ملخص
منظومة السلطة في إيران باتت على سباق مع الزمن لترتيب أوراقها تحسباً لما قد تواجهه في المستقبل القريب أو البعيد، وإمكانية أن تفلت الأمور من يدها في حال تفجرت الصراعات حول خلافة المرشد بعد وفاته.
على مسافة أقل من ثلاثة أشهر للانتخابات البرلمانية الإيرانية المقررة مطلع مارس (آذار) 2024، تزداد حدة المعركة الانتخابية بين القوى السياسية لاستقطاب القواعد الشعبية وإقناعها بالمشاركة والحضور عند صناديق الاقتراع. ومنذ أشهر لم يدخر المرشد الأعلى جهداً لتأكيد ضرورة إجراء انتخابات حماسية ومشاركة شعبية واسعة تراعى فيها الضوابط السياسية والدينية والأخلاقية.
في الظاهر، هذه الأجواء والمواقف من المفترض أن تولد لدى المتلقي قناعة بأن الانتخابات ستشهد معركة حامية ومشاركة شعبية قد تفوق كل التوقعات، إلا أن التمنيات في جهة والوقائع والحقائق في جهة أخرى، لأن البون شاسع على ما يبدو بين ما يرغب فيه النظام وما هو قائم أو يمكن أن يسفر عنه واقع تعيشه إيران.
هناك قناعة عامة تسود جميع الأوساط الإيرانية السياسية والاجتماعية، المحافظة وغير المحافظة، وحتى الدولة العميقة بكل مفاصلها، أن الانتخابات المنتظرة لن تشهد مشاركة شعبية يمكن الرهان عليها، ولن تكون حتى بالمستوى الذي شهدته الانتخابات البرلمانية السابقة ولا الرئاسية التي أوصلت إبراهيم رئيسي إلى السلطة التنفيذية.
ومن غير المنطقي القول هنا إن النظام ومؤسساته والتيار المحافظ لا يدركون أن هذه الانتخابات ستجري داخل الفريق الواحد ومن دون أي منافسة من القوى الأخرى الإصلاحية أو المعتدلة أو المدنية، من ثم فإن الجهود المبذولة لإقناع أكبر شريحة شعبية بالمشاركة والاقتراع لا تعني عامة الشعب الإيراني، بل تستهدف بشكل مباشر القاعدة الشعبية المؤيدة للنظام في المدن الكبيرة، وأن هذا الرهان يصبح أكثر إمكانية في الأرياف ومناطق الأطراف، لتداخل عوامل اجتماعية ومناطقية وعشائرية وعائلية ترفع من مستوى المشاركة البعيدة عن الدوافع الأيديولوجية أو العقائدية أو السياسية.
النظام والتيار المحافظ والدولة العميقة يذهبون إلى هذه الانتخابات بعد أن استنفدوا كل الوسائل التي تضمن لهم الفوز والاستحواذ على جميع مقاعد البرلمان، من دون خوف من إمكانية حصول خرق يسمح لأصوات معارضة أو مختلفة معهم بالفوز، لأن المعايير التي وضعتها غرفة القرار لا علاقة لها بقدرة المرشح على تمثيل أوسع وأكبر شريحة ممكنة، بل المعيار أصبح في آلية الاختيار بين المطيع والأكثر إطاعة، أو بحسب تعبير المشرف على ترتيب صفوف القوى المحافظة رئيس البرلمان الأسبق غلام علي حداد عادل المقرب من المرشد، بأن نواب البرلمان الجديد سيكونون من بين الأكثر نقاءً ثورياً "سوبر ثوري"، الذي سيلتزم إطاعة وتنفيذ توجهات المرشد ويعمل على ترجمتها في عمله التشريعي والبرلماني خدمة للنظام ومشروعه العقائدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الطريق للوصول إلى اليوم الحاسم وإجراء الانتخابات عمل النظام على ترتيب الأرضية المساعدة للوصول إلى الهدف الذي يريده من هذه الانتخابات، أي المجيء بمجلس وبرلمان أكثر طواعية في يد المرشد والدولة العميقة. فكانت الخطوة الأبرز هي تعديل قانون الانتخابات، بحيث أعطى لوزارة الداخلية إجراء عملية "تصفية" أولية للمرشحين ومنحها صلاحية إقصاء أي مرشح لا تنطبق عليه الشروط المطلوبة، على أن يأتي من بعد الداخلية دور مجلس صيانة الدستور ولجنة دراسة أهلية المرشحين التابعة له، التي تتولى عملية التصفية النهائية للمرشحين الذين يحق لهم المشاركة، مع إضافة غير مسبوقة أعطت هذا المجلس صلاحية إسقاط أهلية أي مرشح بعد فوزه، وهي خطوة استباقية هدفها معالجة أي انحراف لدى المرشحين بعد فوزهم، وعدم الوقوع بما وقعوا فيه بانتخابات سابقة سمحت لمرشحين بالوصول والفوز والعبور من مقصلة هذا المجلس، وكان سلوكهم النيابي لا ينسجم مع إرادة النظام وتوجهاته وتوجيهاته.
المسار الذي تعتمده الدولة العميقة أو منظومة السلطة في هندسة الانتخابات البرلمانية وقبلها الانتخابات الرئاسية يدفع إلى الاعتقاد أن هذه المنظومة باتت على سباق مع الزمن لترتيب أوراقها تحسباً لما قد تواجهه في المستقبل القريب أو البعيد، وإمكانية أن تفلت الأمور من يدها في حال تفجرت الصراعات حول خلافة المرشد بعد وفاته، بخاصة أنها ستكون مستنفرة لمواجهة أي موجة اضطرابات قد تحصل في الشارع والحركات الاعتراضية التي قد تستغل حالة الفراغ أو المرحلة الانتقالية لإرباك النظام ووضعه في مواجهة تعقيدات لا يرغب بها أو يريدها.
والتحدي الذي تواجهه هذه المنظومة لا يأتي فقط من جهة الانتخابات البرلمانية، بل أيضاً من انتخابات أخرى تجري تزامناً مع البرلمانية، وهي انتخابات مجلس خبراء القيادة، الذي سيكون في واجهة الأحداث والاهتمام عند وفاة المرشد، وهي تعمل لانتخاب أو اختيار مجلس خبراء لا يسبب لها أزمة أو صداعاً، ويسير بالتوجه الذي تريده أو تخطط له في عملية الانتقال واختيار الخليفة أو المرشد الجديد.
لذلك فإن عملية التصفية أيضاً قد تطاول هذه المرة الرئيس السابق حسن روحاني الذي قدم ترشيحه لانتخابات خبراء القيادة، لكن هذه المرة منفرداً من دون لائحة أو مرشحين معه على غرار ما فعل قبل ثماني سنوات، عندما قدم لائحة تضم 15 مرشحاً عن مدينة طهران فازت كلها باستثناء مقعد واحد أعطي لرئيس مجلس صيانة الدستور أحمد جنتي، الذي فرضه المرشد لاحقاً رئيساً لمجلس الخبراء إضافة إلى احتفاظه بموقع الأول والأساس.
وعلى غرار ما فعله مجلس صيانة الدستور مع رفسنجاني وأسقط أهليته في الترشح للانتخابات الرئاسية، فمن المتوقع، وحتى لا تواجه المنظومة أزمة في التعامل مع طموحات روحاني في القيادة وأن يتحول ترشيحه إلى مدخل لإلحاق الهزيمة أو في الأقل الحصول على أصوات أعلى من أصوات رئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي الذي ترشح لعضوية هذا المجلس تمهيداً ليكون من بين الأسماء المرشحة لتولي موقع القيادة والخلافة، لذلك من المتوقع أن يعمد مجلس الصيانة لإسقاط أهلية روحاني، بناءً على المصلحة العليا للنظام كما كان الحال مع رفسنجاني.