ملخص
لا يزال كتاب "البخلاء" للجاحظ الذي يعد من عيون التراث الأدبي العربي، قادراً على مخاطبة القارئ المعاصر، وجعله يكتشف أبعاداً سوسيولوجية، كامنة وراء طابع الأدب الساخر الذي يتميز به هذا الكتاب الفريد.
في العام 1900، أصدرت دار "برل" في ليدن كتاب "البخلاء" لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ، بتحقيق المستشرق فان فلوتن. وقد أسدى فلوتن للأدب العربي منة لا تكاد تقدر، على الرغم مما شاب تحقيقه من أسباب النقص ومظاهره، فلولاه لظلَّ هذا الأثر الجليل حبيساً حيناً من الدهر وظل الجاحظ مختفياً عن قراء العربية بأمثل آثاره الفنية، وأجدرها بتمثيل قيمته الأدبية، كما جاء في تصدير الأستاذ في كلية الآداب في جامعة الإسكندرية طه الحاجري لتحقيق لاحِق لمخطوطة الكتاب نفسه. ويرى الحاجري أن أهمية "البخلاء" ترجع إلى أنه قد حوى لوناً جديداً من ألوان الأدب العربي واتجاهاً فريداً بين اتجاهاته. وفي 1905 ظهرت الطبعة المصرية الأولى من كتاب "البخلاء"، عن دار نشر خاصة، "لكنها جاءت نسخة مشوَّهة من النشرة الأوروبية"، بحسب ملاحظة الحاجري. ثم ظهرت طبعة أخرى عن وزارة المعارف (التعليم حالياً) نقلاً عن فلوتن أيضاً، بتحقيق أحمد العوامري وعلي الجارم، "لكن غلب عليها الطابعُ المدْرسي، من دون إيلاء الاهتمام الكافي لتصحيح النص، فضلاً عن أنها تعرَّضت لحذف بعض ما جاء في الأصل بداعي تخطي ما عسى أن يمس الحياء"!
ثم ظهرت طبعة سورية تتكئ كذلك على جهد فلوتن، إلا أنها امتازت عن الطبعتين المصريتين بمراجعة آراء بعض العلماء في مواضع من النص، وقد عقَّب عليها داود الحلبي في سلسلة مقالات نشرها في المجلد العشرين من مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق. ويرى الحاجري أن تلك الطبعات "افتقدت للدقة، ففيها كثير من التجني على المخطوطة، كما أن فيها كثيراً من الخطأ في القراءة، وسوء النقل، ولذلك فإن في الاعتماد عليها مجازفة لا تتفق مع الروح العلمية". وذلك ترتَّب عليه – بحسب الحاجري - أن بعض مواضع النص شابَها الغموض والاستغلاق على الفهم، كما جاءت مواضع أخرى ركيكة سقيمة العبارة متنافرة مع الصياغة العربية. ولا ريب أن جزءاً كبيراً من تبعة ذلك يقع على اضطراب النص في المخطوطة الوحيدة التي اتكأ عليها فلوتن، فضلاً عن اشتباه الحروف العربية بعضها ببعض في كثير من الكلمات، "مما يحتاج في تبين الوجه فيه إلى بصيرة قوية تمدها الروح العربية، وإلى خبرة كبيرة في قراءة المخطوطات، لإدراك ما يمكن أن يقع فيه الناسخون من أخطاء".
طائفتان من المصادر
واعتمد طه الحاجري في تحقيقه الذي صدرت أخيراً طبعة جديدة منه ضمن سلسلة "الذخائر" (الهيئة العامة لقصور الثقافة – القاهرة) على طائفتين من المصادر: مباشِرة وغير مباشِرة. أما الأولى فتتألَّف مِن المخطوطة التي اعتمد عليها فان فلوتن، ومخطوطة أخرى محفوظة في مكتبة باريس الأهلية. أما المصادر غير المباشرة، فتتمثل في الكتب المختلفة التي رجع إليها المُحقق في تخريج الآثار والشواهد التي ضمَّنها الجاحظ كتابه، ثم الكتب التي تضمَّنت بعض المقتبسات من كتاب "البخلاء". ويلاحظ أن مخطوطة مكتبة باريس التي تتألف من 76 صحيفة، ومسطرتها 15 سطراً، ليست سوى قطعة من كتاب "البخلاء" تمثل نحو ثلثه، مقارنة بمخطوطة مكتبة كوبريلي التي تتكون من 287 صحيفة، ومسطرتها 17 سطراً، وهي مكتوبة بخط نسخي سنة 699 هـ واقتناها كثيرون في أوقات مختلفة، إلى أن انتهت إلى الوزير العباس أحمد بن الوزير أبي عبد الله محمد المعروف بكوبريلي، فوقفها بخزانته، وأغلب الظن أنها منقولة عن أصل لا يزال مجهولاً، وتعتبر أفضل بكثير من حال مخطوطة مكتبة باريس التي يكثر فيها التصرف في عبارة الجاحظ، والتحريف والتصحيف والسقط أو الاختصار والاكتفاء ببعض الكلام عن بعضه. ومع ذلك – يقول الحاجري – فإنها لا تخلو من قراءات طيبة، كان لها قيمتها في تصحيح النص. واجتهد الحاجري في كشف كثير من غوامض النص، وهيّأ السبيل إلى فهمه وتذوقه وتبن ما بينه وبين الحياة من صلات وثيقة، ما يعد أساساً لدراسته دراسةً عميقة.
حداثة الجاحظ
ولا ترجع أهمية كتاب "البخلاء" للجاحظ إلى كونه واحداً من عيون التراث الأدبي العربي فحسب، ولكن تكمن تلك الأهمية – كما يقول الحاجري - في معنى الفرادة، تلك التي يتميّز بها أسلوب الجاحظ، وفي جوهر فكرة الحداثة - التي إن تحققت في عمل أدبي لحقت به في كل العصور - ثم في الجِدّة والإحاطة، وهما صفتان وسمتا مؤلفاته، وجعلتاها منبعاً صافياً للمتعة وتجدُّد القيمة. هنا، نطالع صورةً بانورامية للمجتمع الذي عاش فيه المؤلف بجميع طبقاته وأفراده. نتحسّس تفاصيل ملامحهم وخصائصَهم النفسية من غير تصنُّعٍ ولا مداراة. وعبر حكاياتِ الكتاب تنتقل النبرة من لسان إلى لسان، حيث ينطقُ العامةُ والحمقى والصعاليكُ والزُّطُّ (الغجر) واللصوص، وينطق الخلفاءُ والأمراءُ والوزراءُ وقُوّادُ الدولة وكبارُ كُتابها. وإذا نطقَ كلُّ هؤلاء، فلا غرو أن تنبح كلابُهم، وتعويَ ذئابُهم، وتصيح ديوكُهم البخيلة وهي تعدو، كي تسلبَ الحَبَّ من مناقير الدجاج. يتخفى الجدُّ في ثوب الهزل، وينقلب الهزلُ جدّا، وتتحرك مفردات اللغة عفيَّة حُرَّة عبر القرون، حتى تتراقصَ حروفها حيَّة نابضة أمام عيوننا، بحسب التعليق الذي أرفقه الحاجري بتحقيقه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتبر كتاب "البخلاء" من أشهر كتب الأدب الساخر العربية في زمانه، ووصف خلاله الجاحظ الحياة الاجتماعية في صدر الدولة العباسية أبرع وصف. ويدور الكتاب حول قصص وأحاديث البخلاء الذين قابلهم الجاحظ ضمن ظروف بيئته، فقام بتصويرهم بأسلوبه الفكاهي، دون أن يترك في نفوس القراء آثاراً سيئة حولهم. وللكتاب – كما جاء في تصدير الحاجري - أهمية كبيرة في كشف نفوس البشر وطبائعهم وسلوكهم، ويعد موسوعة علمية شاملة، كما أنه يمد القارئ بالكثير من المعلومات عن أسماء المشاهير، وأسماء البلاد وميزاتها وطباع سكانها وسلوكهم، ويروي مؤلفه القصص كنوادر تصور مواقف هزليّة بطريقة تدفع إلى نقد الواقع الاجتماعي سواء في زمنه، أو في الأزمان التالية له.
خصوبة الخيال
فالجاحظ كان إماماً من أئمة الكلام (الفلسفة) وزعيماً من زعماء المعتزلة، وكان عالماً محيطاً بمعارف عصره، وكان من رواة اللغة وآدابها وأخبارها، غابرها ومعاصرها. والجاحظ الأديب كان يتسم برهافة الحس وخصوبة الخيال وقوة الملاحظة ودقة الإدراك، متمكناً من التغلغل في دقائق الموجودات، واستشفاف الحركات النفسية المختلفة. كما كان متمكناً من العبارة الحيَّة النابضة، والتصوير الكاشف البارع الذي يبرز الصورة بشتى ملامحها وظلالها، في بساطة ودقة وجمال. ويرى الحاجري أن الجاحظ تميَّز كان ملماً بالمعارف الاجتماعية التي تربطها بالأدب صلة واضحة. وأتاح ذلك لنزعته الأدبية أن تتخذ من الحياة الاجتماعية موضوعاً لها. وفوق ذلك أمدَّته صفته الروائية بالمادة الصورية، بحسب الحاجري. ومن هنا كانت عبارته سمحة طيعة، وجاء أسلوبه اللفظي من أسمح الأساليب وأجملها، وأبعدها عن المعاظلة والتكلف وذلك التعثر اللفظي الذس سرجع في كثير من حالاته إلى قلة المحصول اللغوي، ثم لعله كذلك – يضيف الحاجري – من أدقها في الدلالة على ما يراد التعبير عنه. ذلك أن دراسته للغة وروايته لآثارها، واستبطانه لروحها، وطول إلفه – بتعبير الحجري- لأساليبها وعباراتها، قد وضع بين يدي نزعته الفنية ذخيرة حافلة منوعة من الصور اللفظية، والألوان اللغوية، تبرز بها فنها، فهي تستطيع أن تجد في يسرٍ ما يحقق لها الجمال والدقة في العبارة معاً.
وإذا كان الجاحظ قد أجاد في رسم شخصيات البخلاء في كتابه وفي إنطاقها بما هو أشبه بها، فإنما ذلك في حقيقته مظهر من مظاهر تلك الموهبة الفنية القوية، لا أثر من آثار بخله، كما اعتقد علي الجارم وأحمد العوامري، وإلا – يقول الحاجري – أن نخلع على رجل الفن الواحد جميع الصفات االمتناقضة التي وصف بها شخصياته وأبرزها فيها. والناظر في كتاب "البخلاء" يرى أن معظم الشخصيات التي رسمها الجاحظ فيه هم من طبقة التجار الأثرياء، باعتباهم أكثر الناس تقديراً للمال وأشدهم حرصاً عليه. ولا ريب أن لنشأة الجاحظ في البصرة حيث تكثر هذه الطبقة وتحتل فيها مكاناً ظاهراً واتصاله على نحو ما ببيئاتها، مما كان له أثره في اتجاهه إلى تصويرها، وفي هذه النظرة المتغلغلة التي استطاع أن يكشف بها كثيراص من خفياتها ودقائقها وأن يعبر تعبيراً دقيقاً واضحاً عما يخالجها من مشاعر قلقة مضطربة بين المال وإيثاره والحرص عليه والمغلالاة به، وبين هذه الحياة المترفة التي اصطنعوها وما تلزم به أهلها وتأخذ به من أصحابها.