Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ريمسكي كورساكوف: بين التراث الروسي والتاريخ العربي وصولا لـ " شهرزاد" و"عنتر"

ولد الموسيقي الروسي عام 1844 لأب كان يريد لابنه أن ينخرط في سلك البحرية

ريمسكي كورساكوف (1908 - 1844) (غيتي)

ملخص

مع هذا تبقى "شهرزاد" العمل الأشهر بين أعمال ذلك الموسيقي الروسي الكبير الذي لم يشهد من القرن الـ 20 سوى سنواته الثماني الأولى، حيث توفي يوم 21 يونيو (حزيران) 1908، وكان قد بلغ أوج شهرته العالمية، وتحديداً بفضل قطعه التي استوحى فيها تاريخ الشرق وغرابته.

إذا كان اسم الموسيقي الألماني - النمساوي الكبير بيتهوفن هو أول الأسماء التي تخطر على بال القارئ العربي حين تذكر أمامه الموسيقى الكلاسيكية، فإن ما لا شك فيه أن المقطوعة الكلاسيكية الأشهر بالنسبة إلى هذا القارئ هي تلك التي تحمل اسماً "عربياً" تراثياً، والتي تعرّف العرب إليها عن كثب من خلال برامج الإذاعة المصرية، ولا سيما منها "البرنامج الثاني" القاهري الذي كان فتحاً في عالم الموسيقى الإذاعية في سنوات الـ 50 حين أدخله الدكتور حسين فوزي بشكل متجدد، وربما نعني هنا بالتحديد القصيدة السيمفونية المعنونة "شهرزاد". ولن يكون غريباً ان نجد أن كثيرين من المستمعين العرب يحفظون عن ظهر قلب اسم صاحب تلك القطعة الروسي ريمسكي كورساكوف، بل ثمة من يعرف أن له قطعاً أخرى ذات نكهة عربية هي أيضاً، منها قصيدته السيمفونية "عنتر" المتحدثة عن بطلنا الشاعر الجاهلي الكبير.

ومع هذا تبقى "شهرزاد" العمل الأشهر بين أعمال ذلك الموسيقي الروسي الكبير الذي لم يشهد من القرن الـ 20 سوى سنواته الثماني الأولى، حيث توفي يوم 21 يونيو (حزيران) 1908، وكان قد بلغ أوج شهرته العالمية، وتحديداً بفضل قطعه التي استوحى فيها تاريخ الشرق وغرابته.

 

توجهات أب وإرادة ابن

ولد نيكولاي ريمسكي كورساكوف في تيخفين (قرب سانت بطرسبرغ) عام 1844 لأب كان يريد لابنه أن ينخرط في سلك البحرية، فأدخله كلية "سانت بطرسبرغ" البحرية، وصحيح أن الفتى لم يحب حياة البحرية لكنه اضطر للبقاء في الكلية حتى يظل مقيماً في المدينة التي كان اسمها مرتبطاً في ذلك الحين بفن الأوبرا، ومن المؤكد أن فن الأوبرا هذا كان من أول الفنون التي وعى عليه الفتى الصغير، وقبل أن يُكتشف أن لديه مواهب موسيقية سوف تؤهله لأن يصبح لاحقاً ذلك الموسيقي الكبير. والحال أن الفتى نيكولاي، منذ اكتشف الموسيقى الأوبرالية وأولع بالتحديد بموسيقى ميخائيل غلينكا، اتخذ قراره الذي لم يتراجع عنه أبداً بعد ذلك: سوف يصبح مؤلفاً موسيقياً. ولذلك ما إن شبّ عن الطوق وبات في عمر بالكاد يؤهله إلى ذلك، حتى راح يرتاد المسارح وصالات "الكونسير" كل مساء. وتروي سيرة حياته أنه، وهو بعد في سنّ المراهقة، حاول ذات مرة أن يؤلف مقطوعة موسيقية فلم يفلح، ونتج من ذلك الفشل الذي لم يكن يتوقعه أنه كاد يصاب باليأس ويتخلى عن أحلامه الموسيقية كافة مكتفياً، كما سوف يقول لاحقاً، بأن يتحوّل إلى مستمع ومشاهد جيد، لولا ذلك اللقاء الذي جمعه، في عام 1861، بالموسيقي ميلي بالاكيريف الذي كان يكبره بثلاثة أعوام، والذي سرعان ما تبيّن أنه هو الآخر من كبار محبي الموسيقى والراغبين في تأليفها.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وكان ذلك اللقاء بين المراهقين حاسماً، أولاً لأن بالاكيريف أخذ يشجع كورساكوف على خوض التجربة الموسيقية من دون تردد، وثانياً لأنه عرّفه على حلقة أصدقائه التي كانت تضم، فيمن تضم، أسماء كانت الشهرة قد بدأت تدنو منها: موديست موسورغسكي، بورودين، وسيزار كوي. وهم معاً سوف يحملون اسم "مجموعة الخمسة" لاحقاً.

الموسيقى في عرض البحر

وسط هذه البيئة لم يتردد كورساكوف في اتباع نصائح بالاكيريف الذي دفعه دفعاً للعمل على كتابة سيمفونيته الأولى، غير أن كورساكوف لن يكمل تلك المحاولة السيمفونية الأولى في ذلك الوقت، وذلك لأن أباه الذي كان يشجعه في هوايته الموسيقية أو يغض النظر عنه على الأقل وسط بيئة عائلية واجتماعية رافضة، مات في تلك الأثناء ليتولى شؤون الفتى أخوه الذي لم يكن من محبّذي خوض أبناء العائلة في العمل الموسيقي أو أي عمل فني، بل كان من أنصار المهن العسكرية، لا سيما أنه كان قد أضحى مديراً للكلية البحرية، فأصرّ على أن ينخرط أخوه الصغير في البحرية عملياً الآن، ويمضي في البحر ثلاثة أعوام قبل أن يسمح له بالعودة لاستئناف حياته الموسيقية، إذ لمس عند الأخ الصغير إصراراً على الموسيقى مهما كلّفه الأمر. وأمام قبول الأخ الأكبر بالشرط الذي تم التوصل إليه، لم يجد الفتى بداً من إطاعة أخيه، فاتجه إلى عرض البحر، لكنه بدلاً من أن يبتعد عن هوايته الموسيقية هناك راح يغوص فيها أكثر وأكثر، وراح يقرأ حول الموسيقى وحول التاريخ ولكن كذلك حول التاريخ الشرقي الذي كان في ذلك الحين على الموضة بعد أن بدأت تتسرب من أوروبا أعمال فنية وأدبية تستلهم الشرق الأدنى وغرائبه، ولا سيما ترجمات "ألف ليلة وليلة" التي ستشكل خلال السنوات الطويلة التالية مصدر إلهام أساسياً لا ينضب للموسيقي الشاب، ذي الفضول الاستثنائي.

الشرق من دون تردد

وبعد انقضاء خدمته البحرية عاد كورساكوف ليستعيد علاقته برفاقه الموسيقيين، في الوقت الذي راح يغوص أكثر وأكثر في ابتكار المقاطع والجمل الموسيقية مستنداً في ذلك إلى قراءاته الشرقية.

وكان من الطبيعي له أن يعيد النظر فوراً في تلك السيمفونية الأولى التي كان تركها من دون استكمال، والتي كان صديقه وزميله بالاكيريف قد قاد فرقة موسيقية تولت عزف الجزء المنجز منها في عام 1865. وفي الوقت الذي كان فيه الموسيقي الشاب العائد يستكمل تلك السيمفونية راح موديست موسورغسكي، الذي كان واحداً من أوائل الذين آمنوا بموهبته الاستثنائية، يحثه على كتابة قصيدة سيمفونية بعنوان "سادكو"، ففعل. وبعدها كتب أوبراه الأولى بعنوان "إيفان الرهيب" (أو هذا هو على الأقل العنوان الذي عرفت به في أوروبا). وفي تلك الفترة نفسها قادته نزعته الرومانسية وغرامه بالتاريخ العربي إلى بدء كتابة قصيدته السيمفونية "عنتر". والطريف أنه بعد ذلك عُيّن أستاذاً للتأليف والتوزيع الآلاتي في كونسرفاتوار "سانت بطرسبرغ"، ليكتشف معيّنوه ما شكّل لهم مفاجأة ضخمة، اكتشفوا أنه جاهل لفنون التقنيات الموسيقية كافة، على رغم نجاح مؤلفاته، ما اضطره للتعلم حتى يتمكّن من التعليم.

ولقد كان من النجاح في تعلّمه وتعليمه أنه راح بعد ذلك يصحّح قطع رفاقه ويعيد النظر في قطعه نفسها. وظل كورساكوف أستاذاً في المعهد حتى 1905، غير أن تلك الأستاذية لم تشغله عن التأليف، إذ وضع خلال تلك السنوات بعض أجمل أعماله من "زهرة الثلوج" 1882 إلى "نزوة إسبانية" 1887، ثم "الفصح الروسي الكبير" 1888، و"خطيبة القيصر" 1900، وصولاً إلى "أسطورة المدينة غير المرئية..." 1907، و"الديك الذهبي" 1910، وهذه الأخيرة كانت قطعة لم توزع وتنشر إلا بعد موت مؤلفها في عام 1908. وكذلك كانت حال قطعته الأشهر "شهرزاد" التي لم تُعرف إلا بعد موته، وعزفت للمرة الأولى في عام 1911.

ثروات شعوب الشرق

ولقد تميزت موسيقى كورساكوف على الدوام بغرفها من ثروات التراث الشعبي الروسي، لا سيما من المناطق الإسلامية الجنوبية المتاخمة لروسيا، كما أن رومانسيته قادته إلى التاريخ العربي فوضع انطلاقاً منه بعض أشهر قطعه. ومهما يكن من أمر، إذا كنا قد ركزنا اهتمامنا في مطلع هذا الكلام على قصيدة كورساكوف السيمفونية المعروفة باسم "شهرزاد" والتي استخدمت مقاطع منها للتعبير عن الموسيقى التصويرية لبرنامج إذاعي مصري عن "ألف ليلة وليلة"، فإن ما لا بدّ من الإشارة إليه في هذا السياق عينه، هو أن الفرنسيين، وكما سيفعل المصريون لاحقاً، استخدموا مقاطع طويلة من "عنتر"، قصيدة كورساكوف "العربية" الأخرى كموسيقى تصويرية لمسرحية مغناة كتبها الكاتب المسرحي اللبناني شكري غانم المقيم والعامل في فرنسا، والكاتب باللغة الفرنسية عن "عنتر" حين قدمت في باريس في عروض صاخبة أواخر القرن الـ 19 محققة للكاتب اللبناني كما للموسيقي الروسي شهرة فائقة ولا سيما أن ألحانها الشرقية باتت معتمدة بوصفها هي الموسيقى العربية الخالصة، من دون أن تكون بالضرورة عربية طبعاً. لكن قصيدة "عنتر" السيمفونية لم تنل من الشهرة المقدار الذي حققته "شهرزاد" بفضل حسين فوزي والإذاعة المصرية بينما طغت شهرة موسيقى الشاعر الفارس "الجاهلي" على شهرة حكواتية الليالي العربية في فرنسا التي يبدو أنها اكتشفت "عنتر" بأفضل مما فعلت لشهرزاد.

المزيد من ثقافة