ملخص
تعتمد دولة جنوب السودان في تغذية إيراداتها الحكومية على النفط الذي يمر عابراً الأراضي السودانية إلى ميناء بشائر شرق البلاد عبر رسوم محددة بنحو 10 دولارات للبرميل، ووسط توقف وسائل الإنتاج الأخرى مثل الزراعة والصناعة وانهيار العملة الوطنية
بعد أشهر قليلة من اندلاع الحرب في السودان، أبريل (نيسان) الماضي، هددت قوات "الدعم السريع" أنابيب ومصافي النفط في مناطق متفرقة، ولكنها انشغلت بأهداف أخرى، إذ استمر التهديد بوتيرة بطيئة، ولكن مستمرة. ولم تأخذ قوات الجيش هذا التهديد بالجدية اللازمة، وإنما استمرت في بث التطمينات بأنها مسيطرة، بينما تشتت جهودها ما بين تأمين المقار والقواعد العسكرية واستعادة بعضها من "الدعم السريع"، وبين ملاحقتها في أحياء الخرطوم ودارفور وود مدني، وغيرها، بينما استطاعت تبديد طاقة الجيش في ساحة حرب العصابات.
وزير الطاقة والبترول محيي الدين سعيد أبلغ دولة جنوب السودان بأن الخرطوم لا تستطيع الوفاء بالتزاماتها الموقعة بينهما في ما يتعلق بنقل خام النفط عبر الأراضي السودانية نتيجة تعرض الأنابيب لتخريب في بعض المناطق بسبب الحرب الدائرة في البلاد، إذ تم تمزيق خطوط الأنابيب في الأراضي التي تسيطر عليها قوات "الدعم السريع" شمال ولاية النيل الأبيض، لاعتقادها أن حكومة جنوب السودان تدعم الجيش.
بهذا تكون حكومة السودان قد خضعت أخيراً لأحد الأحداث التي تشكل واقع الحرب، حيث كان متوقعاً منذ البداية أن تكون أنابيب ومصافي النفط في سلم أولويات الجهات المتحاربة من حيث الاهتمام بالنسبة إلى قوات الجيش وتوقع الاعتداء عليها، وكهدف ثمين بالنسبة إلى قوات "الدعم السريع"، مما يصيب الاقتصاد السوداني في مقتل، ويعطل التجارة والزراعة والصناعة والنقل.
ولم تكن هذه هي المرة الأولى التي تتعرض فيها أنابيب النفط إلى تخريب، فقد تعرضت في وقت سابق من قبل مجهولين قاموا بإدخال خام فاسد أدى إلى تجميد النفط داخلها وتسبب في خسائر فادحة ونفاد الاحتياط من النفط. كما تمت سرقة كوابل ومعدات استخراج النفط من بعض آبار النفط مثل ما حدث في مدينة الفولة غرب السودان.
فشل الترسيم
تأسست اتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005 على تقاسم الثروة النفطية بين السودان وجنوب السودان قبل وبعد الانفصال. وعلى رغم ما لاقته هذه الاتفاقية من قبول إقليمي ودولي واسع، فإن السودان اكتشف في ما بعد أن بها ثقوباً كثيرة، ولكن كان النظام السابق في ذلك الوقت أكثر حرصاً على تمريرها بسوءاتها والتنازل عن التدقيق فيها لأسباب أهمها ضمان بقاء الرئيس عمر البشير على رأس السلطة.
ومن جانبها، أغفلت الجهات الدولية الراعية للاتفاق عناصر أساسية في ما يتعلق بتقاسم النفط، بل غضت الطرف عن معرفة كمياته وأسعار بيعه، وذلك لتمرير الاتفاقية أيضاً. وكانت أرقام التوزيع تنشر من قبل حكومة السودان من دون أن يكون لأحد الحق في التأكد منها، سواء كان السودانيين أو مواطني جنوب السودان على رغم قلقهم وعدم الثقة التي رسختها عقود من الحرب، وتوقعاتهم بأن عائدات النفط تتجاوز المعلن عنها بمبالغ كبيرة.
إضافة إلى ذلك، فقد كانت اتفاقية السلام الشامل تتطلب القيام بتعريف حدود منطقتين تؤثران تأثيراً كبيراً في توزيع العائدات، الأولى هي الحدود بين الشمال والجنوب، والثانية هي حدود منطقة أبيي التي حصلت على اتفاقية مختلفة لتقاسم عائدات النفط كونها خاضعة للحكم الذاتي ولم يتم الفصل في انتمائها إلى أي من الدولتين. وهناك كثير من حقول النفط القريبة من هذه الحدود، بالتالي فإن تغييرات طفيفة على تعريف مواقعها يمكن أن يكون له آثار كبيرة على توزيع عائدات النفط.
وبعد أربع سنوات من اتفاقية "نيفاشا" تم حسم حدود منطقة أبيي عام 2009، بواسطة محكمة التحكيم الدولية في لاهاي بتقليص مساحتها ومنح الخرطوم السيطرة على الحقول النفطية، إذ أعادت المحكمة ترسيم الحدود الغربية والشرقية لمنطقة أبيي إلى حين الحسم في مصير المنطقة، ولكن لم يتم ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، حيث ظلت ضمن القضايا العالقة بين البلدين. ووصفت وثيقة أمنية رسمية من حكومة جنوب السودان أن الفشل في ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب بأنه أكثر التحديات إلحاحاً.
عبور النفط
تعتمد دولة جنوب السودان في تغذية إيراداتها الحكومية على النفط الذي يمر عابراً الأراضي السودانية إلى ميناء بشائر شرق السودان عبر رسوم محددة بنحو 10 دولارات للبرميل، ووسط توقف وسائل الإنتاج الأخرى مثل الزراعة والصناعة وانهيار العملة الوطنية، بسبب تصاعد الحرب الأهلية هناك، والتي أثرت أيضاً على انخفاض إنتاج النفط من 250 ألف برميل إلى 180 ألف برميل يومياً، يبلغ نصيب حكومة الجنوب منها نحو 70 ألف برميل فيما يتم توزيع المتبقي على الشركاء في الصناعة النفطية.
وكان تأثير الحرب الأهلية في الجنوب كبيراً لأنها قامت بعد تأسيس الدولة مباشرة بين القوات الحكومية وقوات رياك مشار عام 2013، ثم بعد مصالحتهما كانت القوات المشاركة معهما قد تشكلت منها ميليشيات أخرى على أساس قبلي، ولا تخلو الساحة السياسية الجنوبية من صراعات قبلية أخرى. كما تعطلت أعمال استكشاف وتطوير حقول النفط في جنوب السودان منذ ذلك الوقت بسبب الوضع الأمني والسياسي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
خلال الفترة الانتقالية في السودان كانت هناك تفاهمات بين رئيس الوزراء السوداني السابق عبدالله حمدوك ورئيس دولة جنوب السودان سلفاكير ميارديت عام 2020 حول إمداد جوبا للخرطوم بكميات إضافية من النفط الخام بنحو 20 ألف برميل في اليوم، بعد الانخفاض العالمي للنفط، لصالح محطات التوليد الكهربائية مقابل منح السودان لدولة الجنوب كميات من الجازولين من مصفاة الأبيض بعد تكرير الخام.
نفقات عسكرية
في ما يتعلق بتوزيع أنصبة النفط في عهد النظام السابق ذكرت وزارة النفط أن "إنتاج النفط منذ 1999 إلى 2011 عاد على حكومة السودان بنحو 60 مليار دولار، لكن لم يتم إيداع كامل هذه الأموال في حسابات سودانية، فخصص بعضها لتغطية الحصص والالتزامات الأخرى مثل كلفة الاستثمار وحصص الأرباح المستحقة للشركات الأجنبية، وحصة حكومة الجنوب التي كانت نحو 12 مليار دولار، إلى جانب كلفة النفط المخصص للاستهلاك المحلي".
وأوردت الوزارة، "بعد حسم كل هذه المصروفات تبقى نحو 30 مليار دولار يعتقد أنها ذهبت إلى خزائن الدولة خلال هذه الفترة. وتعد هذه أكبر كمية من العملات الصعبة تدخل إلى خزانة الدولة منذ الاستقلال. ولم تكن هناك خطط واضحة لكيفية استخدام هذه الأموال أو من لديه الحق باستخدامها بعد أن أودعت بنك السودان المركزي".
يشار إلى أن النظام السابق خصص حصة كبيرة من عائدات النفط للنفقات العسكرية، فوفقاً لمعهد "ستكهولم" الدولي لأبحاث السلام، فإن "الإنفاق العسكري في عام 2001 قدر بمليار دولار، أي 2.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وارتفع إلى 2.5 مليار دولار في 2004، أي 4.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي ليصل إلى 2.29 مليار دولار في 2006". وبعد انفصال جنوب السودان عام 2011 حاول النظام السابق تعويض خروج نحو 75 في المئة من نفط البلاد بالترويج للاستثمار، ففي كتيب نشرته وزارة الإعلام بعنوان "السودان... أرض الفرص" ذكرت أن "السودان يحتل المركز الرابع بين الدول الأفريقية في الإنفاق العسكري".
تتمثل الخسائر المالية التي سيتكبدها السودان جراء إيقاف الخط الناقل للنفط، نظراً إلى الكلفة الاقتصادية العالية، والتي قد تفوق كلفة إصلاح أعطاب أنابيب النفط، في فقدانه نحو 14 ألف برميل من النفط الخام كانت تستخدم لتشغيل شبكة الكهرباء في السودان. كما يتمثل الضرر في فقدان البلد نحو 200 مليون دولار شهرياً، إضافة إلى 76 في المئة من المنتجات النفطية، بسبب توقف إنتاجه اليومي من النفط الواقع في مناطق العمليات، والذي يبلغ نحو 600 ألف برميل، وكان يوفر نحو 155 مليون دولار شهرياً.
تداعيات الحرب
هناك نتائج وشيكة ستترتب على إيقاف خطوط أنابيب النفط: الأولى، سيدفع إعلان الحكومة السودانية بدولة جنوب السودان إلى تنشيط اكتشاف النفط في حال كبحت جماح الحرب، إذ إن خطتها بعد استهداف أنابيب النفط في الشمال أن تعرض عدداً من المناطق النفطية على الشركات العالمية، ويعد ذلك تحولاً عن التعاون النفطي مع الشمال.
وبالإعلان الأخير تكون حكومة سلفاكير في حل من التزام احتكار السودان والشركات الأخرى المتعاونة معه، والتي أسهمت في تنقيب واكتشاف النفط منذ تسعينيات القرن الماضي، لكن من ناحية أخرى، وإن استطاعت حل مشكلة الاكتشاف، فإن مشكلة التصدير عبر طريق جديد ستكون معضلة أساسية تحتاج إلى وقت لحلها، لا سيما في ظل ظروف جنوب السودان الحالية، إضافة إلى أن مقترح التصدير عبر ميناء لامو الكيني يبدو أنه يواجه معوقات عدة منها طبيعة الأرض الطبوغرافية.
والنتيجة الثانية أن الاتفاق الموقع بين السودان وجنوب السودان عام 2012، والذي يسمح للجنوب بتصدير النفط عبر موانئ الشمال تم تمديده حتى ديسمبر (كانون الأول) 2019، ثم حتى 2022، ومنذ ذلك الوقت فإن أي محاولات لتمديد جديد كان يقابلها حدوث انخفاض في الإنتاج، ويتوقع أن يستمر خلال السنوات الثلاث المقبلة، خصوصاً مع غياب إدخال تحسين على الإنتاج.
أما النتيجة الثالثة، فهي محاولات استغلال وضع الدولتين من قبل بعض الدول المستثمرة في مجال النفط، وهم من سماهم لوك باتاي "ملوك النفط الجدد" ويقصد دول بعينها في صراعها على نفط السودان وجنوب السودان، على رأسها الصين التي أعلنت أخيراً استعدادها للاستثمار في مجالات عدة منها التعدين، وهي مستعدة لضخ مبلغ 300 مليون دولار كحزمة أولى في مشروعات التعدين بالشراكة مع الحكومة السودانية.
وتعد تجربة الصين في السودان فريدة من نوعها على رغم تشابهها مع تجارب الاستثمار الصيني في دول أفريقية أخرى، حيث تميزت بأنها كانت المنقذ لنفط السودان، إذ ساعدته في الالتفاف على العقوبات الدولية، إضافة إلى أن استنجاد السودان بالصين جاء نتيجة تعرض الدولة لتبعات حمولات أيديولوجية أدخلتها في نفق ضيق ومواجهة دولية وإقليمية، ولكن الصين لم تعر كل ذلك اهتماماً، بل وتغاضت عنه مما جلب لها سخطاً دولياً.