Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

دوس باسوس في انتقاله من أقصى اليسار إلى اليمين الأميركي المتطرف

من كان من قراء صاحب ثلاثية "يو أس إي" يتوقع أن يحصل كل ذلك التحول في مواقف وأفكار الاشتراكي اليساري الفوضوي؟

دوس باسوس وابنته لوسي في لحظة وئام (موقع الأدب الأميركي)

ملخص

الذين قرأوا الروايات الثلاث التي تتكون منها ثلاثية "يو أس إي" تحفة جون دوس باسوس، خلال النصف الأول من الثلاثينيات، بالكاد يمكنهم أن يصدقوا أن كاتبها هو نفسه ذلك المكتهل الذي انتقل بفكره وسلوكه من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين

صحيح أن الحكم الذي أطلقه الكاتب الفرنسي موريس باريس يوماً معلناً فيه رأيه الحاسم بأن "من لم يكن يسارياً قبل الـ20 يمكن اعتباره امرأً لا قلب له، لكن من يبقى يسارياً بعد الـ30 سيكون امرأً لاعقل له" أثبت دائماً أنه رأي في غاية الصواب، غير أن باريس لم يكن في الحالتين يتحدث عن أي تطرف، بل عن عملية انتقال هادئ ضمن إطار فكر منطقي معين. ومن هنا فإن النقلة التي مارسها الروائي الأميركي جون دوس باسوس من حال إلى حال، ستعد دائماً استثنائية، وحتى بأكثر مما نجده لدى كثر من التروتسكيين المتطرفين الأميركيين الذين، نكاية بستالين وخلفائه، تحولوا إلى العمل في ركاب وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية – وفي الأقل بحسب ما أكدته ووثقته الباحثة الإنجليزية فرانسيس سامرز في كتابها الحاسم "من يدفع أجر الزمار" عند بداية ثمانينيات القرن الـ20 - قبل أن يضحوا العقل المفكر لـ"المحافظين الجدد".

تبدل يعصى على الفهم

فالحال أن الذين قرأوا الروايات الثلاث التي تتكون منها ثلاثية "يو أس إي" تحفة جون دوس باسوس، خلال النصف الأول من الثلاثينيات، بالكاد يمكنهم أن يصدقوا أن كاتبها هو نفسه ذلك المكتهل الذي طبق مقولة موريس باريس في سنوات الـ60 من القرن نفسه إلى حد لا يمكن تصديقه، وصولاً ليس فقط إلى معادة كل فكر يساري أو اشتراكي، بل إلى التعاون الفعال مع لجنة السيناتور ماكارثي الكئيبة بصورة لم يماثله فيها أحد مركزاً نشاطاته ووشاياته ضد الروزفلتيين، وربما بأكثر مما فعل ضد الشيوعيين والديمقراطيين عموماً. وذلك بمعنى أن عداء دون باسوس قد شمل بصورة خاصة مفهوم الدولة التدخلية نفسه في مناوأة صريحة حتى لأفكار الاقتصادي الإنجليزي جون ماينارد كينز، مما جعله يقف بشراسة، ليس فقط ضد "صفقة الرئيس روزفلت الجديدة" ("النيو ديل")، بل ضد أي تدخل للدولة لإنقاذ المجتمع من الانهيار الاقتصادي. ويقيناً أن هذا قد لا تكون له أية علاقة لا بالماركسية ولا بأدب دوس باسوس، ولا طبعاً بتقدم الرجل في السن وابتعاده عن تلك اليسارية التي نجدها ماثلة في كل صفحة من ثلاثية "يو أس إي" التي طبعت أجيالا من أميركيين رحبوا بدوس باسوس وأدبه من موقع التقدم واليسار غير دارين أنه خلال ربع قرن فقط سينتقل إلى المقلب الآخر دون أن يبدو عليه أي اعتذار عن ماضيه.

رد فعل طبيعي!

ومن الواضح أن تلك القلبة التي ختم بها دوس باسوس (1896 – 1970) حياته كان من الممكن اعتبارها عادية لو أنها تبدت نوعاً من رد فعل طبيعي على ممارسات الشيوعيين أنفسهم، إذ دمروا السلطة في كل بلد حكموا فيه، كما دمروا كل ما كان كثر من يساريي العالم يعدونه حلماً ثورياً بولشفياً. غير أن ما يلفت حقاً لدى دوس باسوس هو أنه انتهى به الأمر ليس فقط إلى معاداة كل الفكر التنويري القديم الذي صنعه وصنع أدبه، بل إلى مناهضة الليبرالية الأميركية نفسها، والتي ارتبطت بسياسات الرئيس روزفلت التي نالت رضا المثقفين الأميركيين عموماً بتمكنها من القضاء، من طريق تدخلية الدولة تحديداً، على الكارثة الاقتصادية التي حلت بالأمة الأميركية منذ نهاية سنوات الـ20 كما تمكنت لاحقاً من إلحاق الهزيمة الجذرية بالنازيين وعدوانية زعيمهم هتلر. وهم نفس القوى التي نجد في ثلاثية "يو أس إي" تحريضاً جذرياً ضدهم. فهل يمكننا أن نبرر للكاتب مواقفه هذه على ضوء تعاطف ما مع النازية؟

من دوس باسوس إلى روث

ليس هذا مؤكداً. فدوس باسوس لم يكن نازياً قبل عام 1968، أي تحديداً قبل اندلاع حركات الشبيبة العالمية والأميركية بخاصة ضد أجيال الآباء من جهة وضد حرب فيتنام وفساد السلطة الأميركية (ووترغيت وفضائح الرئيس نيكسون) من جهة ثانية، لكن عام 1968 نفسه شهد وصول الكاتب "التنويري" إلى ذروة تراجعاته، وذلك تحديداً من خلال رسالة بعث بها إلى ابنته الأثيرة لوسي في العام التالي لتكون آخر نص كتبه – وربما ملهم خفي لواحدة من أقوى روايات فيليب روث "رعوية أميركية" التي تدور من حول اكتشاف أب أميركي لضلوع ابنته في عمليات إرهابية ضد أميركا! فهل كان لرسالة دوس باسوس إلى لوسي علاقة بما انتهى إليه فكرانيا في خضم تلك الأحداث جميعاً؟ ربما كان في الإمكان اعتبار علاقة من ذلك النوع تفسيراً منطقياً لولا أن "انحرافات" دوس باسوس عن ماضيه كانت قد سبقت ذلك بسنوات طويلة. أما هنا فمن المفيد أن نتمعن في الرسالة المذكورة وظروفها. ففي بداية عام 1969 وبعدما كان الكاتب قد أصدر قبل أشهر كتاباً عن تاريخ البرتغال، وبعد أن ألقى في كلية الاتحاد في ضاحية نيويوركية محاضرة مفصلية في حياته أبدى فيها عدم تفهمه لكون احتجاجات الطلاب ضد حرب فيتنام وفي سبيل الحقوق المدنية للملونين بعيدة كل البعد من أمنيات شبابه التي كانت تتحلق من حول ضرورة أن تحكم البلاد سلطة أقل تقنية وبيروقراطية، مكتفياً بالإشارة إلى أنه يؤيد شن أميركا حربها في فيتنام لأنها إن لم تفعل سينتصر الشيوعيون و"تحل الكارثة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

انخراط في اليمين المتطرف

إذاً، على ضوء ذلك الموقف الذي حير رفاق دوس باسوس كما حير ابنته لوسي التي يبدو أنها كانت منخرطة في النضالات التي يناهضها والدها، قام الكاتب وعائلته في العام التالي برحلة إلى أميركا الجنوبية وجزر الفصح، ونتج منها كتاب سينشر بعد موته. ثم كان دوس باسوس أحد الضيوف الرسميين في حفل إطلاق المركبة الفضائية أبولو العاشرة في كاب كانافيرال، على رغم اعتلال صحته. ولسوف يقال إن انتقاد ابنته لوسي لتلك المواقف قد فاقم من ذلك الاعتلال ومن هنا نراه بعد أن شاهد فيلماً وثائقياً عن أعياد الموسيقى الصاخبة في وودستوك وعلم أن لوسي قد شاركت فيها، نراه يكتب لها تلك الرسالة التي ستصبح في منتهى الشهرة منذ نشرها بعد رحيله – يوم الـ28 من سبتمبر (أيلول) 1970، أي في يوم رحيل الرئيس المصري جمال عبدالناصر نفسه، مما جعل الحدث الأميركي يمر دون أي اهتمام عربي مع أن دوس باسوس كان قد أثار صخباً واهتماماً عربيين كبيرين حين مر في بعض المناطق العربية قبل ذلك، أي حين كان لا يزال تقدمياً وتنويرياً وتحدث عن ضرورة تحررها من الاستعمارين الإنجليزي والفرنسي كما عن ضرورة عدم وقوعها في البراثن الأميركية! في رسالته إذا قال دوس باسوس لابنته: "إن ما يمكن وصفه بالمؤسي في تحركات أولئك الطلاب والجامعيين هو أنهم في معظمهم محملون بأكثر درجات النيات الطيبة رسوخاً، لكنهم سيئو التربية في حقيقتهم إلى درجة أنهم يجهلون أو لا يفهمون حقائق التعقيدات في هذا العالم الذي نعيش ويعيشون فيه، وذلك بالنظر إلى كونهم مدجنين ومؤقلمين، أي مغسولة عقولهم، على أيدي وبمعرفة أساتذة سيئي التربية وقاصري الفهم بدورهم لم يتوانوا عن تلقينهم كل تلك الأحكام المسبقة التي تدور في أذهانهم، وهذا ما يجعلهم رافضين تماماً أن يروا حقيقة الأحداث ما أن تظهر لهم عارية. ترى هل يمكنك يا عزيزتي لوسي أن تسألي أياً من رفاقك الثوريين هؤلاء عما إذا كان قد سمع بانتفاضة كرونشتادت في حياته؟".

تجديدات مدهشة

على هذا التساؤل إذاً، وكما يبدو الأمر، أغلق جون دوس باسوس عينيه إلى الأبد وهو واثق من أنه لم يقل سوى الكلام الحق. إنما دون أن يقول لابنته ما إذا كان قبل ذلك بربع قرن ونيف قال أيضاً كلام الحق في تلك الثلاثية التي لا بد من التنويه دائماً بكونها، إلى جانب موضوعها الذي تناول، وعلى طريقة إميل زولا التي وصلته من طريق أستاذه رائد النزعة الطبيعية في الأدب الأميركي، ثيودور درايزر، تاريخ 30 عاماً من مسار الولايات المتحدة الأميركية، تجديدات هائلة في الشكل الروائي، مازجة بين التاريخ العائلي والأحداث السياسية والرؤى البصرية بصورة خلاقة لا يمكن إنكارها حتى بالنسبة إلى أكثر الغاضبين على تحولات دوس باسوس شراسة وفي طليعتهم ابنته لوسي طبعاً.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة