Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هل يمكننا أن نفهم هايدغر فلسفيا باللغة العربية؟

مشير باسيل عون يقود خطوات القراء العرب في قراءة أعمال فيلسوف "الغابة السوداء"

هايدغر فيلسوف الكينونة والزمن (موقع فلاسفة أمان)

ملخص

كتاب المفكر والأكاديمي مشير باسيل عون "الإنسان في رعاية الكينونة: هايدغر في المتناول الفلسفي العربي، بيت الفلسفة، الفجيرة، 2024) يقرأ الفيلسوف الألماني الكبير هايدغر ويشرحه، لكنه في الوقت ذاته ينقله إلى العربية. من هنا أهميته وفرادته.

ليس خافياً على أحد صعوبة نقل هايدغر إلى العربية، بل إلى أية لغة أخرى. ذلك أن فيلسوف "الغابة السوداء" تعمد أن يتفلسف بلغة شاقة صعبة غير مألوفة، ربما لأنه تناول الكينونة التي عليه أن يعبر عنها باللغة. لكن كيف يمكن أن نعبر عن الكينونة، عن هذا الذي "ليس مثله شيء"، بلغة هي في أحسن الأحوال مخصصة لتناول الأشياء؟ ما اللغة المناسبة للحديث عن الكينونة؟ عن سر الكائنات الثاوي فيها؟

يبقى الكتاب مرجعاً أول ورئيساً في قراءة هايدغر وشرح عمارته الفلسفية بلغة عربية أنيقة سهلة واضحة. هذا لا يعني أن هايدغر صار سهلاً، وأن قراءة الكتاب لا تتطلب جهداً كبيراً من القارئ. فالكتاب من الكتب الكبيرة التي كتبت باللغة العربية خلال العقود الأخيرة. إنه كبير إذ تصعب قراءته، بل قليل سيقومون بذلك. الكتاب بمنزلة منجم لا ينضب من الأفكار الفلسفية الشائكة الفريدة التي تعود إلى هايدغر بالدرجة الأولى وإلى غيره من الفلاسفة الكبار. غني عن البيان التأثير البالغ الذي أحدثه هايدغر في فلسفة القرن الـ20. فوكو مثلاً يقول: بقيت هايدغرياً حتى تعرفت إلى نيتشه، فتغلب نيتشه على هايدغر. يمكن للقارئ النبيه أن يلاحظ بسهولة تأثير هايدغر في كتاب دلوز الأساسي الفرق والتكرار، على رغم أن دلوز لم يكن هايدغرياً.

أما الكتاب الذي بين أيدينا فيسد ثغرة كبيرة في ثقافة عشاق الفلسفة وطلابها، لا سيما أن ما يقدم بالعربية على مائدة هايدغر صعب الهضم ولعله، في أحيان كثيرة، أنتي-هايدغري. آمل بأن ننتهي من هذا النشاط حتى يتمكن القارئ أن يلقف من قراءة الكتاب مشروع هايدغر الفلسفي في خطوطه الرئيسة. بذلك يصبح لدينا ما نحكم به على ما يكتب بالعربية عن هايدغر.

الفيلسوف ليس من زمانه، وأيضاً ليس لزمانه! بل لزمان آخر آت، نأمل بأن يكون أفضل! هو ذلك الغريب الذي يفاجئنا بظهوره ولغته وأفكاره وأنظمته، وكأنه هبط علينا فجأة من كوكب آخر، ليوقظنا من سباتنا الذي نغط فيه من زمن بعيد، ويعيد تذكيرنا بالاندهاش الأول الذي غفلنا عنه! هايدغر هو ذلك الفيلسوف الذي أيقظنا من سباتنا الميتافيزيائي، وحاول أن ينقذنا من الضلال الذي أوقعتنا فيه الميتافيزياء الغربية.

هايدغر يفسر العالم عبر سؤال الكينونة

ينقل لنا إنغلس مقولة ماركس الشهيرة في كتابه "لودڤيغ فويرباخ ونهاية الفلسفة الكلاسيكية الألمانية": "إن الفلاسفة لم يفعلوا غير أنهم فسروا العالم بطرق مختلفة، إنما المهمة الآن تتقوم في تغيير". ومع ذلك، فإن الفيلسوف يغير العالم عندما يطرح مشكلات جديدةً ويبدع الأفاهيم المناسبة لها. وهو إذ ينشغل ببناء السيستام ليغني القول الفلسفي العالمي، فإنه يسهم ولو بصورة غير مباشرة، في تغيير العالم.

لذلك لا يكترث هايدغر لما يقوله ماركس، وإن كان يعده واحداً من الكبار. ويتابع ما قام به الفلاسفة منذ الفجر الإغريقي. صحيح أن فلاسفة ما قبل سقراط بحثوا عن المبدأ الأول أو العلة الأولى في العلل والمبادئ المادية. طاليس قال بالماء. هيراقليطوس قال بالنار. وغيرهما قال بالهواء أو التراب أو بالعناصر الأربعة. لكن هايدغر قال بالكينونة بوصفها "المبدأ" الأخير أو بالأحرى سر الكائنات المنغل فيها، لأن كلمة "مبدأ" ما زالت تحيلنا على ما يعترض عليه هايدغر في الميتافيزياء الغربية.

الفلسفة أصلاً مغامرة ومجازفة لا ندري سابقاً إلى أين ستأخذنا وماذا سيحل بنا جراء ولعنا وشغفنا بها. هذا ما كان عليه هايدغر الذي أعاد الاعتبار إلى مسألة الكينونة بعد أن غرقت طويلاً في النسيان. يمكن القول إن هايدغر بقي فيلسوفاً ميتافيزيائياً كلاسيكياً، وربما بالمعنى الدوغمائي أيضاً، أي بالمعنى الذي كان سائداً قبل كانط. ليست هذه حال هايدغر فقط، بل حال هيغل ونيتشه ودلوز وغيرهم أيضاً. هذا ما لاحظه ألان باديو عندما تحدث عن صديقه دلوز: "لينقل أن فلسفة دلوز، كما هي فلسفتي فضلاً عن ذلك، كلاسيكية بصورة مطلقة. ومن السهل بما يكفي تعريف الكلاسيكية في مادتها. فكل فلسفة لا تخضع لإيعازات كانط النقدية، وتتصرف كما لو أن المسار الذي اتخذه كانط للميتافيزياء باطل وغير معترف به، هي كلاسيكية".

من المعروف أن كانط، بعد "نقد العقل المحض"، ألغى إمكان قيام أية ميتافيزياء، لا سيما بالمعنى الكلاسيكي. لكن الفلاسفة من بعده، ومن ضمنهم هايدغر ودلوز، لم يتقيدوا بالحدود التي وضعها كانط للعقل المحض، إذ يبدو أن العقل البشري سيظل يتنطح للمطلق.

هايدغر دمغ القرن الـ20 بسؤال الكينونة

فكرت الكينونة (أو الوجود بلغة الأقدمين) عبر ثلاث نظريات: إما عبر نظرية تواطؤ الكينونة أي مشاركة معنى الكينونة، أو عبر التباس الكينونة أي مشاركة لفظ الكينونة، أو عبر تمثيل الكينونة. وعلينا تمييز الكينونة من الكائنات. فليس المقصود بالكينونة الكائنات الموجودة بل ما وراء الكائنات، أي ما يكون كينونتها بالذات. ساوى دلوز بين الفلسفة والأنطولوجيا. فالفلسفة ليست أنتروبولوجيا، بل أنطولوجيا وأنطولوجيا تواطؤ الكينونة تحديداً، الممتدة من بارمنيذيس إلى هايدغر، مروراً بدانس سكوت وسبينوزا ونيتشه.

لا شك في أن القرن الـ20 بدأ هايدغرياً بإعلانه أن الفلسفة نسيت الكينونة واهتمت بالكائنات. يقول باديو: "في الفلسفة يمكن القول إن زماننا كان قد دمغ ووقع بعودة سؤال الكينونة. لأجل هذا يهيمن عليه هايدغر. لقد حدد التشخيص وصنع بصورة صريحة، بعد قرن من النقد وبعد الفاصل الفيميائي (الفنومنولوجي)، ما أعاد تنظيم الفكر في تساؤله الأولي: ما المقصود بكينونة الكائنات؟". فالفلسفة تفكير الكينونة والفكر الذي يفكر هذه الكينونة. ومن ثم، يذهب باديو إلى أن بارمنيذيس ثبت "أن الكينونة والفكر شيء واحد والشيء نفسه". ويضيف: "كل مشروع فلسفي خلاق اليوم، […] يدعم، […] الأسئلة الثلاثة: ما المقصود بالكينونة؟ ما الفكر؟ كيف ننجز الهوية الماهوية بين الفكر والكينونة؟".

كتاب هايدغر "الكينونة والزمان" بمنزلة بحث عن العلة الأولى والمبدأ الأول، شرط ألا نفهم العلة الأولى والمبدأ الأول على هيئة الكائن. فالكينونة وراء كل شيء ولا شيء وراءها، وإن لم تكن الكينونة شيئاً من الأشياء، إذ ليس مثلها شيء. تكلم هايدغر عن الكينونة في ذاتها، وعلى الكينونة الحرة في اعتلانها وانحجابها، وعلى استحالة تمثلها أو تصورها.

صعوبة نقل هايدغر إلى العربية

يعاني عاشق الفلسفة ومحبها اضطراباً كبيراً في فهم هايدغر بالعربية، بل من سوء فهم أيضاً. ولطالما كان طالب الفلسفة في الجامعة اللبنانية في الأقل يعاني ثغرة كبيرة في تكوينه الفلسفي، إذ لم يكن أحد يجرؤ على ترجمة هايدغر ونقله إلى العربية أو حتى إلى تعليمه في قسم الفلسفة. لكن منذ أعوام تجرأ فتحي المسكيني فترجم "الكينونة والزمان". واليوم مشير عون يجتهد فيقدم هايدغر بالعربية. لذلك انبرى مشير عون بعد أن درس هايدغر على أستاذه بولس الخوري يشرح هايدغر ويؤوله ويقرؤه قراءةً مختلفةً وينقله إلى العربية. وكانت ثمرة اجتهاده هذا الكتاب بعد 15 عاماً من العمل على هايدغر. غني عن القول إن عون يمتاز بلغته العربية السليمة السهلة المتينة الواضحة والعميقة في آن معاً. لذلك يحدثنا عن "رسالته" في نقل هايدغر إلى العربية، إذ يقول: "هل يمكننا أن نفهم هايدغر بلغة عربية سهلة أمينة بليغة تنصف الفيلسوف الألماني والقارئ العربي الرصين على حد سواء؟" ويضيف: "ما الذي يمنع القارئ العربي من إدراك جوهر المقاصد التي انطوى عليها مشروع هايدغر الفكري؟" ويقول أيضاً: "إن هذا الكتاب ثمرة 15 عاماً من التفكير والبحث والإنشاء والصوغ والتنقيح والتعديل والتهذيب والإضافة والاستزادة".

وعن أسلوبه في نقل هايدغر إلى العربية، يقول مشير عون: "مقارنةً بالدراسات الفلسفية العربية التي تناولت هايدغر، حرصت الحرص كله على أن تتميز نصوص هذا الكتاب بسهولة التعبير، وسلاسة الترجمة الفلسفية، ووضوح التحليل، وأصالة النحت اللغوي الذي يجتهد في سبك اصطلاحات هايدغر سبكاً أنيقاً يوائم على قدر المستطاع عبقرية اللغة العربية. لم أوفق في نقل جميع اصطلاحات هايدغر إلى العربية، إذ آثرت أن أحافظ، في بعض الأوضاع، على الأصل الألماني الذي أضحى يستثير فينا التفكير بمجرد النطق به في صيغته الأصلية، مثل اصطلاح الدازاين أو اصطلاح الإرأيغنيس، على سبيل المثال لا الحصر". وهذا ما يعانيه الفرنسيون أيضاً. إذاً، "إذا كان الإجماع الاصطلاحي متعذراً في ترجمة أعمال هايدغر إلى الفرنسية، فكيف لنا أن نفوز بإجماع عربي، وحال الترجمة عندنا يشوبها في الغالب التبعثر والارتجال". وهذا عائد بالدرجة الأولى إلى لغة هايدغر نفسها: "ذلك لأن اللغة التي أستخدمها تحرص على تبسيط مفاهيم هايدغر العسيرة، والتحليل الذي أسوقه يروم نزع الغموض البنيوي الذي تفرضه لغة هايدغر الألمانية، والتقويم الذي أقترحه يضع فكره في سياقه الإسهامي الموائم، فلا يمجده حتى العبادة، ولا يقبحه حتى الازدراء. إنها المنزلة المتوسطة التي يعسر الاعتصام بها جراء الوهج الاستقطابي الذي تستثيره شخصية الفيلسوف الألماني الاستثنائي هذا".

هكذا نجد أن أهل الاختصاص وأصحاب البحث يعانون "في فكر هايدغر مشقات جمة جراء نقل اصطلاحاته إلى العربية. والحال أنه يستحيل استعراض هذا الفكر في سياق الثقافة العربية المعاصرة من دون الاجتهاد في ترجمة المقولات الفلسفية الأساسية التي نحتها واحد من الفلاسفة الألمان في القرن الـ20". في هذا السياق، يضيف "لا بد […] من الإشارة إلى أن لغة هايدغر الألمانية عسيرة حتى على الألمان أنفسهم. لذلك حاولت قدر المستطاع أن أستخرج مضامين التحاليل التي أتى بها هايدغر في لغة عربية تروم أن تكون الأقرب إلى أذهان القارئ العربي".

ولا ينسى عون، وهو يعمل على هايدغر، جهود زملائه العرب الذين بذلوا جهداً كبيراً في تذليل العقبات اللغوية لاسيما فتحي المسكيني، وإن لم يتفقوا بعد على اصطلاحات هايدغر بالعربية. يقول عون: "يعسر الإجماع على ترجمة واحدة ننقل بها الاصطلاحات الألمانية الجريئة التي استحدثها هايدغر، أو الدلالات المبتكرة التي أضافها إلى الاصطلاحات الألمانية المألوفة في حقل التفكر الفلسفي. لذلك رسمت لي منهاجاً توفيقياً سلمياً منفتحاً منذ بدايات اعتنائي باستدخال هايدغر في فضاء القول الفلسفي العربي. وعزمت على النظر المتعاطف في جميع الاجتهادات الرصينة التي أخرجها أهل الاختصاص". ويخص فتحي المسكيني بالتفاتة مميزة، إذ يقول: "ولا بد لي من أن أخص بالذكر فتحي المسكيني الذي بذل جهداً عظيماً في ترجمة كتاب "الكينونة والزمان" حتى أخرج النص الألماني في صوغ عربي يليق بعمق مضامينه، ولو أن عبارته الشائكة الخاضعة للتعبير الألماني أفقدت نص الترجمة سلاسته العربية. […] أعرف أن قول هايدغر بالعربية شاق مضن. لذلك لا أقوى على تقويم جميع إسهامات المترجمين العرب، من فلاسفة وشعراء، في سياق هذا الكتاب".

كتاب عون

يتوزع الكتاب على 11 فصلاً إضافة إلى التوطئة. وكل فصل يبين عمارة هايدغر الفلسفية ويضيئها بطريقة مختلفة بحسب الموضوع الذي يتناوله الفصل بالبحث. وهذا ما يذكرنا بمونادات لايبنيتس، إذ تعبر كل مونادة عن الكون بمجمله، لكنها لا تنير بصورة واضحة إلا جانباً من جوانب الكون. يقول مشير عون: "لا بد هنا من الإشارة إلى أن كل فصل من هذه الفصول يحوي عناصر الفكر الضرورية التي تساعد في إدراك مشروع هايدغر برمته. ذلك لأن نصوصه نفسها تتصف بصفة التكرار الشمولي، إذ يندر أن يقع المرء على نص لا يستعيد باقتضاب أبرز سمات العمارة الفكرية التي أنشأها هايدغر".

وعن المواضيع التي يتناولها الكتاب يقول عون: "ينفرد هذا الكتاب بخصوصية تحليلية تجعله يظهر، ربما للمرة الأولى باللغة العربية، الخلفيات الفلسفية التي انتظمت بها تناولات هايدغر الأصيلة، وقد ائتلفت في مباحث الكينونة والإنسان واللغة والفسارة والتقنية والأخلاق والسياسة والدين. يستند البحث كله في هذا الكتاب إلى نصوص هايدغر الألمانية". هكذا يلاحظ القارئ العربي "فرادة النقد الصارم الذي صاغه هايدغر في إعادة قراءة التراث الفلسفي الميتافيزيائي برمته، منذ أفلاطون حتى نيتشه". إذاً، "كل فصل يتميز بقدرته على إدخال القارئ في عمارة هايدغر الفكرية وإفهامه أبرز الإسهامات التي انعقدت فيها".

فكر هايدغر منغرس في تربة الحياة

لا يمكن تجاهل الاختبارات الحياتية الوجودية التي عاشها هايدغر عندما نتناول فلسفته، ففكره منغرس في تربة الحياة، إذ "يجمع الباحثون على أن الأوضاع الوجودية التي اختبرها فيلسوف الغابة السوداء أثرت تأثيراً بالغاً في تطوير تناولاته واستقصاءاته وتحليلاته. ومن ثم، لا يستطيع المرء أن يدرك خصوصية المعاني التي نسبها هايدغر إلى الكينونة من غير أن يتأمل في اختباراته الحياتية العيلية والعاطفية والأكاديمية والسياسية. فكر الكينونة عميق الانغراس في تربة الحياة، على رغم التجريد المفرط الذي طغى على النصوص التي تتناوله". ويضيف: "الواقع أن اجتهادات هايدغر أشبه بفسارة شاملة تتأول كل اختبارات الإنسان في سعيه إلى فهم معنى الكينونة، أو كل مساعي الكينونة في عزمها على استيداع الإنسان سر حقيقتها".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

عنوان الكتاب الرئيس "الإنسان في رعاية الكينونة". ولهذا العنوان مغزى، إذ كيف يكون الإنسان في رعاية الكينونة؟ يقول مشير عون: "الواضح أن الكينونة عهدت إلى الإنسان برعايتها، شرط أن يصون لها حريتها في الاعتلان والانحجاب، ويضمن لها التواصل الحر والكائنات". وفي هذا السياق يقول: "أختم باستيضاح وجيز يتناول صيغة العنوان. كان المقصد من صوغه على هذا النحو أن أشير إلى أن الإنسان ترعاه الكينونة (الإنسان في رعاية الكينونة التي ترعاه)، والإنسان يرعى الكينونة (الإنسان في رعاية الكينونة التي يرعاها). كررت فعل الرعاية في العبارتين لأشير إلى أن الانقلاب الفكري الذي أحدثه هايدغر ينطوي على فعل الرعاية التضامنية بين الكينونة والإنسان، ولو أن مقام الصدارة ما برح ممنوحاً للكينونة الراعية، لا للإنسان الراعي. ذلك بأن فكر هايدغر يعتني بدايةً ونهايةً بمسألة الكينونة، لا بمسألة الإنسان. أما كيفية الاعتناء فتتجلى في هيئة الرعاية". إذاً، هناك رعاية تضامنية، بل تبادلية بين الإنسان والكينونة، لكن مع احتفاظ الكينونة الراعية بمقام الصدارة.

قراءة هايدغر تحرض على التفلسف العربي

صار هايدغر ممكناً بالعربية من بعد أن غدت عمارته الفلسفية ومشروعه الفلسفي حاضرين بالعربية في خطوطهما الرئيسة. فهل يكون هايدغر منطلقاً لتفلسف من نوع جديد يحتاج إليه العرب بل العالم أجمع؟ أفلم يكن هايدغر سباقاً في تناول التقنية وأثرها في الكوكب والإنسان؟ أفلم يكن الأول الذي تكلم على ميتافيزياء التقنية، أي على الخلفية الثقافية والمفترضات والمسلمات الفكرية التي تسندها؟

مواضيع كثيرة ما زالت راهنة ومثيرة ولافتة ومقلقة نجدها في كتاب "الإنسان في رعاية الكينونة: هايدغر في المتناول الفلسفي العربي". لذلك فإن تقديمه المقتضب بهذه الصورة لا يغني عن قراءته التي أنصح القارئ بأن تكون في البداية قراءة اجترارية حتى يستطيع هضم ما أتى به هايدغر، بل حتى يستطيع بالأحرى أن يصل إلى عمق ما أراده مشير عون في قراءته هايدغر وتأويله له، حتى مع الحفاظ قدر المستطاع على النقل الأمين. يبقى هايدغر فيلسوفاً كبيراً قلقاً ومقلقاً وصعباً وفريداً في اهتمامه بسؤال الكينونة في عز ازدهار الحضارة الأوروبية المادية التقنية. وربما تكون الحاجة اليوم إلى هايدغر أكبر من أي وقت مضى، لا سيما بعد عصر ما بعد الإنسان، أي عصر الإنسال كما اقترحنا تسميته. ومشير عون له فضل كبير في وضع هايدغر في متناول طلاب الفلسفة وعشاقها من العرب، عله يجعل القول الفلسفي بالعربية من جديد ممكناً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة