بلون غامق بحدود ثلاث إلى 10 صفحات، شهادة أحد الناجين، في الفصل الثالث، في 10 صفحات، وكيف أن شخصاً ليبياً يدعى عتاب كان المهرب الرئيس للاجئين لقي حتفه على يد أحدهم في طرابلس الغرب، لأسباب شتى منها استغلال أوضاع المهاجرين وابتزازهم مادياً.
ملحمة أم مأساة؟
ويمكن القول إن رواية مبوغار سار هي ملحمة تروي تحقق أحلام مهاجرين وخيبة آخرين في بحثهم عما يبلسم جراحهم، ويعيد لهم كرامتهم البشرية التي أهدرت في بلدانهم الأصلية، بعد أن أهدرت القوى المستعمرة بلادهم لأجيال خلت، وعلى هذا لن تكون صقلية سوى استعارة مكانية، وليس انفجار بركان إتنا، لحظة اندفاع الفريقين المتنازعين في مدينة آلتينو للتقاتل، سوى رمز لغضب الطبيعة الذي قد يأخذ في طريقه نزاعات البشر وطموحاتهم العبثية وأوهامهم الأيديولوجية وثاراتهم على حد سواء.
وفي إشارة أخيرة يجدر بنا التنويه بترجمة الرواية إلى العربية من قبل بهاء إيعالي، الذي أحسن مواكبة النبرات المتغيرة والمتصاعدة لأحداث الرواية والعلاقات المتوترة اطراداً في ما بين الشخصيات.