اتخذ كثير من الروايات أحداث مذبحة الأرمن التي ارتكبتها الدولة العثمانية موضوعاً لها. مذبحة راح ضحيتها في بعض التقديرات أكثر من 1.5مليون أرمني، ومرت في مراحل بدأت عام في عهد الخليفة العثماني عبدالحميد الثاني، وبلغت أوجها أثناء الحرب العالمية الأولى. ومن هذه الروايات "يريفان" 2009 للفرنسي جيلبير سينويه، و"بازار الأرواح" 2010 للأرمينية أورورا مارديغانيان، و"غربان ما قبل نوح" 2023 للأرمينية سوزانا هاروتونيان. وعربياً تناولتها روايات "قافلة الموت" 2015 للأردنية ذات الأصل الأرميني ربيكا ملكيان، و"موت منظم" 2021 للمصري أحمد مجدي همام، و"الطيور العمياء" 2016 للعراقية ليلى قصراني. ومن الروايات التركية "لقيطة إسطنبول" لأليف شافاك وأحدثت ضجة وقت صدورها في 2006، وحوكمت الكاتبة بسببها. وتدور أحداث رواية "مرآة النسيان" للتركي غورسال كورات (1960)، التي يتناولها هذا المقال لمناسبة صدور ترجمتها إلى العربية (دار العربي) بتوقيع سوسنة سيد، في مدينة نوشهير التركية، في حبكة درامية لا تتجاوز 10 أيام، من الـ12 إلى الـ22 من يونيو (حزيران) عام 1915. تتبع الرواية الأجواء المحيطة بما جرى في تلك الفترة، وطبيعة العلاقات بين الناس في هذه المدينة، ومصير الأسر الأرمينية وما لحق بها من كوارث. وهكذا يسيطر الموت على أجواء الرواية من بدايتها حتى نهايتها، إذ تبدأ بتحقق نبوءة موت "بوغوس": "لقد أطلقوا النار على بوغوس البائع الجائل الوحيد في نوشهير قرب الصباح"، على يد قطاع طريق ومساجين أطلقت الدولة يدهم في قتل وسلب ونهب الأرمن، وتنتهي بموت القائد العسكري "ضياء بيك"، الذي ارتكب عشرات المذابح في القرى الأرمينية بمساعدة راعي الغنم "محرم".
المذبحة الرهيبة
تمضي أحداث الرواية في خط زمني متصاعد، تتوالى مجرياته مع بحث "ضياء بك" المحموم مع فرقته العسكرية عن سيدة تدعى "زابيل ميناسيان"، وعن تابوت يظن أنه بحوزتها، ويكتشف في النهاية أنها تقيم في بيت "فؤاد حلمي" نائب ولاية نوشهير التي تقع في وسط الأناضول وتشتهر بمنطقة كابادوكيا الأثرية. جاءت فرق الجيش إلى المدينة لتهجير أهلها الأرمن وتوطين المهاجرين المسلمين الذين طردوا من بلادهم التي كانت خاضعة لحكم الدولة العثمانية، لكنها فقدت السيطرة عليها بعد الهزائم المتتالية هناك من الروس والدول الأوروبية. وعلى رغم إحكام القبضة الأمنية ومحاصرة المدينة بالجنود وقطاع الطرق الذي يعملون تحت إمرة الجيش ينجح "فؤاد حلمي" في تهريب هذه المرأة مع بعض الأسر الأرمينية إلى مغارة تضم التابوت الصغير الذي دفنت فيه صور لموتى، "ربما هو أرشيف لأكبر مقبرة جماعية في العالم" ص333. صور تظهر "ضياء بك" وجنوده وهم يعملون آلة القتل في الأرمن، ذبحاً وحرقاً (توفيراً للرصاص) في أكثر من 80 قرية أرمينية. وكان "ضياء بك" يسعى إلى منع نشر تهريب هذه الصور إلى عواصم الدول الأوروبية، وتجريم من التقطها في منطق مغلوط يفنده "فؤاد حلمي": "أنتم من قتلتم هؤلاء البشر، والمصورون قاموا بتوثيق ذلك، ألا يقع الجرم على من قتل هؤلاء، وليس على من صورهم؟!" ص413. وتوجه تهمة خيانة الوطن إلى كل من يعترض على ما يجري في حق الأرمن من جرائم قتل واغتصاب وتجنيد شبابهم عنوة في الجيش ليتولوا أعمال السخرة.
أزمة هوية
تقدم الرواية هذه المذبحة كنتيجة لاضطراب الهوية للدولة العثمانية قبيل سقوطها، بين أحزاب وحركات تطالب بإصلاحات دستورية تدعم فكرة المساواة بين الملل والعرقيات الخاضعة لحكمها، وفكرة جعل الدين هو المعبر عن هوية الدولة عبر ما طرحه السلطان عبدالحميد باسم "الجامعة الإسلامية" للحصول على تأييد الدول المسلمة، وإعادة السيطرة على الدول الآخذة في الانعتاق من دولتهم التي بلغت مرحلة الشيخوخة، فقد شهدت الخلافة في تلك الفترة تخبطاً شديداً، بحثاً عن ذاتها. فتارة ترى هويتها تتمثل في العرق، وتارة في الدين، وتارة في اللغة والثقافة. وفي ظل هذا التخبط، رأت أن الأرمن غرباء عنها، على رغم أنهم أتراك ولا يتكلم كثر منهم سوى التركية: "بعض القرى الأرمينية لا يعرف أهلها غير اللغة التركية" ص418، ولا يعرفون أرضاً ولا بلاداً غير تركيا. المدارس.
وتضيف الرواية سبباً فرعياً، يفسر ارتكاب هذه المجازر، يتعلق بالرغبة في الانتقام التي تولدت لدى قادة الدولة العثمانية العسكريين، ممن تعود أصولهم إلى منطقة جرى طردهم منها بسبب دينهم مع نهاية الحكم العثماني هناك. يقول "ضياء بك" الضالع في هذه الجرائم: "أنا أيضاً شعرت بالسعادة طوال عمري بإسلامي، لكنني فقدت طمأنينتي منذ أطفأوا نور الإسلام في روملي" ص304. وهو كان يرى في قتله للأرمن حماية للدولة العثمانية من الانهيار.
انتقام متبادل
تنفي الرواية بذلك الطرح تهمة ارتكاب مجزرة الأرمن التي تنسب إلى الدولة التركية الحديثة، وتلقي بها على عاتق الدولة العثمانية، فمن ارتكبوا المجازر ليسوا من أهل تركيا وإنما قادمون من البلاد التي كانت تحكمها الخلافة العثمانية مثل "ضياء بك"، ومساعده "خورشيد" الذي جاء من روملي ولغته الأم هي اليونانية. ولكن حتى الأرمن الذين أعلنوا إسلامهم لتفادي التهجير والقتل، لم يقبل إسلامهم وتراجع القادة العسكريون عن وعدهم لهم، فذبح الرجال وسبيت النساء.
وتمتد رغبة الانتقام أيضاً إلى بعض الأفراد الأرمن الفارين من المذابح التي راح ضحيتها أهلهم، فكونوا عصابات لهم مثل عصابة "هاتشيك" التي أعملت القتل قدر استطاعتها في المسلمين انتقاماً حتى ممن عارضوا هذه المذبحة، وتعرضوا في سبيل ذلك لتنكيل بسبب موقفهم هذا من السلطة، فالمقدم "فؤاد حلمي" الذي دافع عن "زابيل" وخبأها في بيته وأسهم في تهريب بعض الأسر الأرمينية ونشر الصور التي تفضح مرتكبي هذه المجازر، قتل على يد عصابة "هاتشيك" من دون تفرقة بينه وبين الجزار "ضياء" أو "خورشيد". فالانتقام كان هو المحرك سواء للرومليين الذين طردوا من بلادهم البعيدة، أو الأرمن أنفسهم الذين أغاروا على بعض القرى رداً على ما جرى لهم.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
قدمت الرواية شخصيات من طبقات وفئات متعددة من المجتمع العثماني في مدينة نوشهير، من باعة جائلين، وحلاقين وحدادين وقصابين ومعلمين وأطباء ورجال دين، أثرياء وفقراء، مدنيين وعسكريين، أرمن وأتراك وروم، كبار وصغار. وهكذا يجد القارئ نفسه بصدد زخم في الشخصيات، عبر 444 صفحة من القطع المتوسط، مما أسهم في غنى الرواية في تفاصيلها ونقل عالم متكامل عن هذه الحقبة في بداية القرن الـ20، من عادات وتقاليد وتصورات ورؤية كل جماعة منهم للعالم. وهذا أفسح المجال لتعددية الأصوات داخل الرواية، فعلى سبيل المثال تباينت ردود الفعل حول تهجير الأرمن حسب منظور كل فئة: "كثير من الجيران المسلمين وقفوا يشاهدون بخجل المرحلين إلى المنفى حاملين إليهم الطعام والماء، لكن منع تقديم المساعدة للمسيحيين الذين تم تطويقهم. بعض النساء المسلمات ثرن على هذا الوضع، فتمت مطاردتهن وضربهن بقسوة". ص318، 319. بينما كانت هناك فئة من الانتهازيين الطامعين في نساء الأرمن اللاتي جرى اقتسامهن بين الرجال، وكذلك أموالهم ودورهم، ففي لحظات فقدت المدينة 10 في المئة من سكانها، ورأى بعض الأثرياء رحيلهم فرصة لتوسيع أنشطتهم التجارية عبر ملء الفراغ الذي تركه تهجير الأرمن. وهناك البعض الذي ظل يشاهد تلك الحشود التي تساق إلى حتفها من أعلى أسطح منازلهم وكأنهم بصدد أمر لا يعنيهم.
التزم غورسال كورات مبدأ "مسدس" أنطون تشيخوف الذي يحث على الاهتمام الشديد بالتفاصيل، والقاضي بأنه إذا ظهر مسدس في المشهد الأول من المسرحية فلا بد أن يكون له دور في نهايتها، ويتجلى ذلك في أكثر من تفصيل في هذه الرواية، منها مثلاً الدرع التي يتنافس عليها "محمد" الحلاق مع صديقه الحداد "كيركور" الأرمني. ومشهد الطفل الصغير الذي ما إن رأى الجنود العثمانيين بال على نفسه ولم تغادر صورته ذهن "ضياء بك" لمدة 10 أيام دون أن يعرف السبب. فيستخدم الدرع في النهاية بشكل دراماتيكي ويكون سبباً في إنقاذ "محمد" ومن معه من الأسر الأرمينية من براثن الموت، إذ يعتقد الناس أنه من أولياء الله، لأن رصاصة "هاتشيك" الأرمني ارتدت من صدره ولم تقتله، فيتولى الناس حمايته بعد أن اكتسب حصانة دينية وأصبح له مريدون. ويكتشف "ضياء بك" في لحظاته الأخيرة أن ذلك الطفل الذي لم تغادره صورته هو أحد أطفال الأرمن الذين قتل جميع أهله، وأن صاحب الخان "إحسان" خدعه حين أفهمه أن الطفل هو حفيده.