ملخص
أما ما تقوم به القوى الكبرى حول العالم، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والصين الشعبية، من محاولات مستمرة ومستقرة يهدف إلى تحقيق مدركاتها ولو بالقوة وعلى حساب بقية دول العالم، فهذا يفتح المجال من جديد لمزيد من الحروب الدائمة ولا يغلق الأبواب أمامها
هل كانت الحرب العالمية الثانية هي آخر الحروب التي جرت فوق سطح الكرة الأرضية ووصلت إلى نهايتها بالفعل عبر هزيمة دول المحور وانتصار الحلفاء؟
يبدو أن ذلك كذلك بالفعل، والدليل هو عدد كبير من الحروب التي انطلقت في النصف الثاني من القرن الـ20 وأوائل القرن الـ21 ومن غير أدنى مقدرة بالوصول إلى نهايات واضحة لها.
ويمكن للمرء النظر إلى عدد من تلك الصراعات التي لا تزال تمثل جراحاً مفتوحة من عند الحرب الكورية والتي انتهت بالتقسيم إلى دولتين وصولاً إلى فيتنام، إذ خاضت الولايات المتحدة حرباً ضروساً ولم تخلص إلى أي نصر، بل إن النتيجة جاءت عكسية تماماً، فقد انضوت فيتنام تحت جناحي الكتلة الشرقية الآسيوية وابتعدت كثيراً جداً عن المعسكر الغربي.
والشاهد أنه من المرجح أن يستمر عدد من الصراعات المعاصرة لعقود من الزمن في ظل قدر ضئيل من الإجماع، إن وجد، في شأن الشكل الذي قد تبدو عليه "النهاية" في واقع الأمر.
في هذا السياق ربما يتعين علينا أن نسترجع تساؤلاً طرحه الجنرال الأميركي الشهير والرجل المتخصص في الشؤون السياسية الدولية الجنرال ديفيد بتريوس الذي لعب دوراً مهماً للغاية في غزو العراق عام 2003 "قل لي كيف سينتهي كل هذا"؟
كان القصد هو نهاية العمليات العسكرية في العراق، ويبدو أن الرجل كانت له عين ثاقبة، فها قد مر عقدان من الغزو والجرح العراقي لا يزال مفتوحاً ولم تحقق القوات العسكرية الأميركية أي هدف من أهدافها، سوى أنها تركت العراق جريحاً في الداخل مقسماً ومهدداً بحروب أهلية بين أبنائه ومن الخارج تحيط به قوى إقليمية لا تغيب عن الأعين تحاول أن تبتلعه.
لم يكن مستنقع أفغانستان بعيداً من أعين بتريوس، وقد صدق حدس القائد العسكري الذي سيصبح تالياً مديراً للاستخبارات المركزية الأميركية، فقد حمل الجيش الأميركي عصاه وهرب ليلاً، من كابول، في صورة أعادت للأذهان الهرب الكبير من فوق سطح السفارة الأميركية لدى سايغون في نهاية حرب فيتنام.
أما عن الشرق الأوسط الحزين فلا تزال جراحات حروب "الربيع العربي" مفتوحة نازفة في اليمن وسوريا وليبيا وأضف إليها السودان وغيرها كثير.
ما إشكالية الحروب الدائمة؟ ولماذا تجري بها المقادير؟ وهل يعجز البشر عن إيقاف دائرة الموت؟ أم أن هناك من له مصلحة ما في أن تبقى النيران مشتعلة شرقاً وغرباً وفي أرجاء المعمورة كافة؟
ما تعريف الحرب الدائمة؟
باختصار يمكن تعريف الحروب الدائمة أو الحروب الأبدية التي لا نهاية واضحة لها بأنها حال حرب دائمة ليست لها شروط واضحة من شأنها أن تؤدي إلى نهايتها، وعادة ما تكون هذه الحروب عبارة عن حالات توتر مستمر قد تتصاعد في أية لحظة على غرار الحرب الباردة.
هذا المفهوم بدا واضحاً في التدخلات السوفياتية حول العالم في زمن الحرب الباردة كما حدث في دول عدة من أوروبا الشرقية في ستينيات القرن الماضي، وتكرر المشهد كما أسلفنا مع الولايات المتحدة في بقاع وأصقاع عدة حول العالم.
ما السبب الرئيس في حدوث الحروب الدائمة؟
إن غياب الرؤية لما يسمى "اليوم التالي" عند الاستراتيجيين العسكريين هو السبب الرئيس في الوقوع في فخ أو مستنقع الحرب الدائمة، وغالباً ما يحدث ذلك بسبب التخطيط السيئ للمعارك وعدم فهم المحتل للطبيعة الجغرافية والديموغرافية للدولة المحتلة وطبيعة البشر فيها وإمكاناتهم العسكرية، مما يمكن أن تحدث معه حال من حالات التمرد العسكري المميت الذي يؤدي إلى إطالة أمد الصراع الذي لا ينتهي أبداً.
ويمكن اعتبار الصراعات القطبية الدولية سبباً من أسباب الحروب التي لا تنتهي، فعلى سبيل المثال عملت الولايات المتحدة جاهدة على إطالة أمد النزاع السوفياتي في أفغانستان، مما أرهق وأنهك القيادتين العسكرية والسياسية في موسكو، وعلى رغم خروج القوات الغازية فإن الصراع الداخلي استمر طويلاً وبالقدر نفسه وقعت الولايات المتحدة في الفخ ذاته عام 2001.
ويمكن أيضاً الإشارة إلى الحروب التي يتم خوضها بصورة غير نظامية مثل حركات التمرد في أفريقيا، تلك التي لا تضع في اعتبارها أي أهداف عسكرية واضحة، بل تعمل على توجيه أسلحتها ضد السكان المدنيين، بالتالي فإن عدم وجود أهداف عسكرية فعلية يمكن أن يكون في حد ذاته سبباً لوقوع حرب إلى الأبد.
هل من مثال واضح بصورة كبيرة لهذه الحرب؟
من فيتنام إلى أميركا الوسطى
هل الحروب الدائمة ترتبط عادة بالقوة الإمبراطورية الكبرى؟
المؤكد أن ذلك ليس شرطاً، لكنه يحدث عادة، والولايات المتحدة الأميركية خير دليل على ذلك.
في مؤلفه العمدة "50 عاماً من النضال في فيتنام" يرى الكاتب الأميركي جيمس هاريسون أن حرب فيتنام كانت لا نهاية لها بسبب نجاح الثورة الشيوعية في تأميم الشعب.
ونجح الفيتناميون بالفعل في إقحام الأميركيين في معركة شرسة كتب عنها الجنرال الفيتنامي تران فان أون كثيراً من التفاصيل في كتابه المعنون "حربنا التي لا نهاية لها: داخل فيتنام".
لم تكن فيتنام وحدها هي معركة الحرب التي لا تنتهي بالنسبة لأميركا، فهناك صراعات قائمة وقادمة في البحر الكاريبي، أميركا الوسطى وكذلك في أميركا الجنوبية، لا تزال تمثل فخاخاً منصوبة لحال السلم والأمن الدوليين.
يقول المؤرخ الأميركي جيمس تشايز في كتابه "الحرب التي لا نهاية لها: كيف انخرطنا في أميركا الوسطى؟" إن سياسة الولايات المتحدة الأميركية في أميركا الوسطى ظلت تقوم على افتراض أن الهيمنة الأميركية مهددة داخل المنطقة ووفقاً لتشايز، فإن التدخل الأميركي في أميركا الوسطى عمل على مقاومة تأثير الدومينو لانتشار "سيطرة الشيوعية" إلى حد كبير من خلال ترسيخ صدقية الجيش الأميركي.
هل أدت هذه السياسات إلى خلق حال من حالات الاستقرار طويل المدى في تلك المنطقة؟
المؤكد أنه على رغم أن هذه السياسات كانت تهدف إلى ردع الصراع فإنها هي نفسها خلقت الظروف لعدم الاستقرار في المنطقة مما عزز الرد الأميركي. وأدى ذلك إلى حلقة ذاتية الاستدامة أو "لا نهاية لها"، إضافة إلى ذلك فإن هناك من يرى أن مثل تلك الحروب تعد مجالاً خصباً للاستثمار من جانب جماعات السلاح ومجمع الصناعة العسكري الأميركي.
هنا يطفو على السطح مفكر عميق الرؤى مثل نعوم تشومسكي الذي يقطع بأن حال الحرب الدائمة يروج لها الأعضاء الأقوياء في الطبقات السياسية والاقتصادية المهيمنة مما يساعدهم في الحفاظ على مواقع التفوق الاقتصادي والسياسي.
فيما يذهب الصحافي البريطاني روبرت فيسك إلى أن الصراعات الغربية الأخيرة ضد الشرق الأوسط بعد نهاية الحرب الباردة كانت قولاً وفعلاً جزءاً من الحروب الدائمة.
الحرب الدائمة استراتيجيات قصيرة النظر
أحد أهم الأسئلة التي ترد على ذهن القارئ "هل الحرب الدائمة يمكن أن يكون مرجعها الاستراتيجيات قصيرة النظر لأصحاب اليد العليا في التدخلات العسكرية حول العالم؟
غالب الظن أن هناك مزيجاً من هذه وأسباباً أخرى مثل عدم الفهم الكامل لمعطيات الجغرافيا السياسية للمنطقة المراد غزوها وغياب الخلفية التاريخية للأمم والشعوب الساكنة فيها.
من هنا يمكن القطع بأن هزيمة الخصم عسكرياً ليست مرادفاً لتحقيق الحالة النهائية المرجوة، وحتى في الظروف التي يفترض فيها أن المنتصر قد حقق نجاحاً عسكرياً وتكتيكياً وعملياتياً، فإن إنهاء الصراع بنجاح يكون في غالب الأحيان فشلاً استراتيجياً.
فهل من أمثلة تؤكد صحة ما نقول أو ندعي؟ فلنأخذ مثالين:
-أولاً: عملية "حرية العراق" 2003
ففي عام 2003 شنت الولايات المتحدة وعديد من حلفائها عملية أطلق عليها "حرية العراق" لتخليص بلد الرشيد من حكم صدام حسين الديكتاتوري حسب المزاعم الغربية وللبحث عن أسلحة الدمار الشامل تلك الكذبة التي ستطارد أميركا طالما بقي التاريخ حاضراً.
واستطاعت القوة العسكرية الأميركية بالفعل، تفكيك وتفخيخ العراق وإنهاء نظام صدام والقبض عليه وإعدامه لاحقاً، لكن هل ضمن كل ذلك نهاية صريحة للحرب هناك؟
العين تغنيك عن طلب الأثر ذلك أن الفشل يلاحق التاريخ الأميركي هنا من خلال الحرب الأهلية التي اشتعلت عبر جماعات متمردة على أسس دوغمائية بين الشيعة والسنة، فضلاً عن تمرد طويل الأجل ضد قوات التحالف ما جعل أميركا اليوم تتحدث عن انسحاب نهائي من العراق وإن خلفت وراءها حرباً مشتعلة.
ثانياً: عملية الحرية الدائمة في أفغانستان 2001
لقد كانت أفغانستان أمة "مقبرة للإمبراطوريات" ونظروا إليها من منظور المصالح الأنانية الخالية من الجغرافيا السياسية للمنطقة. ولقد كان تاريخ الصراع العسكري في أفغانستان تاريخاً حافلاً بالنجاحات الأولية، أعقبته سنوات طويلة من التخبط والفشل النهائي مع التخلي المتسرع عن الأمة وشعبها ولم تكن عملية الحرية الدائمة في أفغانستان مختلفة، ولهذا تظل أطول حرب لا نهائية، وأسوأ نصر غير مكتمل، بل إنها أكثر الحروب التي خاضتها أميركا كارثية، فعبر عقدين من الزمن تراكم الفشل الأميركي يوماً تلو الآخر.
وكان الفوز دوماً صعباً في أفغانستان، كما أن التخلي المتواطئ والخيانة المفاجئة المخزية لحلفائها كانا أكثر خزياً، مما أدى إلى انهيار دراماتيكي بعدما تم نسيان أو تناسي الدروس المستفادة، أو بمعنى أدق غير المستفادة من كوريا وفيتنام.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الحرب على الإرهاب ثغرة دائمة
من بين فخاخ الانتصارات الهزيلة التي تفتح باباً دائماً لحروب دائمة غير نهائية تأتي إشكالية الحرب على الإرهاب العالمي بحسب الرؤية والمفهوم الأميركيين بنوع خاص.
ومنذ طرد القوات السوفياتية من أفغانستان تحول هذا البلاد الآسيوي المثير للتفكير إلى بؤرة جامعة لمختلف الجماعات الأصولية ذات الأفكار الأصولية، إذ ترى العالم بمفهوم المطلق العقائدي، لا السياسي النسبي.
وتحولت أفغانستان إلى حاضنة لجميع التيارات ذات التوجه المعادي للإمبريالية الغربية ووصلت المأساة حدود نهاية الصراع، نهاية الـ11 من سبتمبر (أيلول) من عام 2001، ففي ذلك النهار الصعب، بدا وكأن هناك حرباً دائمة ستنطلق ولن تقدر لها نهاية قريبة، إنها الحرب على الإرهاب.
ويصف رجل الاستخبارات المركزية الأميركية مايكل شوير الخطأ الكبير الذي وقعت فيه أميركا منذ ذلك الوقت وحتى الساعة بأن "أميركا أعلنت الحرب على الغضب وليس الحرب على الإرهابيين، وأنها كانت كمن يهش الذباب بمطرقة حديدية ".
ولم يقدر لرجالات "البنتاغون" ولا خبراء الاستخبارات المركزية الأميركية فهم أن الإرهاب هو فكرة، أو مجموعة أفكار ويقينيات يتلبسها المرء وتدفعه إلى التضحية بكل عزيز وغالٍ حتى لو كانت الحياة نفسها.
من هنا يمكن للمرء أن يتفهم لماذا أخفقت محاولات واشنطن عبر قرابة عقدين ونصف العقد في مواجهة التيارات الفكرية المتشددة، بل إنه من رحم "القاعدة" التي ولدت في أفغانستان، نشأت "داعش" في العراق وما حولها، وربما في الغد تظهر جماعات أخرى مشابهة.
ولدت إذاً طائفة من الحروب الدائمة من جراء الحرب على الإرهاب، وها هي تمضي مهددة أمن وسلام العالم وقد فات هؤلاء وأولئك، أي "رجالات لانغلي"، أن الفوز بالحروب أو خسارتها، بمعنى نهايتها بصورة حاسمة أو دوامها بصورة أبدية، إنما ينشأ في العقول، وليس فقط عبر أدوات الحرب الكلاسيكية التي تقتل من غير أدنى مقدرة حقيقية على تغيير الواقع المعاش والعقول المتحركة فوق رقعة شطرنجية إدراكية.
غياب قانون الحرب ودوام الصراع
لماذا تبقى حروب كثيرة مفتوحة من دون أدنى مقدرة حقيقية على إنهائها؟
ربما يأخذنا الجواب إلى منطقة تحديد نهاية الصراع وحدود قانون الحرب، فهل باتت القواعد والعتبات التي تشير إلى بداية النزاع المسلح ضمن الوضوح والقدرة على التنبؤ بالنهايات؟ أم أن غياب الشرائع والقوانين المنظمة للحروب، وكما وردت في اتفاق جنيف، عامل أساس في حال السيولة التي باتت صراعات كثيرة ضحية لها؟
بالنسبة للنزاع المسلح الدولي تشير اتفاقات جنيف إلى نهاية النزاع بعبارات مثل "وقف الأعمال العدائية الفعلية" و"الإنهاء العام للعمليات العسكرية"، وهو ما فهم أنه يعني "عند إطلاق الطلقة الأخيرة".
إن الوسيلة الكلاسيكية لإنهاء نزاع مسلح دولي هي معاهدة السلام، ولكن مثل هذه الصراعات يمكن أن تنتهي أيضاً من خلال الموافقة المتبادلة أو الهدنة أو الاستسلام أو حتى الإعلان من جانب واحد.
في المقابل فإن نهاية الصراع المسلح غير الدولي أكثر غموضاً ولا تقدم المادة الثالثة المشتركة في اتفاق جنيف أي توجيهات في ما يتعلق بإنهاء النزاع، ولا سيما ما يتعلق بحماية الأشخاص المحتجزين بسبب النزاع.
باختصار يخبرنا قانون الحرب ببساطة أنه لم يعد يطبق بعد انتهاء النزاع، ولم يقدم سوى توجيهات ضئيلة لتحديد تلك اللحظة الانتقالية التي يجب أن تتوقف فيها الحروب.
هنا يبدو أنه لا بد من التساؤل "هل حان الوقت لتغيير أو تعديل اتفاقات جنيف، إذ تتلاءم مع تطورات المشهد الدولي في العقد الثالث من القرن الـ21"؟
غالب الظن أن الأمر يحتاج إلى ما هو أبعد من ذلك، بمعنى وضع معالم وملامح لنظام دولي جديد قادر على إلزام جميع أعضائه، بحدود ومعايير لا يمكن تخطيها بحيث تكون القوة للقانون، وليس قانون القوة هو المعيار الوحيد المسيطر أو المهيمن على المشهد.
وطرحت أزمة التدخل الأميركي في أفغانستان والعراق أوائل الألفية الجديدة تساؤلات عن العلاقة بين المشروعية الدولية وفكرة الحروب الدائمة، لا سيما أن غزو العراق بنوع خاص وربما على العكس من أفغانستان جرى خارج أي شرعية دولية ومن دون أدنى توافق في مجلس الأمن، وعليه فإن قوانين الحرب كافة باتت لا تنطبق على تلك العملية العسكرية، وبما في ذلك مسألة النهايات التي لا تزال مفتوحة على مصراعيها في أفغانستان على رغم الانسحاب الأميركي الظاهري والممتدة عبر صولات وجولات في العراق الذي لا يزال يحتفظ بقوات أميركية، غير راغبة في البقاء ومترددة في الانسحاب في الوقت ذاته.
من هنا يبدو من المرجح أن يستمر عدد الصراعات المعاصرة لعقود من الزمن في ظل قدر ضئيل من الإجماع، إن وجد في شأن الشكل الذي قد تبدو عليه "النهاية" في واقع الأمر. وعليه، فإن مسألة متى ينتهي النزاع مع جماعة مسلحة تمثل تحدياً غير عادي من حيث الواقع والاستراتيجية.
وتصبح حال عدم اليقين التي تحدث عنها الجنرال بتريوس في مقولته "خبرني كيف سينتهي هذا كله" أكثر إشكالية إلى حد كبير في ضوء الجمع بين السلطات القانونية المحلية المرنة والمفتوحة والقدرات الواسعة لضرب أي مكان في جميع أنحاء العالم.
هل من لهم مصلحة بالفعل لجماعات بعينها أن تظل الحروب دائمة من غير أن يوضع لها حد أو مد؟
الحروب الدائمة مورد اقتصادي
يتساءل البعض لماذا الحرب الحديثة لا تنتهي أبداً فهل تحول العنف من أداة سياسية إلى مورد اقتصادي؟
ربما تكون هناك أسباب أخرى تجعل من حقيقة الانتصارات الباهتة هدفاً لجماعات ما ورائية، وهذا ما يخبرنا عنه البروفيسور هير فريد مونكلر المتخصص في مجال العلوم السياسية في جامعة "هومبولت" ببرلين. ويرى مونكلر أن الحروب الدائمة عادة ما تبدأ كحروب أهلية، لكن سرعان ما تلعب الدول المجاورة أو القريبة دوراً مهماً ما يؤدي إلى إثارة الحروب العابرة للحدود الوطنية، إذ تتداخل الصراعات الداخلية داخل الدول وبين الدول في صراع واحد، وقد تكون هذه المشكلات معقدة للغاية لدرجة أنه لم يعد من الممكن حلها من خلال معاهدات السلام المباشرة والمطلوب هو عمليات سلام مطولة.
ولعله في تقدير البروفيسور مونكلر أن السبب الأكثر أهمية لامتداد مدة الحروب الجديدة هو حقيقة وجود عديد من الجهات الفاعلة التي تمثل الحروب نفسها شريان حياتها، فلقد حولوا العنف إلى مورد اقتصادي تتدفق منه المليارات صباح مساء كل يوم.
ولم يتنبه أحد في أوائل ستينيات القرن الماضي إلى خطبة الوداع التي ألقاها الرئيس دوايت أيزنهاور حين كان مغادراً للبيت الأبيض، فقد حذر الرجل من جماعة المجمع الصناعي العسكري، أولئك الذين يشعلون الحروب من أجل تحقيق أعلى عوائد مالية لهم في الداخل الأميركي.
والمؤكد أن خلفه جون كيندي لم يتنبه جيداً لمثل هذه النصيحة، وقد عمل جاهداً لكي يزيل الصراعات مع الاتحاد السوفياتي، لا سيما بعدما نجح في العبور بأميركا من اختبار الصواريخ النووية الروسية في كوبا، غير أن هذا الأمر قد كلفه حياته دفعة واحدة، خلال عملية اغتيال لا تزال أبعادها مجهولة للعوام، وإن كان الجميع يقطع بأن مثلث المجمع الصناعي والمكون من جنرالات الحروب الذين يقودون المعارك على الأرض وأعضاء الكونغرس الذين يشرعون قرارات الحرب ورجالات الأعمال الذين يملكون المصانع التي تنتج أسلحة الحرب هم من فعلوها .
وليس لدى هؤلاء في واقع الحال أدنى رغبة أو مصلحة في إنهاء الحروب لأنهم سيخسرون الفرصة لتكديس ثروات كبيرة من خلال دوام الصراعات وحال توقفت الحروب سيدخلون في دائرة التهميش الاجتماعي.
هنا تكمن المشكلة الحقيقية، فكلما طال أمد الحرب باتت العودة إلى الحياة السلمية أكثر صعوبة، ذلك أنه عندما تكبر أجيال بأكملها وهي لا تعرف شيئاً سوى الحرب المشتعلة ولم تتعلم سوى قليل عن كيفية استخدام العنف للبقاء على قيد الحياة في هذه الحرب، يصبح من المستحيل إنهاء صراع مسلح من طريق معاهدة سلام.
وفي الحروب الدائمة هناك حقيقة غير واضحة في أذهان كثيرين وهي أن طرفاً واحداً لديه حسابات يجب تسويتها، مما سيؤدي بعد ذلك إلى حسابات جديدة وإصرار جديد على تسويتها، وهذا أحد الأسباب التي تجعل حروب اليوم لا تنتهي من تلقاء نفسها، بل يجعل من فرص انتهائها ضئيلة للغاية.
هل يعني كل ما تقدم أن البشرية بالفعل باتت غير قادرة على إنهاء الحروب وإيجاد حلول سلمية للأزمات المتفاقمة والخلاص من مرحلة نصف الانتصار ونصف الهزيمة، ذاك الذي يولد مزيداً من الرغبة في دوام الحرب؟
عن واقع السلام بعيد المنال
ربما تكون هناك أسباب متخفية وراء غياب السلام الأممي واستمرار الحروب الدائمة، لا سيما في ظل عالم غارق في الأسلحة، فقد ارتفع حجم عمليات نقل الأسلحة الرئيسة مقارنة بفترة السنوات الأربع السابقة.
فهل تتحمل الولايات المتحدة وزراً كبيراً في غياب السلم العالمي؟
هذا ما يقر ويعترف به البروفيسور جون فيفر مدير مشروع التركيز على السياسة الخارجية في معهد دراسات السياسة في واشنطن.
فعند فيفر أنه غالباً ما تنتهي الأسلحة المقدمة إلى أحد الفصائل في أيدي أعدائها، مما يجعل حظر الأسلحة وعمليات نقلها شبه مستحيلة، وكما هناك عمليات إطلاق نار في الولايات المتحدة بسبب توافر الأسلحة، فمن المرجح أن تبدأ الحروب وتستمر وتقاوم الحل، لأن الشباب ما زالوا قادرين على الوصول إلى شاحنات محملة بالأسلحة المتطورة.
ولعله من الأسباب المرجحة لاستمرار ظاهرة الحروب الدائمة الضعف العام الذي ينتاب المؤسسات الدولية التي عرفت طريقها إلى عالمنا المعاصر بعد الحرب العالمية الثانية، ولينظر القارئ إلى الاتحاد الأفريقي على سبيل المثال، وسيجد أنه أضعف من أن يجبر المقاتلين على إلقاء أسلحتهم وأضعف من أن توفر الأمم المتحدة والهيئات الإقليمية ما يكفي من قوات حفظ السلام لفرض وقف إطلاق النار وأضعف من أن توفر الأموال الكافية لإعادة بناء مناطق الصراع وضمان عدم اندلاع الصراع.
أما ما تقوم به القوى الكبرى حول العالم، لا سيما الولايات المتحدة وروسيا الاتحادية والصين الشعبية من محاولات مستمرة ومستقرة تهدف إلى تحقيق مدركاتها ولو بالقوة وعلى حساب بقية دول العالم، فهذا يفتح المجال من جديد لمزيد من الحروب الدائمة، ولا يغلق الأبواب أمامها.