Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الدوق وزوجته وجها لوجه بلوحة ديلا فرانشيسكا المستوحاة من الهولنديين

القبح نوع من الجمال التشكيلي أم هو رسالة سياسية واجتماعية مدفوعة الثمن مسبقاً؟

"بورتريه مزدوج" لديلا فرانشيسكا (ويكيميديا)

ملخص

أن بيبرو ديلا فرانشيسكا (واسمه الأصلي بييرو سانسيبورغو) ولد بين 1416 و1417 في بلدة بورغو أعالي وادي تيفيرينا عند حدود توسكانا ابناً لصانع أحزمة. ويرجح المؤرخون أن يكون الفتى قد تدرب منذ صباه المبكر في محترف الفنان النهضوي فينيزيانو، والدليل على هذا أن المتدرب الفتي قد ساعد معلمه في عام 1439 على تحقيق جدارية ضاعت بعد ذلك لكاتدرائية سانت إيجيديو تمثل حياة السيدة العذراء. 

يشغل الرسام الهولندي يان فون إيك (1390 - 1441) في هذه الأيام، الساحة الفنية الفرنسية من خلال معرض يؤكد مرة أخرى، أن هذا الفنان النهضوي الذي عاش ردحاً من سنواته في لندن، لا يغيب عن الساحة الفنية الأوروبية إلا ليعود إليها ومن منظور دائم التجدد. وهذه المرة إذا كان فان إيك قد أعاد في ركابه بدايات تحول الفن النهضوي الهولندي إلى نوع من واقعية تتواكب مع التحولات الاجتماعية "البورجوازية" في الفنون الهولندية، فإنه أعاد أيضاً في ركابه نفسه واحداً من الرسامين الإيطاليين هو بييرو ديلا فرانشيسكا على غير توقع. ولو فقط من خلال علاقة لوحة هي من أشهر أعمال هذا الأخير بجذور هولندية يمكن افتراضها، بل افترضت في الواقع خلال السنوات الأخيرة، ونعني بها لوحة "بورتريه مزدوجة لمونتيفيلترو وزوجته باتيستا سفورزا" التي ثمة إجماع على أن الرسام الإيطالي تلميذ دومنيكو فينيزيانو، قد رسمها بعد عام 1472 أي بعد حين من موت باتيستا. أما لوحة فان إيك المعنية فهي "السيدة العذراء والمستشار رولان" التي رسمها فان إيك بين 1434 و1437. ما سجل بدايات التأثر الإيطالي النهضوي بالفن الهولندي وتحوله من مواضيعه الدينية التاريخية إلى مواضيع دنيوية ولو بتلك الطريقة المواربة.

 

بين الشكل والمضمون

والحقيقة أن لوحة ديلا فرانشيسكا تستعير من اللوحة الهولندية، عناصر شكلية عدة وما لا يقل عن عنصرين يتعلقان بالمحتوى. ولنبدأ هنا بعنصري المحتوى من حيث أن اللوحة الهولندية تقدم هنا مشهداً يجمع بين شخصية من الماضي (السيدة العذراء) وثانية من الحاضر الذي رسمت فيه اللوحة (المستشار رولان) في نوع من "حوار مفترض" يحمل الكثير من الأبعاد السياسية والاجتماعية المحددة لجوهره. وهو ما يبدو أن الرسام الإيطالي يفعله هنا من ناحية جمعه في بورتريه مزدوجة بين الدوق وزوجته الراحلة وهما يتجابهان في مشهد واحد، لعله يريد أن يعبر عن وفاء الزوج لامرأته وتعايشه معها على رغم موتها. ولعل الرسام يعبر عن ذلك الموت تعبيراً صارخاً من خلال لعبة اللون التي تظهر وجه باتيستا شاحباً شحوب موت لا شك فيه. وربما كذلك من خلال الوجهة التي يتخذها ترحال الزوجة نحو العالم الآخر في وقت نقاء بشرة الزوج وهو بعد حي، تنم عن مدى تعلقه بها من خلال محاولته مجابهة سفرها النهائي الطويل وربما مانعاً إياها من استكمال سيرها نحو نهايتها المطلقة. والحقيقة أننا نعرف كم أن هذا التفسير لا يمكنه أن يكون حقيقياً في نهاية المطاف. لكن البورتريه المزدوج سيصبح، في تركيبيته وطوبوغرافيته لغزاً يعصى على أي منطق إن لم نقتنع بإمكانية تفسيره على هذا النحو.

أحياء وأموات

غير أن التقارب بين لوحة ديلا فرانشيسكا لن يبدو فقط من خلال الموقع الذي يحتله الباقون أحياء، أو حتى أبناء الحاضر الذين يعيشون وجودهم الراهن في مواجهة أعزاء لهم يعودون من قلب الأبدية كما في حال السيدة العذراء هنا، بل كذلك من خلال الخلفية التي تكاد تكون مشتركة بين اللوحتين إلى درجة أنه لا يمكن أن يكون من الصدفة أن تتشكل الخلفية، من منظر طبيعي عميق في امتداده حتى أفق خلفية المشهد في اللوحتين معاً، ما يؤكد أن ديلا فرانشيسكا لم يرسم لوحته إلا من خلال تأمله الطويل في لوحة سلفه الهولندي الكبير. ومن المؤكد أن ذلك المشهد الطبيعي الذي قد يكون مؤكداً للقرابة بين اللوحتين، كذلك من الناحية الموضوعية أيضاً من خلال تحويل المشهد إلى جزء من المناخ العام لكل من الحدثين التاريخيين المعبر عنهما في البورتريهين المزدوجين. ومهما يكن من أمر هنا لا بد من ملاحظة كيف أن الرسام الإيطالي قد سعى جهده للحد من تأثره الصريح باللوحة السابقة عليه بعدد من العقود من خلال تحويله شخصيتيه من جلسة الـ "ثلاثة أرباع" التي تجلسها السيدة والمستشار في لوحة فان إيك، وهي جلسة يمكن القول إن الرسامين الهولنديين قد برعوا فيها وكانت سمة مبكرة من سمات "الميزانسين" الذي كانوا يفضلون، وحتى في زمن اهتمامهم بالفن الفطري، تحويله إياهما إلى موضعة تعتمد بروفيل شخصيتيه المرسومتين مجابهة مع معرفته الجلية بأنه إنما يخاطر مخاطرة فنية، بل حتى "بروتوكولية" كبيرة، إذ يرسم الدوق عبر ذلك "البروفيل" الذي يكشف قبحاً لا مبرر لرسمه في نهاية المطاف.

 

لغز أنف معقوف

فالدوق الذي يحمل هذا البورتريه المزدوج بروفيله، يظهر هنا بأنفه المعقوف في منتهى القبح وهو الرجل الحي وذو النفوذ السياسي بوصفه رجل دولة ينتمي إلى واحدة من أعرق العائلات الحاكمة في أية مدينة إيطالية في ذلك الحين، آل مونتيفيلترو، بينما تطالعنا زوجته الراحلة وعلى رغم رحيلها قبل فترة من إنجاز اللوحة، عابقة بالجمال على رغم شحوب الموت الذي تعمّد الرسام عدم إخفائه. والحقيقة أن ليس في وسعنا هنا أن نعزو هذه "المسايرة" إلى رغبة خفية لدى الرسام غير التعبير عن كون الراحلة تنتمي بدورها إلى عائلة كبرى من عائلات إيطاليا كانت حاكمة في ذلك الحين، ومن رعاة الفنون على أشكالها. بل كان ما يريد التعبير عنه إنما تلاقي القبح والجمال على خلفية تلك الطبيعة المعطاء بشكل يمكن أن نستعير له هنا شعاراً نستقيه من شاعرنا الكبير الراحل محمود درويش: "على الأرض ما يستحق الحياة". وعلى أية حال ومهما كانت خلفيات هذه اللوحة التي لا تزال حية حتى يومنا هذا معبرة عن نوع من "تبرجز" فنون النهضة الإيطالية ولو على الطريقة الهولندية، تلك الطريقة التي بعدما غاص ديلا فرانشيسكا في معانيها ودلالاتها، نجده يعود عنها من بعد هذه اللوحة، بل حتى في ثناياها هو الذي في رسمه شخصيتيها على الطريقة النهضوية الإيطالية المبكرة المتطابقة مع الرسم المعهود لبروفيل الوجوه على قطع العملة التقليدية في ممارسة قد تعود إلى الأزمان الأولى لصك العملات المعدنية، تمكن من أن يخلق، في نهاية المطاف، ما يمكننا اعتباره مجابهة تشكيلية بين الموت والحياة، بل بين القبح والجمال، جعل من هذه اللوحة، إلى جانب لوحة "العجوز والصبي" لمواطنه دومنيكو غيرلاندايو (1449 - 1494)، رمزاً للقبح الذي لا يعود قبحاً بعد أن تعبره ريشة الفنان وألوانه. ما يعتبره الكاتب والباحث الإيطالي المعاصر، وفي واحد من آخر كتبه التحليلية الكبرى، "تاريخ القبح" (2007)، مسألة نسبية، في تجاوب مع ما يبدو أن بييرو ديلا فرانشيسكا قد سعى إلى تأكيده من خلال هذه اللوحة، تأكيداً لا يمكن على أية حال أن ننسبه إلى يان فان إيك مهما لاحظنا من تقارب بين الفنانين على هذا الصعيد البالغ الأهمية في تاريخ الفن.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يبقى أن نذكر هنا أن بيبرو ديلا فرانشيسكا (واسمه الأصلي بييرو سانسيبورغو) ولد بين 1416 و1417 في بلدة بورغو أعالي وادي تيفيرينا عند حدود توسكانا ابناً لصانع أحزمة. ويرجح المؤرخون أن يكون الفتى قد تدرب منذ صباه المبكر في محترف الفنان النهضوي فينيزيانو، والدليل على هذا أن المتدرب الفتي قد ساعد معلمه في عام 1439 على تحقيق جدارية ضاعت بعد ذلك لكاتدرائية سانت إيجيديو تمثل حياة السيدة العذراء. وهو بعد ذلك عاد إلى مسقط رأسه الذي بقي وفياً له ينفذ فيه معظم أعماله على رغم جولات عدة كان يقوم بها في المناطق الوسطى والشمالية من إيطاليا خلال فترات متفرقة من مساره المهني. وفيما هو مقيم في بلدته الأثيرة كان يتلقى طلبيات لتنفيذ أعمال دينية، ولكن دنيوية كذلك، ما أسبغ على بلدته تلك الشهرة التي ما كان يمكنها أن تحظى بها لولاه. وفي عام 1458 توجه ديلا فرانشيسكا إلى روما حيث انضم لفترة إلى بلاط البابا بيوس الثاني حيث أنجز في الفاتيكان مخططات لجداريات ضاعت بدورها. ولاحقاً سنجده في بلاط حكام أوربينو من آل مونتيفيلترو الذين عرفوا برعايتهم للفنون ومصاهرتهم لآل سفورزا. ومن المعروف أن الفنان قد كرّس سنوات حياته الأخيرة لوضع كتب تقنية حول الفن التشكيلي والعمران مشتغلاً بصورة خاصة على نظريات جديدة حينها في مجال التناسق والمنظور في عالم الفن.

المزيد من ثقافة