ملخص
ملايين المصريين يستعدون لشهر رمضان كالمعتاد بكثير من الدعاء والتضرع إلى السماء لكن مع قدر متضائل من الرجاء في أن تأتي الأيام القليلة المقبلة المؤدية للشهر الكريم حاملة بادرة ضوء في نهاية نفق الأسعار الشاطح بلا لجام والناطح من دون حساب
بدأت بشائر رمضان تلوح في الأفق. دقات العد التنازلي للأيام لا ينافسها إلا دق الأسعار على الرؤوس والجيوب. كل ما يباع ويشترى جن جنونه، سواء كان متعلقاً برمضان، أو لا يمت إليه بصلة. "بصلة المحب خروف" ذلك المثل الشعبي الذي ظل يردده المصريون لعقود وربما قرون لم يعد ساري المفعول. فإذا كان الخروف قد ذهب إلى حال سبيله بارتفاعات قياسية في أسعار اللحوم، مما جعلها مكوناً معرضاً للانقراض على الموائد على مدى أشهر طويلة، فإن البصلة التي كان يضرب بها المثل في رخص السعر أصبح لها كيان واحترام، ونأت بنفسها عن الارتباط الشرطي بعوالم الفقر، وتخلصت من وصمة البؤس.
"رمضان في مصر حاجة تانية"
البؤس الحقيقي يظل بعيداً من رمضان، وروح رمضان في مصر. "رمضان في مصر حاجة تانية" تظل كلمات تصدح في هواء البلاد لكن الأغنية لم تعد إحدى أكثر الأغنيات تداولاً بسبب حلاوة الكلمات ونعومة اللحن فقط، ولكن لأنها باتت حمالة أوجه عديدة.
وجه رمضان في مصر "حاجة تانية"، تجمع العائلات، وزينات الشوارع، وزحام ما قبل الإفطار، وصخب ما بعده، ودورات كرة القدم الشارعية، وروائح الطبخ المتداخلة المتصاعدة من كل مطبخ في أرجاء المحروسة في شهر رمضان من كل عام، وذلك في أوقات السلم والحرب، الصيف أو الشتاء، التجمعات السكنية الثرية والراقية أو الشعبية والمتواضعة سمات أصيلة لم يفلح ظرف طارئ في زحزحتها أو ضغط طاغ في تخفيفها.
التخفيف المتحدث عنه في الشارع المصري حالياً هو "تخفيف الأحمال" مجدداً. إنه ذلك التخفيف الذي تحول إلى "بعبع" المصريين على مدى العام الماضي. وما إن خفتت وتيرته نسبياً في الشتاء الحالي، حتى بدأ "البعبع" يلوح في الأفق مجدداً في مناسبة شهر رمضان المبارك.
الثبات إنجاز
شهران من الثبات إنجاز في عالم الأسعار، لكن هذا الثبات عكسي. فهو لا يصب في مصلحة المواطن، بل في مصلحة تخفيف الضغط على موازنة البلاد. أما الثبات المرجو فهو ثبات أسعار السلع الغذائية التي جن جنونها، أو جنون تجار التجزئة، أو الجملة، أو مسؤولي التسعير، أو كل من سبقوا. المهم أن كلمتي "أسعار" و"الجنون" صارتا كالتوأم الملتصق في ذهن الملايين.
الملايين تستعد لرمضان كالمعتاد بكثير من الدعاء والتضرع إلى السماء، مع قدر متضائل من الرجاء في أن تأتي الأيام القليلة المقبلة المؤدية للشهر الكريم حاملة بادرة ضوء في نهاية نفق الأسعار الشاطح بلا لجام والناطح من دون حساب.
حسابات لا حصر لها تدق رؤوس المصريين المتعبة وتتكالب على جيوبهم المنهكة ضمن الإعداد للشهر الكريم. وعلى رغم أن قوائم رمضان التي كانت حتى عهد قريب عادية، تحمل مكونات أشبه بتحصيل الحاصل الرمضاني انقلبت رأساً على عقب في الأعوام القليلة الماضية، إذ طال الترشيد معظمها، ونالت الأزمة من مكوناتها، إلا أن قوائم هذا العام مختلفة من ألفها إلى يائها، قلباً وقالباً.
سلع في عين العاصفة
في القلب من حاجات رمضان والسلع المرتبطة به السكر والرز والمعكرونة والبقوليات والأجبان والبيض والزيت والخضراوات والفواكه واللحوم والدواجن. كل ما سبق في عين العاصفة، عاصفة الأسعار الضارية الضاربة رفعت أسعار ما سبق في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي بنسب تراوح ما بين 20 و70 في المئة في خلال أيام معدودة، لكن الشهر الماضي مضى، وارتفاع الأسعار لم يعد حدثاً أليماً يقع كل بضعة أشهر أو حتى أسابيع، بل بات أشبه بـ"بندول" أو رقاص الساعة. يتحرك يميناً معلناً زيادة كبيرة، ثم يساراً بزيادة متوسطة ثم يعود يميناً وهكذا على مدى الساعة.
اعتاد المصريون على مدى عام مضى ارتفاع أسعار السلع وغيرها من تعريفات الخدمات من دون سابق إنذار، كما ارتبطت الزيادة في أذهان الملايين بليل الخميس، وذلك بعد ما اعتاد المسؤولون إصدار قرارات الزيادة مساء هذا اليوم لأسباب احتار المتخصصون من أبناء الشعب في شرحها، وإن تراوحت الاجتهادات بين قدرة العطلة الأسبوعية الجمعة على امتصاص صدمة الزيادة، ووأد خطر الاعتراض الجماعي حال صدر القرار في يوم عمل تزدحم فيه الشوارع بالمواطنين.
اعتياد المواطنين الزيادة لم يخفف حدة ألمها، لا سيما بعد ما تواترت لدرجة أقرب إلى الخيال. تشتري الجبن صباحاً بـ100 جنيه (3.2 دولار) وتشتري كيلو آخر مساءً بـ120 جنيهاً (أربعة دولارات). حتى هذا التواتر الجنوني بدأوا يعتادون حدوثه على رغم تصاعد الغضب والقلق، لكن جنون التواتر المتصاعد في رمضان يفاقم الغضب ويضاعف القلق.
البعض يقول إنه توقع أن "تكون الحكومة أكثر حكمة" وفي أقوال أخرى "أكثر رحمة" وفي ثالثة "أكثر رقابة على الأسواق في "هذه الأيام المفترجة" (رمضان).
البعض الآخر يتوجس خيفة في ظل توقعات شبه يقينية بأن يؤدي زيادة الطلب على السلع المصاحب لشهر رمضان إلى مزيد من الضغط التضخمي. فريق ثالث يستقبل رمضان بغصة طبقية في حلقه، وهو ما يبدو واضحاً في طوابير الآملين في شراء سكر ورز وزيت، وربما لحم ودجاج وسمك بأسعار معقولة بحسب ما يعلن عنه على مدى اليوم في وسائل الإعلام.
مكون الطبقة المتوسطة (سابقاً) الواضح وضوح الشمس في طوابير مبادرة "كلنا واحد" وأكشاك "أمان" ومعارض "أهلاً رمضان" يفرض نفسه فرضاً على الساحة الرمضانية. هو فرض يشرح نفسه ويحلل أسبابه، تماماً كهيمنة التمر (البلح) في محال السوبرماركت الكبرى والصغرى وما بينهما، مع اختفاء شبه كامل لمكونات "ياميش" رمضان التقليدية من بندق وعين جمل وفستق ومشمشية وقراصيا وغيرها من مكونات أخرجها شح الدولار وتأزم الاقتصاد.
نسبة الزيادة في هذا المكون الرمضاني بلغت 100 في المئة مقارنة برمضان الماضي. المشمشية قفزت من 280 إلى 460 جنيهاً (أي من 9.5 دولار إلى 15 دولاراً)، والقراصيا من 135 (4.3 دولار) إلى 360 جنيهاً (11.6 دولار) واللوز من 280 (9.6 دولار) إلى 520 جنيهاً (17 دولاراً)، والفستق من 400 (13 دولاراً) إلى 750 جنيهاً (24 دولاراً)، والكاشيو من 350 (11.5 دولار) إلى 700 جنيه (23 دولاراً). حتى البديل الشعبي لحشو الحلويات والتسلية، ألا وهو الفول السوداني قفز من 70 (2.2 دولار) إلى 150 جنيهاً (نحو خمسة دولارات).
قفزات الجنيه في رمضان
قفز الجنيه في رمضان له مذاق مختلف عن غيره من الأشهر. فالشهر الكريم يرتبط ارتباطاً شرطياً بالطعام بعد الصيام، حتى لو كان ارتباطاً خاطئاً أو فكراً يحتاج إلى وعي وتعديل مسار مع ترشيد طعام.
"ترشيد الطعام في رمضان" يسمونه الفضيلة الغائبة. فضيلة لأنها أمر محمود ومطلوب، وغائبة لأنها عصية على التفعيل بسبب توليفة من العادات والتقاليد من جهة، وفش الغل الاقتصادي والمعيشي والنفسي في الطعام من جهة أخرى، لكن فش هذا العام مختلف بين المصريين. التجار و"جشعهم" والأسعار وجنونها، والحكومة وغياب قبضتها أمامهم، والتأكيد أن السلع الغذائية متوافرة بأسعار منخفضة والتلويح بأن الارتفاع في أسعار السلع قبل رمضان جنوني وراءهم.
وراء حالة الالتباس في ما يختص بأسعار السلع، والبحث عن مخارج تضمن حداً أدنى من الحفاظ على روح رمضان، حالة من الربكة الرمضانية غير المسبوقة فعلاً لا قولاً. قولاً، على مدى عقود طويلة، تتواتر شكاوى المصريين من أن "رمضان هذا العام مختلف بسبب الغلاء".
ذاكرة التاريخ المعاصر حافلة بـ"الغلاء ينال من فرحة رمضان" في السبعينيات، و"ارتفاع الأسعار يؤثر سلباً في موائد الرحمن" في الثمانينيات، و"الاقتصاد يفسد فرحة المصريين في التسعينيات"، و"أسعار الياميش تجبر المصريين على أكل البقلاوة من دون مكسرات في رمضان" في العقد الأول من الألفية الثالثة، ثم رمضان متأثر تارة بأحداث2011، وأجواء العنف والاستقطاب في 2013 تارة أخرى، وموجات من تذبذب الأسعار، ثم التعويم الأول في 2016 وذلك في العقد الثاني من الألفية، وبعده رمضان باعتباره أحد ضحايا التعويم الثاني والثالث والرابع ووباء كورونا وحرب أوكرانيا، وأخيراً وليس آخراً حرب غزة الدائرة على الأبواب وتعثر الاقتصاد المحلي بشدة وضراوة وقسوة في رمضان 2024.
هذا التعثر منعكس في "انخفاض" معدل التضخم الأساس (مستثنياً الوقود والسلع الغذائية متغيرة الأسعار) إلى 29 في المئة في يناير (كانون الثاني) الماضي بعد ما كان 34.2 في المئة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، بحسب البنك المركزي المصري.
مفاجآت الحكومة
كما أنه منعكس في "مفاجآت" الحكومة التي تربك كثيرين أكثر مما تحل مشكلاتهم في أيام ما قبل رمضان. الأحاديث التي تدور بين المصريين في تجمعاتهم سواء الأسرية أو العابرة في الباصات وعربات مترو الأنفاق وطوابير السكر والزيت تتناول "مفاجآت الحكومة" بحذر شديد. هذه المفاجآت إن كانت حقيقية، فخير وبركة. وإن كانت "فض مجالس"، فالمؤكد أن وراءها شيئاً ما لا تحمد عقباه على الأرجح.
"تعويم جديد؟" "آلاف الفلسطينيين الهاربين من جحيم غزة يسمح لهم بالدخول فيمثلون عبئاً إضافياً؟" "تضييقات جديدة يفرضها قرض الصندوق (النقد الدولي)؟" وتتوالى الأسئلة في كل طابور ومحفل وحافلة.
الساعات القليلة الماضية شهدت تصاعد أخبار "البشرى السارة التي تزفها الحكومة للمواطنين". وعلى رغم العنوان البراق الذي تناولته الصحف، فإن المحتوى أشار إلى تأكيدات رسمية أن الحكومة ستصعد من حدة ضبط الأسعار ومراقبة الأسواق، وأن من شأن ذلك أن يؤدي إلى خفض الأسعار! ليس هذا فقط، بل أنه جار إنشاء منظومة رقمية محكمة لمراقبة الأسعار ومدى توافرها، إضافة إلى المراقبة المستمرة من قبل وزارة التموين والتجارة الداخلية وغيرها كثير من الإجراءات التي تقول الحكومة إنها تتخذها لخفض الأسعار أو التحكم فيها بعد الارتفاعات غير المسبوقة في الأسابيع الماضية، لا سيما مع قرب شهر رمضان المبارك.
قلق وحيرة
لكن هذه الأخبار المتداولة والمفاجأة التي تلوح في الأفق تحير الجموع ولا تهدئ من روعها. فالحديث عن "استمرار" أو "تصعيد" أو "زيادة" أو "إحكام" الرقابة يثير التعجب، لأن الرقابة غائبة أو لا يشعر بها أحد، لا التاجر أو المستهلك.
وكعادة رمضان، فإن الاستهلاك لا يكون من نصيب السلع الغذائية فقط، ولكن الفتاوى والأسئلة الدينية. رمضان موسم فتاوى بامتياز، سواء تلك التي تأتي رداً على أسئلة الصائمين أو التي يتبرع أو يتقرر أن يخرج بها علماء الدين لإضفاء الأجواء الدينية المرجوة والمطلوبة في الشهر الكريم.
أسئلة مزمنة
قوائم الأسئلة والإجابات المزمنة بدأت تلوح في الأفق وتملأ الأثير. فمن "ما حكم من أكل وشرب عامداً في نهار رمضان؟" مروراً "ما حكم وضع المكياج في الشهر الكريم؟" وانتهاء بـ"هل قطرة العين ونقط الأنف من المفطرات؟" تتواتر الأسئلة التي يراها البعض محورية ويعتبرها البعض الآخر عجيبة كعادة كل عام.
لكن الفتاوى والإجابات الدينية أيضاً لم تكن بعيدة يوماً من الأجواء السياسية والاقتصاد في القلب منها. من الطبيعي إذاً أن يمتلئ الأثير بأسئلة عن حكم دفع قيمة الكفارة عن إفطار رمضان أو التصدق على أفراد من الأهل والأقارب، والحد الأدنى لقيمة الكفارة وغيرها من الأسئلة الرمضانية الغارقة في الأزمة الاقتصادية.
روعة الصبر
دور الفتاوى والفقرات والبرامج الدينية ليس الإجابة عن الأسئلة فقط، لكنه أحياناً يمتد لملء الفراغات، وربما يحدث ذلك استباقياً. الحديث عن روعة الصبر وعظمة الجلد ومكانة التحمل وروحانية الهدوء في مواجهة الشدائد والتقرب إلى الله بالرضا واعتلاء سلم الإيمان بالرضا بالمقسوم والصبر على المكتوب مع التمسك بالأمل إن لم يكن في هذه الدنيا فعند الله، وما عند الله خير وأبقى.
بقاء الطوابير أمام الجمعيات التعاونية الاستهلاكية وأكشاك مبادرات الحماية الاجتماعية مضمون طوال أيام الشهر الكريم. هذه المنافذ أظهرت نشاطاً مكثفاً في مناسبة قرب شهر رمضان، مع تنويهات عبر وسائل الإعلام عن توافر السلع الغذائية بأسعار منخفضة، وهو ما يبقي على الطوابير على أبوابها منذ ساعات الصباح الأولى حتى قبل أن تفتح أبوابها.
هذه المنافذ باتت الملاذ الوحيد المتبقي لكثيرين ممن تدنت قدراتهم الشرائية بصورة كبيرة في الأسابيع القليلة الماضية، وهو التدني الذي تفاقم مع تعمد التجار رفع الأسعار مجدداً في مناسبة الشهر الكريم، وهي العادة السنوية التي تتخذ أبعاداً يصفها البعض بـ"الإجرام" هذا العام.
زيادة الأسعار مع إخفاء بعض السلع لـ"تعطيش" السوق قبل إعادة طرحها بأسعار خيالية لعبة التاجر مع المواطن في كل رمضان. اللعبة هذه المرة خطرة، لا سيما في ظل الغياب شبه الكامل لدور وزارة التموين في مراقبة وضبط الأسواق، هذا الغياب يسارع رجال دين إلى ملئه لتهدئة الناس من بوابة الروحانيات.
الحكومة والشعب ورجال الدين
عضو المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية الشيخ الإعلامي خالد الجندي أسعد الملايين قبل أيام بحديثه عن "ضرورة الضرب على أيدي التجار الذين سيحاولون اغتنام شهر رمضان لزيادة أسعار السلع ومنعها عن الناس، مشيراً إلى أن الحكومة وحدها لن تستطيع القيام بهذا الدور، وأن على المواطنين التعاون عبر الإبلاغ عن المخالفين، إضافة إلى التوقف عن التكالب في التخزين".
وقال "مللنا من دور المجني عليه، وعلينا أن نكون فاعلين، وأن نكون نقطة فاصلة في السطر الوطني وكلمة فاصلة في الخطاب الوطني"، داعياً الجميع للتعقل في الاستهلاك والتخلي عن "الفوبيا التموينية".
ومن الفوبيا التموينية المحتملة إلى فوبيا رمضانية يشك البعض أن تكون قد أصابت الجميع. وأدلتهم على ذلك، أن الأسعار جنت تماماً، والرقابة الحكومية غابت كلية، ورجال الدين جعلوا من رمضان مناسبة للترشيد والتعقل، والمواطنين حائرون بين أثير رمضاني يخبرهم أن الأسعار ستنخفض والأحوال ستنتعش والخير سينتشر، وآخر واقعي تفضحه الطوابير وتكشف عنه صدمة الفواتير ولا يخفف منه إلا مبادرات الخير وفتاوى رجال الدين.