Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

انقسام اليهود الأميركيين وصراع الهوية بين الليبرالية والصهيونية

فجرت حرب غزة زلزالاً أيديولوجياً حول دعم إسرائيل وفكرة العدالة للفلسطينيين

أعضاء من مجموعة اليهود المناهضة للصهيونية ينضمون إلى مؤيدين للفلسطينيين (أ ف ب)

ملخص

مع الأسابيع الأولى للقصف العنيف بالطائرات والصواريخ الذي سبق الاجتياح البري لغزة الذي أدى لسقوط آلاف القتلى، تحولت الصورة بسرعة في الشارع الأميركي من التعاطف المبدئي مع إسرائيل بعد هجوم "حماس" المفاجئ، إلى انتقاد حكومة نتنياهو.

منذ هجوم "حماس" على إسرائيل في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 ثم رد تل أبيب الانتقامي العنيف الذي خلف أكثر من 32 ألف قتيل من الفلسطينيين، معظمهم من المدنيين والنساء والأطفال، ضرب انقسام حاد اليهود الأميركيون تمحور بالأساس حول هويتهم وعلاقتهم بالليبرالية والصهيونية، وهو انقسام ينظر إليه بكثير من التوجس حول المستقبل، وبخاصة مع التحول الواضح في آراء المجتمع الأميركي وتحديداً الجيل الصاعد من الشباب حيال دعم إسرائيل والقضية الفلسطينية، فما طبيعة هذا الانقسام؟ وكيف ينظر إليه اليهود الأميركيون؟ وإلى أين يصل في نهاية المطاف؟

من الكابيتول إلى العائلة

مع الأسابيع الأولى للقصف العنيف بالطائرات والصواريخ الذي سبق الاجتياح البري لغزة الذي أدى إلى سقوط آلاف القتلى، تحولت الصورة بسرعة في الشارع الأميركي من التعاطف المبدئي مع إسرائيل بعد هجوم "حماس" المفاجئ، إلى انتقاد حكومة بنيامين نتنياهو.

وفي قلب هذا الانتقاد تولدت أولى علامات الانقسام بين اليهود الأميركيين وغالبيتهم من الديمقراطيين الليبراليين، وظهر ذلك الانقسام بين العائلات اليهودية واختلاف الرؤى بين كبار السن والشباب الذين خرج كثير منهم حاملين شعار "ليس باسمي" في شوارع واشنطن ونيويورك ولوس أنجليس وغيرها من المدن الكبرى.

وداخل مبنى الكابيتول الأميركي وجد المشرعون اليهود الليبراليون والتقدميون أنفسهم على خلاف متزايد مع بعضهم بعضاً في شأن تعامل إسرائيل مع الحرب ومواقف الرئيس جو بايدن في شأنها، إذ شعر أبناء الحركة التقدمية من اليهود بالعزلة لأنهم لا يدعون بشكل كاف إلى وقف إطلاق النار، بينما لم يعتقد الأكثر وسطية أنهم مؤيدون لإسرائيل بما فيه الكفاية عندما ينضمون إلى زملائهم والمجتمع الدولي في انتقاد أساليب نتنياهو في قتل عشرات الآلاف من الفلسطينيين الأبرياء وتدمير قطاع غزة.

أزمة هوية

يعود هذا الانقسام في جزء كبير منه لهوية اليهود الأميركيين، بحسب أستاذ القانون في جامعة هارفرد نوح فيلمان الذي شرح في كتابه الأخير، "أن تكون يهودياً اليوم" عقيدته الخاصة من أجل فهم الهوية والسياسة والثقافة، إذ يشير إلى أمرين أو تحولين، الأول أنه على مدى السنوات الـ30 أو الـ40 الماضية، أصبحت إسرائيل مركزية جداً في هوية وفكر جميع اليهود الأميركيين تقريباً، حتى بالنسبة إلى اليهود الذين ينتقدون إسرائيل بشدة لدرجة رفضها تماماً في بعض الأحيان، ولا يزال يتعين على هؤلاء أن يحددوا طبيعة علاقتهم مع هذه الدولة.

أما الثاني فهو أن هناك شيئاً يوحد اليهود الذين لديهم وجهات نظر مختلفة حول إسرائيل، بخاصة اليهود الذين يعتبرون تقدميين في سياساتهم وفي يهوديتهم، الذين يؤمنون في قلوبهم بأن كونك يهودياً يعني اعتناق المثل الأعلى للعدالة الاجتماعية، واحتضان قضية الحق والخير، وهؤلاء قد يعتقدون في بعض الحالات، أن فكرة إسرائيل برمتها لا تتوافق مع العدالة الاجتماعية والمساواة بالنسبة إلى الفلسطينيين، الأمر الذي يقود هؤلاء اليهود المختلفين إلى استنتاجات مختلفة حول إسرائيل.

زلزال أيديولوجي

لكن أستاذ الصحافة والعلوم السياسية في جامعة مدينة نيويورك بيتر بينارت، يرى أن الهزة الأيديولوجية التي زعزعت حياة اليهود الأميركيين على مدى العقد الماضي، أصبحت منذ السابع من أكتوبر زلزالاً يتعلق في القلب منه بالعلاقة بين الليبرالية والصهيونية، وهما عقيدتان حددتا الهوية اليهودية الأميركية لأكثر من نصف قرن، وأنه في السنوات المقبلة سيواجه اليهود الأميركيون ضغوطاً متزايدة للاختيار بينهم، بعدما أسهمت حرب إسرائيل على غزة في إحداث تحول كبير داخل اليسار الأميركي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير بيرنارت إلى ملامح هذا التحول في أن التضامن مع الفلسطينيين أصبح ضرورياً للسياسة اليسارية، بقدر أهمية دعم حقوق الإجهاض أو معارضة الوقود الأحفوري، وكما حدث خلال حرب فيتنام والنضال ضد الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بدت قوة التضامن اليساري في إعادة تشكيل التيار الليبرالي السائد، إذ طالب اتحاد عمال السيارات المتحدين في ديسمبر (كانون الأول) 2023 بوقف إطلاق النار وشكلوا مجموعة عمل لسحب الاستثمارات من إسرائيل للنظر في العلاقات الاقتصادية للنقابة مع الصراع.

بحلول فبراير (شباط) 2024، دعت قيادة الكنيسة الأسقفية الميثودية، وهي أقدم طائفة بروتستانتية للأميركيين من أصل أفريقي في البلاد، الولايات المتحدة إلى وقف مساعداتها للدولة اليهودية، وفي جميع أنحاء الولايات الأميركية ذات التوجه الديمقراطي، جعل عديد من الليبراليين الذين دعموا إسرائيل ذات يوم أو تجنبوا الموضوع، من القضية الفلسطينية قضية خاصة بهم.

التقارب مع اليمين

وبينما لا يزال هذا التحول في مراحله الأولى، ظلت المؤسسات الليبرالية البارزة وفي مقدمها الحزب الديمقراطي مهيمنة في تأييدها لإسرائيل، ومع ذلك لم يعد قادة تلك المؤسسات يمثلون كثيراً من قاعدتهم، واعترف زعيم الغالبية الديمقراطية السيناتور تشاك شومر بهذا الانقسام في خطاب ألقاه حول إسرائيل في قاعة مجلس الشيوخ قبل أيام، حينما أوضح أنه "يستطيع أن يفهم المثالية التي تلهم كثيراً من الشباب لدعم حل الدولة الواحدة، وهو الحل الذي لا يشمل دولة يهودية"، مما يشير إلى إدراك شومر أن حزبه يمر بتغييرات عميقة.

كما أن اليهود الأميركيين الأكثر التزاماً بالصهيونية، الذين يديرون مؤسساتها، يدركون أن أميركا الليبرالية أصبحت أقل ترحيباً بهم من الناحية الأيديولوجية، ولهذا سعوا خلال الأسابيع الأخيرة إلى صياغة قضية مشتركة مع اليمين الأميركي، ولم يكن من المستغرب أن تقوم رابطة مكافحة التشهير اليهودية، التي انتقدت بشدة قبل بضع سنوات فقط سياسات الهجرة التي ينتهجها دونالد ترمب، بتكريم صهره ومستشاره الكبير السابق جاريد كوشنر.

وسارع الرئيس السابق ترمب نفسه إلى الاستفادة من الانقسام السياسي الناشئ وقال في مقابلة صحافية إن "أي شخص يهودي يصوت للديمقراطيين يكره دينه، لأن الديمقراطيين يكرهون كل ما يتعلق بإسرائيل، وعليهم أن يخجلوا من أنفسهم لأن إسرائيل ستدمر".

وهكذا أصبح الأمر بالنسبة إلى اليهود الأميركيين الذين يريدون الحفاظ على دعم بلادهم غير المشروط لإسرائيل لجيل آخر، لا يوجد سوى شريك سياسي واحد يمكن الاعتماد عليه، وهو الحزب الجمهوري الذي ينظر إلى الدفاع عن الحقوق الفلسطينية كجزء من أجندة ما يسمى سياسة "الاستيقاظ" اليسارية التي تهتم بقضايا العنصرية والشمول والمساواة والتنوع وتلك المتعلقة بالجنس والنوع.

القطيعة بين الليبرالية والصهيونية

أما اليهود الأميركيون الذين يتخذون خياراً مختلفاً، وهو التخلي عن الصهيونية لأنهم لا يستطيعون التوفيق بينها وبين المبدأ الليبرالي المتمثل في المساواة بموجب القانون، فإنهم يحظون باهتمام أقل لأنهم يظلون أبعد عن دوائر السلطة، لكن أعدادهم أكبر مما يدركه كثيرون، بخاصة بين الشباب من جيل الألفية الذين تتراوح أعمارهم بين 28 وحتى 43 سنة، والجيل "زد" الذين تتراوح أعمارهم بين 12 إلى 27 سنة، وهؤلاء يواجهون معضلة كبيرة، فبينما ينضمون إلى حركة التضامن مع فلسطين التي ترحب بمزيد من اليهود الأميركيين، فإنهم يجدون صعوبة أكبر في تفسير موقع اليهود الإسرائيليين في رؤية الحركة لتحرير فلسطين.

 

 

ويبدو أن القطيعة الناشئة بين الليبرالية الأميركية والصهيونية الأميركية تشكل أعظم تحول في السياسة اليهودية الأميركية خلال نصف قرن، وهو أمر من شأنه أن يعيد تعريف حياة اليهود الأميركيين لعقود مقبلة، فقد صور يهود أميركا أنفسهم منذ فترة طويلة على أنهم حراس أميركا الليبرالية، كما كتب مارك دولينغر في كتابه "السعي من أجل الإدماج: اليهود والليبرالية في أميركا الحديثة"، ومنذ قدومهم إلى الولايات المتحدة بأعداد كبيرة في مطلع القرن الـ20، كان اليهود ممثلين بشكل كبير في الحركات المطالبة بالحقوق المدنية وحقوق المرأة والعمال والمثليين، وبحلول الثلاثينيات، وعلى رغم ازدهار نشاطهم المالي والاقتصادي، فقد صوتوا بغالبية ساحقة لصالح الديمقراطيين.

اليهود الأميركيون والصهيونية

وفي الوقت نفسه تقريباً، بدأت علاقة الحب بين اليهود الأميركيين والصهيونية، لكنها لم تهيمن على الحياة المجتمعية إلا بعد أن أدى النصر المفاجئ الذي حققته إسرائيل في حرب عام 1967 إلى ابتهاج اليهود الأميركيين، وأصبحت لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية المعروفة باسم "أيباك" التي كانت على وشك الإفلاس، أقوى مؤسسة لليهود الأميركيين بحلول الثمانينيات، وكما كتب ألبرت فورسبان، زعيم اليهودية الإصلاحية عام 1988، أن اليهود الأميركيين "جعلوا من إسرائيل أيقونة، وعقيدة بديلة، وكنيس بديل، وإله بديل".

ولهذا ليس من المستغرب أن اليهود الأميركيين سعوا منذ فترة طويلة إلى دمج هذين الالتزامين من خلال وصف الصهيونية بأنها قضية ليبرالية. واعتبر الليبراليون الأميركيون أنفسهم دعاة إلى المواطنة المتساوية بغض النظر عن العرق أو الدين أو العرق، على رغم أن الصهيونية التي قادت إسرائيل منذ تأسيسها فرضت الهيمنة اليهودية، فمنذ عام 1948 إلى عام 1966 احتجزت إسرائيل معظم مواطنيها الفلسطينيين بموجب القانون العسكري، ومنذ عام 1967 حكمت ملايين الفلسطينيين الذين لا يحملون أية جنسية على الإطلاق، ومع ذلك كان بوسع اليهود الأميركيين حتى وقت قريب أن يؤكدوا على صهيونيتهم من دون الطعن في انتمائهم الليبرالي.

ظهور الصوت الفلسطيني

كان السبب الرئيس هو غياب الفلسطينيين عن الخطاب العام الأميركي، ذلك أن حكاياتهم عن الصراع كانت تلقى قدراً كبيراً من الشك، وهو ما وصفه الناقد الأدبي الفلسطيني الأميركي إدوارد سعيد عام 1984، حين قال إن الفلسطينيين في الغرب يفتقرون إلى السماح لهم برواية تجربتهم الخاصة، وهو ما كان صحيحاً لعقود من الزمن بعد أن كتب هذه الكلمات، إذ وجدت دراسة أجرتها مها نصار من جامعة أريزونا أن من بين مقالات الرأي حول الفلسطينيين المنشورة في صحيفتي "نيويورك تايمز" و"واشنطن بوست" بين عامي 2000 و2009 كتب الفلسطينيون ما يقرب من واحد في المئة فقط منها.

لكن في السنوات الأخيرة، بدأ بعض الأصوات الفلسطينية في الظهور، على رغم أنها لا تزال محاصرة وخاضعة للرقابة، كما لجأ الفلسطينيون إلى وسائل التواصل الاجتماعي لمكافحة استبعادهم من الصحافة، وفي عصر النشاط السياسي الذي يقوده الشباب انضموا إلى الحركات المتعددة الجوانب التي شكلتها تجارب موازية من التمييز والظلم، في وقت اتجهت فيه إسرائيل إلى اليمين تحت قيادة بنيامين نتنياهو طوال العقدين الماضيين تقريباً، وأنتجت ساسة عنصريين بشكل علني لدرجة أنه لا يمكن الدفاع عن سلوكهم بمصطلحات ليبرالية.

التحول الكبير

يصنف عديد من نشطاء التضامن مع فلسطين بأنهم يساريون، وليسوا ليبراليون، لكنهم ساعدوا في تغيير الرأي الليبرالي من خلال انتقاداتهم اللاذعة مثلما فعل نشطاء حركتي "احتلوا وول ستريت" و"حياة السود مهمة"، فبعدما تعاطف الديمقراطيون مع إسرائيل في شأن الفلسطينيين بفارق 34 نقطة عام 2002، بحسب مؤسسة غالوب، أصبحوا يفضلون الفلسطينيين على إسرائيل بفارق 11 نقطة بحلول أوائل عام 2023، كما أن الانحراف المؤيد للفلسطينيين كان قوياً بين الشباب مقارنة بالأكبر سناً وفقاً لاستطلاع أجرته جامعة كوينيبياك في نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، وأظهر أن الديمقراطيين الذين تقل أعمارهم عن 35 سنة يتعاطفون مع الفلسطينيين أكثر من الإسرائيليين بمقدار 58 نقطة.

نظرة إلى المستقبل

ونظراً إلى هذه الفجوة بين الأجيال، تقدم الجامعات نظرة مسبقة للطريقة التي قد ينظر بها عديد من الليبراليين أو التقدميين، إلى الصهيونية في السنوات المقبلة، فقد أصبح دعم فلسطين سمة أساسية للسياسة التقدمية في عديد من الجامعات، ففي جامعة كولومبيا على سبيل المثال أعلنت 94 منظمة في الحرم الجامعي، بما في ذلك رابطة الطلاب الفيتناميين وجمعية العدالة الإنجابية ونادي الشعر، أنها "ترى فلسطين باعتبارها طليعة لتحريرنا الجماعي"، ونتيجة لذلك يجد الطلاب اليهود الصهاينة أنفسهم على خلاف مع معظم أقرانهم الناشطين سياسياً.

صاحب هذا التحول داخل الحرم الجامعي وخارجه ارتفاع في معاداة السامية (معاداة اليهود) المرتبطة بإسرائيل، بما يتماشى مع تقليد طويل وقبيح لدى الأميركيين في التعبير عن عدائهم تجاه الحكومات أو الحركات الأجنبية، من خلال استهداف المواطنين الذين ينتمون لدين أو عرق أو جنسية مع خصوم في الخارج، وهو ما يشبه العداء تجاه الأميركيين الألمان خلال الحرب العالمية الأولى، والعنف ضد المسلمين الأميركيين بعد الـ11 من سبتمبر (أيلول) 2001 والاعتداءات على الأميركيين الآسيويين خلال جائحة كورونا.

ومع ارتباط الصهيونية باليمين السياسي، أصبحت تجارب شباب الصهاينة الأميركيين في الجامعات التقدمية تشبه تجارب الجمهوريين الشباب، لكنهم على عكس الجمهوريين الشباب، نشأ معظم الصهاينة الأميركيين الشباب على الاعتقاد أن عقيدتهم كانت ليبرالية، وعندما التحق آباؤهم بالجامعة، نادراً ما تم تحدي هذا التأكيد في الحرم الجامعي نفسه، لكن الطلاب اليهود الذين ينظرون إلى الصهيونية باعتبارها عنصراً أساسياً في هويتهم، فإنهم غالباً ما يشعرون الآن وكأنهم غرباء.

انقلاب تاريخي

في عام 1979 لاحظ إدوارد سعيد أن الفلسطيني في الغرب يعني من الناحية السياسية أن تكون خارجاً عن القانون، وهو ما يظل صحيحاً في معظم أنحاء أميركا بما في ذلك واشنطن بحسب بيرنارت، لكن داخل المؤسسات التقدمية يمكن ملاحظة بداية انقلاب تاريخي، وهو أن الصهاينة هم الذين يشعرون الآن وكأنهم خارجون عن القانون.

 

 

ونظراً إلى إخلاص الجالية اليهودية الأميركية المعلن للمبادئ الليبرالية، التي تشمل حرية التعبير، فقد يتصور بعضهم أن المؤسسات اليهودية سترحب بهذا التحول الأيديولوجي من خلال حث الطلاب المؤيدين لإسرائيل على التسامح، بل والتعلم من أقرانهم المؤيدين للفلسطينيين، مقارنة بالتصريحات التي أدلت بها الجماعات اليهودية في الماضي حين أعلنت رابطة مكافحة التشهير قبل سنوات أن "جامعات بلادنا تعمل كمختبرات لتبادل وجهات النظر والمعتقدات المختلفة، وأن خطاب الكراهية محمي بموجب التعديل الأول للدستور".

استثناء معاداة الصهيونية

لكن مع تزايد المشاعر المؤيدة للفلسطينيين في أميركا التقدمية، يبدو أن الزعماء اليهود المؤيدين لإسرائيل استثنوا معاداة الصهيونية، وشهدت الجامعات الأميركية جهوداً مكثفة للحد من الخطاب المؤيد للفلسطينيين، بما في ذلك دفع رئيستي جامعتي هارفرد وبنسلفانيا إلى الاستقالة بعد مواجهة ساخنة مع الجمهوريين المتشددين في مجلس النواب الأميركي.

وفي حين أن بعض الديمقراطيين يربطون كذلك بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، فإن السياسيين وقادة الأعمال الأكثر حرصاً على قمع الخطاب المؤيد للفلسطينيين هم المحافظون الذين يربطون مثل هذا الخطاب بأجندة التنوع والمساواة والشمول التي يكرهونها.

ولم يقتصر هذا التوافق بين المؤسسة التنظيمية اليهودية الأميركية واليمين الذي يقوده ترمب على الجامعات، إذ اصطفت رابطة مكافحة التشهير مع الجمهوريين الذين يريدون إسكات الناشطين اليساريين في الحرم الجامعي، وأيدت "أيباك" 109 جمهوريين عارضوا التصديق على انتخابات 2020، في محاولة منها للحفاظ على الدعم الأميركي غير المشروط لإسرائيل، بما أن الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس هم أكثر حلفاء "أيباك" الذين يمكن الاعتماد عليهم.

تحالف غير مريح

غير أنه بالنسبة إلى عديد من اليهود الأميركيين الذين ما زالوا يعتبرون أنفسهم تقدميين وصهاينة على حد سواء، فإن هذا التحالف المتنامي بين المؤسسات الصهيونية الرائدة والحزب الجمهوري "الترمبي" يبدو غير مريح، لكنهم على المدى القصير، يطمئنون أنفسهم بأن الرئيس بايدن، تعكس وجهات نظره حول كل من إسرائيل والديمقراطية الأميركية آراءهم تقريباً، كما وصف شومر هؤلاء الصهاينة الليبراليين بأنهم "الغالبية الصامتة" لليهود الأميركيين.

وقد يكون شومر على حق في الوقت الراهن، لكن في السنوات المقبلة، مع قيام تيارات الأجيال بسحب الحزب الديمقراطي في اتجاه أكثر تأييداً للفلسطينيين ودفع المؤسسة الأميركية المؤيدة لإسرائيل إلى اليمين، فمن المرجح أن يجد الصهاينة الليبراليون صعوبة أكبر في التوفيق بين عقيدتيهم، وهو ما يقدم للشباب من اليهود الأميركيين لمحة عن ذلك المستقبل الذي يقرر فيه جناح كبير منهم أنه من أجل التمسك بمبادئهم التقدمية، يجب عليهم التخلي عن الصهيونية واحتضان المواطنة المتساوية في إسرائيل وفلسطين، مثلما يفعلون في الولايات المتحدة.

وبالنسبة إلى المؤسسة اليهودية الأميركية التي تساوي بين معاداة الصهيونية ومعاداة السامية، فإن هؤلاء اليهود المناهضين للصهيونية يشكلون لها كتلة غير مريحة، ولجأوا إلى معاقبتها كلما سنحت الفرصة، فبعد أن أوقفت جامعة كولومبيا مجموعتين مناهضتين للصهيونية في الحرم الجامعي، شكرت رابطة مكافحة التشهير اليهودية قادة الجامعة على تصرفهم "لحماية الطلاب اليهود"، على رغم أن إحدى المجموعات الموقوفة كانت "الصوت اليهودي من أجل السلام". وفي أحيان أخرى يصف القادة المؤيدون لإسرائيل اليهود المناهضين للصهيونية بأنهم مجموعة هامشية.

من النهر إلى البحر

يقول باحثون فلسطينيون مثل مها نصار وأحمد الخالدي إن عبارة "من النهر إلى البحر، فلسطين ستكون حرة" لا تعني ضمناً استعباد اليهود، بل إنه يعكس بدلاً من ذلك الاعتقاد الفلسطيني القديم بأن فلسطين كان ينبغي أن تصبح دولة مستقلة عندما تحرر من السيطرة الاستعمارية الأوروبية، وهي الرؤية التي لا تمنع اليهود من العيش بحرية إلى جانب جيرانهم المسلمين والمسيحيين.

 

 

وتوافق الجماعات اليهودية الأقرب إلى حركة التضامن مع فلسطين على ذلك، إذ جادل فرع لوس أنجليس لمنظمة "الصوت اليهودي من أجل السلام" بأن الشعار ليس معادياً لليهود مثلما لا يعني تفسير استخدام عبارة "حياة السود مهمة" على أنها مناهضة للبيض، وإذا كانت حركة التضامن مع فلسطين في الولايات المتحدة تدعو إلى إبادة اليهود، فمن الصعب تفسير سبب انضمام كثير من اليهود إلى صفوفها، وهو ما يشير إليه الحاخام أليسا وايز، أحد منظمي حركة حاخامات من أجل وقف إطلاق النار، حين يقول إنه بخلاف الفلسطينيين، لم تكن هناك مجموعة أخرى بارزة في الاحتجاجات ضد الحرب مثل اليهود.

ومع ذلك يرى بيرنارت أن تصور "فلسطين حرة" من النهر إلى البحر يتطلب تصور أن اليهود الإسرائيليين سيتحولون إلى فلسطينيين، وهو ما يمحو هويتهم الجماعية بما يعد خروجاً عن الرؤية الأكثر شمولاً التي حددها إدوارد سعيد وغيره منذ سنوات.

تناقض الهوية

ومع انشقاق عديد من اليهود الأميركيين عن البيئة الصهيونية التي نشأوا فيها بعد أن قاموا بهذا التحول المؤلم، الذي يمكن أن يؤدي إلى قطع العلاقات مع الأصدقاء والعائلة، إلا أنهم قد يرغبون في الاهتمام باليهود في إسرائيل، في وقت يريدون دفع حركة التضامن مع فلسطين من أجل إدراجهم بشكل أكثر وضوحاً في رؤيتها للتحرير، بنفس روح ميثاق الحرية الذي اعتمده المؤتمر الوطني الأفريقي وحلفاؤه أثناء الفصل العنصري، الذي أعلن أن جنوب أفريقيا ملك لكل من يعيش فيها، من البيض والسود.

وعلى مدى عقود بنى اليهود الأميركيون هويتهم السياسية على تناقض يتمثل في السعي إلى الحصول على المواطنة المتساوية هنا في أميركا، ولكن أيضاً الدفاع عن تفوق وسيادة اليهود هناك في فلسطين، لكن الآن هنا وهناك يتقاربان، وفي السنوات المقبلة، سيتعين عليهم الاختيار.

المزيد من تقارير