ملخص
تعبر قصيدة النثر الجديدة عن حضورها الحي اللافت، ورؤيتها المعاصرة، في 6 مجموعات شعرية صدرت حديثاً، لشاعرات عربيات من سوريا ومصر والمغرب. وإذا كان ثمة اتفاق على أن من غير الممكن تعيين محددات شعر نسوي في مقابل أبجديات شعر ذكوري، فمن المؤكد أيضاً أن ملامح كتابة المرأة الشعرية، المتجددة والمتمردة، تنفتح على تجارب وروافد ومكابدات وصياغات لها طبيعتها الخاصة، ورهافتها الاستثنائية.
تملك قصيدة النثر العربية الجديدة انزياحاتها الجريئة، وتحولاتها الدلالية ، وجمالياتها المتوهجة. وتمثل كتابة المرأة حالة فائقة الحساسية من هذه التجسدات الشعرية المتجاوزة. ويتحقق ذلك، ليس بالمفهوم النسوي الضيق، المنخرط فقط في قضايا جندرية، وإنما بالمفهوم الإنساني والإبداعي الأشمل، القائم على الوعي بالذات والآخر والوجود، والإرادة والمبادرة والتحرر والابتكار، وكسر الأطر المتحفظة، ومخالفة السائد المجاني والموروث الجامد، الذي لا يقبل النقاش.
وتعكس كتابة المرأة الشعرية الجديدة، في عدد من الدواوين الصادرة حديثاً لست شاعرات عربيات، هذه الملامح التمردية والتثويرية المتأججة، على مستوى الرؤية والفكرة والبنية والصورة والتخييل والمعالجة واللغة وغيرها. وهي دواوين/ مرايا، إذا جاز التعبير، على اعتبار أن المرأة/ الأنثى/ الرمز هي ملتقى معاني الخصوبة والتجدد والتفتح والتوليد والنماء والمثابرة والتحدي والقبض على الجمر وصناعة مادة الحياة، ولو كصبارة في صحراء قاحلة.
الحرب الأخيرة
في مجموعتها الشعرية "الحرب في طبعتها الأخيرة"، الصادرة عن دار "نينوى" للدراسات والنشر والتوزيع، تقف الشاعرة السورية لينا شدود بالمرصاد في مواجهة دعاة الحرب، وأعداء الحياة. ويتخطى فعل المقاومة لديها مجرد تخندق الذات، فالصبارة/المرأة/الأنثى بمقدورها أيضاً إشهار أسلحتها الجريئة لتقول كلمتها الحرة العالية "كم أفهمك يا صبارتي الآن، وأنت تطلقين أشواكك في وجه العالم".
ويستوي النضال الإنساني لديها ضد كل من يحاولون النيل منها، أو الانتقاص من كمالها، بدءاً من نملة صغيرة، وصولاً إلى الثقب الكوني الأسود "جميعهم يريدون حصتهم مني: الذبابة التي حطت على طعامي، الدود الذي يخرج من الأرض، الدود الذي ينتظر خروجي مني، الحرب الرهيبة، النمل وهو يغير على بيتي، الضجيج حينما يحتل فضائي، ويعطل رغبتي في أي شيء، ورقة التوت الهائلة التي تغشي بصري، صافرات الإنذار البعيدة والقريبة، طوابير الانتظار الراقية على مقربة من طوابير البؤس، رتابة الخضرة في ذاكرة منهكة، الوجوه الأسيانة وهي تحملق في الأبنية المهجورة، وتنادي.. يا وطن، المنحوتات القميئة المسماة زوراً بالفن، جشع ثقب الكون الأسود".
وتتوازى رغبة الذات الشاعرة في التحقق والتمرد والتحرر، مع تلك القدرة على رؤية الأمور بشكل مختلف عما هو ظاهري، والتعبير عنها بتقنيات شعرية مغايرة، إلى جانب استشفاف الأفكار المستغلقة وتفسير موسيقى الوجود بطلاقة وعذوبة "المغادرون يظنونني منهم، والعائدون كذلك/ أما المودعون، فيبادلونني نظرات الأسى/ لست هؤلاء جميعاً/ عند نقطة الوصول، أدركت أنني الهدف/ صرت أقرأ أفكار الكون بيسر، وأسمع موسيقاه".
امرأة برية
وفي ديوان "أطلس امرأة برية" للشاعرة السورية فرات إسبر، الصادر عن دار "التكوين" في إطار سلسلة "إشراقات" بإشراف الشاعر أدونيس، يتماهى الحضور الأنثوي/ الإنساني المتمرد مع عرامة انسياب الماء فوق البسيطة من دون حواجز، وشراهة انطلاق الطيور في الفضاء بغير قيود "أسمع صوت الماء/ بصمت العارف، أدرك أن امرأة مرت من هنا/ أفتح قفص صدري، وأطير عصافيره".
وفي تلك التحولات الطقسية، الحياة كلها كيان مؤنث، وأطلس المرأة البرية يقود إلى جغرافيات جديدة وبديلة وموازية للمتعارف عليه. وبعد الاكتساء الجسدي والروحي الكامل بزغب الطير، يأتي التحليق بأجنحة الحرية إلى أبعد مدى، ويصير قنص الغيمة، وأحياناً كسرها، فعلاً متاحاً ومستساغاً.
بدورها، تتسع الصورة ويتمدد التخييل الشعري مع اتساع الفكرة وشعور الذات بالقدرة على احتواء العالم كله، وتصير القصيدة تعبيراً عن تلك الرؤية اللانهائية "السماء تفتح ذراعيها/ أرى حضناً واسعاً، نصفه في الأرض، ونصفه الآخر في السماء".
سرير فرويد
وتغلف النزعة الفلسفية المتعمقة تجربة الشاعرة المصرية مروة نبيل في ديوانها "سرير فرويد"، الصادر عن منشورات "المتوسط". ومن خلال تلك الفلسفة، يسمو معنى التمرد فوق مفهوم الخروج عن الإطار، ليعني التمرد عدم وجود إطار أصلاً أو عدم الاعتراف به أو السخرية من وجوده "لماذا تضحك؟/ تضحك لأنني أخرج عن الإطار/ وأضحك لأنك تظن هناك إطاراً".
وتتحرر هندسة القصيدة نفسها من أي معايير وقياسات جاهزة، وذلك لأن الفوضى هي النظام الفعلي الكائن، الذي تؤمن به الذات الشاعرة المنحازة إلى تسمية الأشياء والأمور والظواهر والعلاقات بأسمائها الحقيقية "لم أكن أعلم أنني سأدرس الحوسبة والتعقيد، أمد جسوراً بين الجزر، ومن فرط السذاجة اسمي فوضاها نظاماً/ وسأمنح الوجود كوناً، ولن يمنحني إلا الفساد".
وتراهن الشاعرة المصرية، التي تكتفي بالقليل من الحب لكي يحررها، وسط تأملاتها الفلسفية ورؤاها المحكمة، على براءة الخيالات الشعرية البكر، والصور التعبيرية، والذهنية حتى، المثيرة للدهشة الطفولية، لطزاجتها وعفويتها وإحداثها المفارقة المكثفة "أن أعطیك السمكة، یعني أنني منحتك فرحة صياد".
شرر الكلام
ويتعانق انعتاق الروح وتحرر الجسد معاً في ديوان "أقدح شرر الكلام" للشاعرة السورية هند زيتوني، الصادر عن دار "التكوين" في إطار سلسلة "إشراقات". ويتقاطع التفتيش الأنثوي/ الإنساني عن الشفافية العليا مع تلمس البهجات الحسية القريبة، لتجد الذات حضورها المكتمل ولو في لحظة صغيرة منتهية "أبحث عن لحظة شفافة كانت تجمعنا، تحت شجرة الصدفة، حين كنا نلف الجسد بالرغبة".
وهذا التحرر الذاتي، ينسحب أيضاً إلى الآخر/ النصف الثاني/ الطائر الخرافي، الذي تتحقق معه، وبه، الغاية الكبرى للتمرد والتحرر والخلاص من دوامات الحيرة والتساؤلات، إذ تنسج القصيدة عوالمها وجمالياتها خارج جاذبية الأرض "كأننا وقعنا في شبكة استفهام/ لا فرق بين الحياة والموت إلا بالكلمات/ قد لا تكفي بذور الأرق، ليصهل الليل مبتسماً، ويغازل امرأة لم تعرف الحب، إلا في الحكايات/ تحلم بحبيب يفرد جناحيه كطائر خرافي".
وفي حين يغرق الوجود في بحر اللاجدوى، فإن القصيدة تظل مكتفية بذاتها، مؤمنة بإمكانية البناء الفني على غير مثال جمالي سابق، وإمكانية قدح شرر الكلام بما يكفي لانسلال نهارات إلى ظلام الروح، وما يكفي لشحن الجسد بطاقات هائلة، تمنحه قوته وهويته وإرادته وتحديه وصموده ضد التفكك والتحلل والتلاشي.
جراح المدينة
وفي ديوان "كم جرح في المدينة" للشاعرة المغربية آمال الصالحي، الصادر عن الدار المصرية المغربية للنشر والتوزيع، تتحدث الأنا الشعرية بصيغة الجمع، معولة في معترك البقاء في هذه الحياة على الانفلات بمعناه الصريح، وليس فقط بدلالاته الجمالية، فلا شيء غير صوته يبقى في الضجيج "أنا النساء كلهن حين تضيق العبارة، ولا يبقى من الأصداء غير صوت انفلاتي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والتحرر في تجربة الشاعرة المغربية هو تحرر كامل، لا يرتضي بأنصاف الحلول. ويستوي في ذلك، النضال من أجل تحرر الذات، والكفاح من أجل تحرر الأوطان "إنا هنا لن نقرع الطبول/ لن نشرد في البراري كالخرفان المبللة، لن نقبل بأنصاف الحلول/ إنا هنا باقون، كالغزلان نركض خلف الشفق الأحمر، نرسم خريطة الورد على وجنة الحقول/ وإن سلمتم بلادنا للمجهول وأعلنتم خريفنا، غداً تدور الفصول".
والقصيدة نفسها، مثلها مثل الذات الشاعرة، هي صخرة صماء متماسكة وحمم بركانية مقذوفة أيضاً في وجه من يجترئ على جرح الأنثى أو سيدة النار أو سنبلة القمح أو قلب المدينة النابض، وهي ثورة كبرى، متقدة ومتواصلة، على قاطعي الجذور وسارقي الأشجار. ولا يقود التمرد أبداً إلى سراب، وإنما "من نهد القمر يدر لبن الثورة، وتنتفض الحرية ضد صوت القهر".
قلب بركاني
ويمثل ديوان "قلب بركاني في جسدها المبقع" للشاعرة المصرية هاجر فايد، الصادر عن دار "الكاف" للنشر والترجمة، أحدث تجارب قصيدة النثر لدى الأصوات الشابة. وفيه تقدم تمردها الخاص، من خلال جماليات شعرية مختلفة، تفجرها معاناة استمرت سنوات مع مرض البهاق المناعي، الذي انتصرت عليه بالسخرية منه، والثورة على آثاره البدنية والنفسية.
وفي سياقات التحرر المتنوعة، من المرض ومن القوانين والعادات والتقاليد وسائر الشروط التي تجعل الحياة منقوصة وسقيمة، تحتمي الذات الشاعرة بالاكتفاء والاستغناء، معتبرة أن العلاج النفسي لا يليق بجسدها المنير، وإنما لعله يلائم الصعاليك الرجال من المتطفلين والطامعين في غزوها، استخفافاً بها، ولأنهم لا يدركون كم هي قوية وقادرة على حماية حدودها.
وتنطلق الشاعرة في معالجتها المبتكرة من سرديات مباشرة نابعة من آلامها وعلاقتها بجهاز "الناروباند" للعلاج الضوئي، الذي يطلق طيفاً من الأشعة فوق البنفسجية في جلسات العلاج، بما قد يسبب حروقاً عند التعرض لجرعات عالية. وتخلص الذات الشاعرة من المحنة الخاصة إلى التعبير الفني الأوسع عن تفجرات القلب واشتعالات الجسد وفيوضات الأنوثة الهادرة المستقلة "الآن، في حجرتي الرطبة، أستلقي عارية لتسع ساعات، بعد جلسة (الناروباند) الكاوية/ جسدي ملتهب كالفطير الساخن/ أنتظر أن يبرد/ لكن لا أحد هنا كي يأكله".