Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

هل تؤسس الصين لنموذج أمني في أفريقيا؟

أفردت بكين في "الكتاب الأبيض" لعام 2019 مساحة كبيرة لحماية مصالحها في الخارج كإحدى استراتيجياتها الجديدة

بدأ الحزب الشيوعي الصيني يستخدم تكتيكاته ووسائله الداعمة مثل "القوة الناعمة" لتحقيق أهدافه (رويترز)

ملخص

بدأت الشركات الأمنية الصينية العمل في أفريقيا لحماية الشركات الصينية المملوكة للدولة، التي تعمل في القارة السمراء، ثم نشط التعاقد الأمني الصيني مع شركات الأمن الأفريقية لحماية مشاريع مبادرة "الحزام والطريق".

وتهدف الصين إلى التحول لقوة عسكرية وأمنية معيارية بعد أن حققت نجاحاً في الوصول إلى كونها قوة اقتصادية ضاربة.

تجتذب القارة الأفريقية كثيراً من الأضواء فتظل بفعل أحداث متواترة في بؤرة الاهتمام العالمي والإقليمي، وتنبع كثافة الاهتمام الأخيرة من تزايد الانقلابات العسكرية خلال السنوات القليلة الماضية، على رغم محاولات الحد منها وإقامة الديمقراطية، إذ تشهد أفريقيا بروز جنرالات بصبغات سياسية وأيديولوجية مناوئة للغرب.

ومع تزايد شراكات الصين مع الدول الأفريقية على مدى ثلاثة عقود، لكن القلق العالمي في شأن أنشطة النفوذ الصيني تحول تدريجاً إلى حالة من الهلع بعد اتجاه بكين إلى التعاون العسكري الذي كانت تطغى عليه الشراكات الاقتصادية والتجارية مع دول القارة، كما كان يحد منه التزام الصين بمبادئها الخمسة في العلاقات الدولية، ومن ضمنها "عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول".

ومع دخول التعاون العسكري كمكمل للتعاون الاقتصادي والثقافي حقبة جديدة، بدأ الحزب الشيوعي الصيني يستخدم تكتيكاته ووسائله الداعمة مثل "القوة الناعمة"، لتحقيق أهدافه. وينطبق ذلك مع رؤيته "عمل الجبهة المتحدة"، التي اتجهت الصين بفضلها إلى مشروع تقديم الخدمات الأمنية وفقاً لنظام المقاولات. وبدأت الشركات الأمنية الصينية العمل في أفريقيا لحماية الشركات الصينية المملوكة للدولة، التي تعمل في مجالات النفط والغاز ومشاريع البنى التحتية مثل السكة الحديد والمناجم وغيرها، ثم نشط التعاقد الأمني الصيني مع شركات الأمن الأفريقية لحماية مشاريع مبادرة "الحزام والطريق". وتنفق الشركات الصينية المملوكة للدولة نحو 10 مليارات دولار سنوياً على الأمن، وفقاً لمركز أبحاث الأمن والدفاع الخارجي الصيني ببكين، حتى وصلت إلى أكبر نمو للإنفاق الأمني في الخارج للعام الماضي 2023.

 

استراتيجية جديدة

وأفردت الحكومة الصينية في "الكتاب الأبيض" لعام 2019، مساحة كبيرة لحماية المصالح الصينية في الخارج كإحدى استراتيجياتها الجديدة. ومع أنها لا تزال حذرة من الانتشار الأمني الواسع لقواتها لاعتبارات جيوسياسية متعلقة بالحفاظ على منظومتها الأمنية، لكنها تتعامل مع التعاون العسكري الصيني - الأفريقي كأولوية، ذلك أن بإمكانها التحول إلى قوة استراتيجية عالمية من قلب أفريقيا بشروط ميسرة، وبيئة متساهلة، على عكس الدول الأخرى التي تضع قيوداً على هذا التعاون.

ويستخدم الحزب الشيوعي الصيني وزارة الأمن العام الصينية وجهاز الشرطة الوطنية وقوة الأمن الداخلي، في جميع أنحاء العالم بطرق تراها الولايات المتحدة تهدد مصالح الأمن القومي الأميركي من خلال التأثير في إدارة قطاع الأمن لتقويض احترام سيادة القانون والدول وحقوق الإنسان. وفي عهد الرئيس الصيني شي جينبينغ، قامت وزارة الأمن الداخلي بتوسيع أنشطتها الخارجية، مستخدمة بصورة متزايدة التعاون الأمني كأداة لتوسيع نفوذها وإعادة صياغة المعايير العالمية وفق "خصائص صينية".

من ناحية أخرى، يعكس التعاون الأمني رغبة بكين في الترويج لأعراف المنظومة الأمنية الصينية في أفريقيا، إذ قدمت بكين، خلال السنوات الماضية، خدمات تدريب لأفراد أجهزة الأمن وقوات الشرطة الأفريقية، واستوعبتهم في عديد من أكاديميات الشرطة والأمن في الصين.

زمام القيادة

هذا التحول من قبل الصين التي ظلت ملتزمة سياسة عدم التدخل لوقت طويل، إلى أن تكون وسط دائرة الضوء، يعكس عدداً من الأهداف التي يسعى إلى تحقيقها الحزب الشيوعي الصيني. الهدف الأول، سعي الصين إلى أن تمتلك زمام القيادة العالمية، وبدأت ذلك بإنشاء منظمات إقليمية موازية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي مثل منظمة "شنغهاي" للتعاون، وتكتل "بريكس" وغيرهما. والثاني، تحويل الصين إلى قوة عسكرية وأمنية معيارية بعد أن حققت نجاحاً في الوصول إلى كونها قوة اقتصادية ضاربة، تدفع ذلك رؤية جينبينغ "التجديد العظيم للأمة الصينية"، مما يوسع احتمال استخدام جيش التحرير الشعبي استباقاً لتحقيق السيطرة على بحر الصين الجنوبي، أو غيرها من الخطوات المبذولة لتأكيد سيادة الصين على مناطق مثل تايوان. أما الثالث، فرغبة الصين في خلق انطباع بوجود دعم دولي لها، ويمكنها تحقيق ذلك من دول الجنوب العالمي من خلال فكرتها القديمة "تعاون دول الجنوب - جنوب"، لا سيما أن النمط الأمني والعسكري الصيني يمكن تقبله في أفريقيا أكثر من غيرها من الدول.

والهدف الرابع، كثير من المواقع في أفريقيا التي تدير الصين استثماراتها فيها خصوصاً النفطية والمتعلقة بمناجم الذهب والألماس وغيرها، تكون في مناطق غير آمنة ومحفوفة بالأخطار ما يستلزم وجود حماية أمنية. والهدف الخامس، استخدام الصين هذا النفوذ العسكري الأمني ضد وجود الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا في أفريقيا، ومع أن الوجود العسكري للصين ضعيف مقارنة بالوجود العسكري الأميركي، ليس في أفريقيا وحدها وإنما في كل العالم، إلا أن واشنطن بدأت في التململ من المشاركة في مهام حفظ السلام أو الحروب، واقتصرت على حماية مصالحها، وقواعدها العسكرية، ومع ذلك تتقاطع القوات المسلحة للولايات المتحدة مع جيش التحرير الصيني في مجالات الفضاء الإلكتروني وأنماط بعض الحروب الأخرى.

دعم الشرعية

كل هذه الأهداف يمكنها بمجهود تبذله الصين من أجل اكتساب الثقة العالمية أن تدعم شرعية الحزب الشيوعي الصيني والقبول به عالمياً مما يحقق الاحترام الدولي للصين، وما يساعد على تحقيق هذه الأهداف تمتع الصين بشعبية واسعة في أفريقيا، ويعود ذلك إلى عوامل تاريخية واقتصادية تتعلق بالفرص التي توفرها الصين وإنعاش التجارة والاقتصاد، إضافة إلى الفرص التعليمية وتنمية الموارد البشرية. فقد تمكنت وزارة الأمن العام من إقامة دورات تدريبية حول الأنظمة القانونية والقضائية في الصين لمسؤولين من مجموعة دول أفريقية، وحضر ضباط الشرطة الأجانب دورات تدريبية حول النظام القضائي الصيني، وتشريعات مكافحة الإرهاب، وتشريعات مكافحة المخدرات، وقوانين الأمن السيبراني. كما وفر جهاز الشرطة الصينية المساعدة المادية لأجهزة الشرطة والأمن في عديد من الدول الأفريقية، وتبرع بمعدات الشرطة المختلفة وأجهزة تقنية، كما دعم مشاريع البناء وإعادة تأهيل وتوسيع أكاديميات الشرطة في هذه الدول.

اقرأ المزيد

نقد موجه

ومع بروز بعض التيارات الليبرالية التي تنادي بانتخابات توصل شعوب القارة الأفريقية إلى انتخابات تفضي إلى حكومات مدنية في دول ديمقراطية، بدأ نوع من النقد الموجه للنموذج الصيني في شأن المعايير الراسخة للحزب الشيوعي الصيني، وسيطرته المطلقة على الأجهزة السياسية والأمنية في الدولة. وينطلق هؤلاء من النظر إلى أفراد الأجهزة الأمنية الصينية المتعاونة في أفريقيا بوصفهم ممثلين لحكومتهم وليسوا شركات خاصة، ولا ينكر الصينيون ذلك، كما أن تجربة الشركات الأمنية الغربية والروسية تركت انطباعاً سيئاً في نفوس الأفارقة، ومع الاختلاف بينها وبين شركات الأمن الصينية، إلا أنه ينظر إليها نظرة سلبية.

وشرع هؤلاء في مقارنة النموذج الأمني الصيني التابع للحزب الشيوعي مع النموذج الأفريقي المحدث وفقاً لقانون الشرطة النموذجي لبرلمان عموم أفريقيا الصادر عام 2019 في أفريقيا، والذي يشدد على أن أجهزة الشرطة تشترك في الرقابة البرلمانية، ولكن سرعان ما خفتت هذه الأصوات بموجات انقلابية شملت معظم دول القارة، وعاد الجنرالات إلى التقرب إلى الصين مرة أخرى والقبول بنموذجها.

تدويل الأمن

وفي صميم المنافسة بين الصين والولايات المتحدة، هناك صراع حول التفوق ومن يسيطر على البنية الأمنية في العالم اليوم، لذلك عادة ما نجد أن الجهود الأميركية تصطدم بمشاريع صينية واسعة النطاق تصورها واشنطن على أنها تحد وجودي لـ"النظام العالمي القائم على القواعد" مثل هيمنتها على برمجيات إدارة العمليات اللوجيستية. ومع ذلك، فإن الصين تنطلق من احتمال تراجع الولايات المتحدة كقوة بحرية عظمى، بسبب إجهاد قواتها في مناطق عدة منها الخليج العربي والبحر الأحمر وبحر الصين الجنوبي. كما تنطلق أيضاً لمواجهة رغبة الهند في التحول في أولوياتها من تحقيق مصالح اقتصادية إلى تطوير وجودها العسكري، ومن ضمنها الوصول إلى موقع يحقق لها إطلالة فريدة على أفريقيا. وقد أعلنت البحرية الهندية عام 2023، أنها سترسل ثلاث مدمرات موجهة تتميز بقدرات التخفي إلى بحر العرب والبحر الأحمر لحماية مصالحها التجارية، والدافع وراء ذلك الرد على هجوم على ناقلة كيماوية مرتبطة بإسرائيل قبالة سواحل الهند، وإعلانها أنها تعتزم "الحفاظ على وجود رادع"، كما أن مشاركة الهند النشطة في الوقت الراهن باعتبارها حليفة للولايات المتحدة، يمكنها أن تتكامل أدوارها معها داخل المجتمع الدولي في ما تراه واشنطن الحفاظ على الأمن والسلم الدوليين.

ومن ناحية أخرى تنادي بعض القيادات الأفريقية بتطوير التعليم العسكري المهني بخبرات أفريقية، ذلك أن التعليم في هذا المجال وسيلة يمكن من خلالها إضفاء الطابع المؤسسي على نظام الاحترافية العسكرية، وكذلك السعي إلى تحقيق هدف التنمية والرؤية الاستراتيجية والقيم بين القادة العسكريين في الدولة، وهو ما لا توفره التدريبات العسكرية التي تقدمها الصين، لأنها تركز على المهارات التكتيكية والكفاءات التشغيلية فحسب.

وفي رأي هؤلاء أن النموذج الصيني يقطع خطوط الاتصال للعلاقات بين المدنيين والعسكريين، ما يعرض القرار الأمني للخطر، ويحرم القادة المدنيين المنتخبين من وضع رؤية استراتيجية وسياسية تخدم المصالح الأمنية للدول الأفريقية، مما يستلزم أن يعهد بالقرارات للقادة العسكريين في حالات السلم والحرب.

النهج الأفريقي

عند تأسيس "الاتحاد الأفريقي" ليكون بديلاً لمنظمة الوحدة الأفريقية عام 2002، دعا القادة الأفارقة إلى إجراء تغييرات كبيرة في النهج الأفريقي تجاه الأمن والسلم، فشكل مجلس السلم والأمن الأفريقي لإدارة البنية الأمنية للاتحاد الأفريقي، وفق بروتوكول يحدد العناصر الرئيسة للنظام الأمني الجديد للاتحاد الأفريقي، ويركز على بناء نظام أمني قاري مكلف مهام منع وإدارة وحل الصراعات في أفريقيا.

وتوقع عدد من القادة الأفارقة أن تكون هذه التطورات بمثابة خطوة أولى نحو بناء سلام دائم في القارة وباعث على الأمل في البنية الأمنية للأفارقة من خلال الاتحاد الأفريقي، فأصبح لدى الاتحاد مراقبون عسكريون لحفظ السلام، نشروا في مناطق عدة منها بوروندي، وفي دارفور لمراقبة تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار الهش مرات عدة.

وأثبت مجلس السلم والأمن الأفريقي نجاحه في السنوات الأولى، ولكن تغيرت ظروف كثيرة بعد ذلك فبهت دوره. وبالموازاة تقود الصين منتدى دولياً هو "منتدى ليانيونقانغ" لإنفاذ القانون والأمن، أنشئ لتوسيع التعاون بين وزارة الشرطة ووكالات الأمن وإنفاذ القانون الأخرى في جميع أنحاء العالم ليضم نحو 40 دولة مع ممثلين للمنظمات الدولية مثل "الإنتربول" ومنظمة "شنغهاي" للتعاون. وتم تصميمه في الأصل لتنسيق الأمن داخل مبادرة "الحزام والطريق"، وامتد نحو الممرات الرئيسة للمبادرة بما فيها قارة أفريقيا، وتطور إلى دعوة بكين إلى زيادة التعاون في "التبادلات الاستخباراتية واستثمار القضايا".

المزيد من تحلیل