ملخص
شريعة حمورابي التي صدرت في بابل عام 1754 قبل الميلاد تعد أقدم الأنظمة القانونية المعروفة في التاريخ، وتشتهر بتوجيهاتها الدقيقة للعدالة والمساواة.
منذ متى بدأ البشر نظاماً يقاضي الأفراد والجماعات وينصب نفسه مسؤولاً عن توزيع العدالة على الناس؟ سؤال راود كثيرين ممن شاهدوا محاكمة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب -وكاتبة تلك السطور واحدة منهم- فها هو أول رئيس سابق في تاريخ الولايات المتحدة يدان بارتكاب جناية مما يعد حكماً تاريخياً وغير مسبوق، بعد أن وجدت هيئة محلفين في مانهاتن أنه مذنب بجميع التهم الـ34 المتعلقة بتزوير سجلات الأعمال المعروفة باسم "أموال الصمت".
ما القضاء؟
القضاء هو النظام الذي يتولى تطبيق القوانين وتحقيق العدالة في المجتمع، ويشمل مجموعة من المؤسسات والمحاكم التي تفصل في النزاعات بين الأفراد وتحكم في الخلافات القانونية بموجب القوانين المعتمدة.
وتعد مهمة القضاء محورية في المجتمع إذ يسعى إلى حماية الحقوق والحريات الأساس للمواطنين، وتوفير مناخ من الأمان والاستقرار، وينظر في القضايا المقدمة إليه ويتخذ القرارات بناء على الأدلة والشواهد.
وورد في عدد عام 2020 من مجلة "القانون والعدالة" أن القضاء يقسم إلى درجتين، الأولى تتضمن محاكم التمييز ومحكمة النقض التي تراجع القرارات الصادرة عن المحاكم الأدنى، والثانية تشمل القضاء الإداري الذي يتعامل مع النزاعات الإدارية ويضمن تطبيق القوانين واللوائح الحكومية بصورة صحيحة.
أما المحاكم فتشمل أنواعاً عدة أبرزها الجنائية التي تتعامل مع القضايا والمخالفات الجنائية مثل الجرائم العنيفة والسرقة والتهريب وغيرها، والمحاكم المدنية التي تتناول النزاعات المدنية بين الأفراد والشركات مثل القضايا المتعلقة بالعقود والملكية والتعويضات المالية، والمحاكم الإدارية التي تنظر في النزاعات المتعلقة بالقوانين الإدارية والتنظيمات الحكومية مثل الطعن في قرارات الإدارة والمؤسسات الحكومية.
وهناك أيضاً المحاكم الاقتصادية المتخصصة في فصل النزاعات المتعلقة بالقوانين الاقتصادية والتجارية، مثل القضايا المتعلقة بالعقود التجارية والتسويات المالية بين الشركات والأفراد، والمحاكم السياسية التي تتولى التحقيق في النزاعات ذات الطابع السياسي مثل القضايا المتعلقة بالانتخابات والحكم والسياسة العامة، والمحاكم العسكرية التي تتعامل مع الجرائم والمخالفات التي ترتكب ضد القوانين العسكرية وتحاكم الأفراد الخاضعين للقوانين العسكرية.
من يمتلك حق منح العدالة؟
القضاء والمحكمون هم الذين يمتلكون حق منح العدالة إذ يتخذون القرارات القضائية بناء على الأدلة والشواهد المقدمة أمامهم، من أجل الفصل في النزاعات وتحقيق العدالة، لكن هناك عناصر أساس يجب أن تتوافر في القضاء والمحاكم كي يكون النظام سليماً، أولها الشفافية والنزاهة وأن تتم معاملة جميع الأطراف بمساواة أمام القانون. وكذلك ينبغي على القضاء احترام حقوق الأفراد والحريات الأساس خلال إجراءات المحاكمة وأن يتمتع القضاة بالكفاءة والحياد في ممارسة وظيفتهم، وخضوعهم إلى التدريب اللازم لتنفيذ مهامهم بكفاءة عالية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويذكر كتاب "أسس العمل القضائي وضمان استقلالية القضاء" أن مسيرة القاضي الدراسية تختلف قليلاً من بلد إلى آخر وتعتمد على النظام القضائي في كل دولة، ومع ذلك بصورة عامة يمكن تلخيص رحلة الوصول إلى مرتبة قاض بأن يبدأ الطريق بالحصول على شهادة البكالوريوس في القانون أو مجال مرتبط، إذ يمكن للطالب اختيار التخصص القانوني الذي يهمه مثل القانون الجنائي أو المدني أو الدستوري، وبعد ذلك قد يكمل المرشح برنامجاً تدريبياً عملياً أو دراسات عليا في القانون، بهدف توسيع معرفته وتحضيره لمزاولة مهنة القضاء.
ويلتزم المرشح غالباً بأداء اختبارات قضائية لتقييم معرفته وقدراته في تطبيق القانون، وتليها فترة تدريب قضائي يشمل الممارسة العملية في المحاكم تحت إشراف قضاة مختبرين، وبعد اكتساب الخبرة اللازمة يمكن للشخص التقدم إلى وظيفة قضائية والتعيين كقاض، وقبل أن يصبح المرشح قاضياً يخضع إلى تقييم يشمل تقييم الخبرة القانونية وحسن السيرة والسلوك والكفاءة القانونية والفنية، ويهدف هذا التقييم إلى ضمان أن لدى الأشخاص الذين يصبحون قضاة المعرفة والأهلية اللازمتين لتحقيق العدالة وتطبيق القانون بنزاهة وفاعلية.
تاريخ القضاء من شريعة حمورابي إلى العصر الحديث
وتعد المحاكم ونظام القضاء جزءاً مهماً من تاريخ الحضارات المختلفة، ووفقاً لدراسة "محاكم العدل في مصر الفرعونية" الصادرة عام 2017 عن جامعة المنوفية كانت المحاكم في مصر القديمة تعتمد نظاماً قانونياً يستند إلى القوانين المدونة والعرفية، وكانت هناك محاكم متخصصة في فصل النزاعات المدنية والجنائية تتمتع بسلطة كبيرة في تطبيق العدالة، وتشير الآثار والنصوص التاريخية إلى وجود إجراءات قضائية محددة ونظام قضائي متطور في مصر القديمة.
ولكن شريعة حمورابي التي صدرت في بابل عام 1754 قبل الميلاد تعد أقدم الأنظمة القانونية المعروفة في التاريخ، وتشتهر شريعة حمورابي بتوجيهاتها الدقيقة للعدالة والمساواة، وتضمنت كثيراً من البنود من أبرزها مبدأ المساواة أمام القانون، إذ كانت تنص على تطبيق عقوبات متساوية على جميع الأفراد بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية أو الوضع الاقتصادي.
وكانت الشريعة تحدد عقوبات صارمة على المخالفين تشمل العقوبات الجسدية والغرامات المالية. فعلى سبيل المثال ينص أحد البنود على أنه إذا كان شخص سبب ضرراً جسدياً لآخر فسيتم تطبيق نفس الإصابة عليه (قاعدة العين بالعين والسن بالسن)، وكذلك كانت شريعة حمورابي تحمي حقوق الأسرة والممتلكات إذ تضمنت بنوداً تتعلق بحقوق الزوجات والأبناء وتوزيع الميراث، وشملت أيضاً بنوداً تنظم الأعمال التجارية والتعاملات المالية وحددت الشريعة حقوق العبيد والمملوكين وتضمنت بنوداً تحمي حقوقهم وتحدد التزاماتهم تجاه أصحابهم.
وبالمثل في أقصى الشرق وبحسب كتاب "تاريخ القضاء في الصين القديمة" لـداي جين كانت المحاكم تشغل دوراً مهماً في تطبيق القانون وفصل النزاعات في الصين، وتعتمد على نظام قانوني يتأثر بالفلسفة القانونية التي كانت متميزة في الحضارة الصينية، وكانت لدى المحاكم سلطة واسعة في تحديد العقوبات وحل النزاعات بين الأفراد.
وفي الهند القديمة تم اتباع أنظمة قانونية ووجدت محاكم تعتمد على القوانين الدينية والمدنية، ويذكر راما شارما في دراسة "القضاء والمحاكم في الهند القديمة" أن المحاكم كانت تتخذ قرارات بناء على القوانين الهندية القديمة مثل "مانو سمرتي" و"يجنافالكيا"، التي تنظم العلاقات الاجتماعية والجنائية.
وفي اليابان كانت المحاكم تاريخياً تعتمد على نظام قضائي يجمع بين القوانين الدينية والمدنية، وكانت هناك محاكم تابعة للملوك والشخصيات الدينية تقوم بفصل النزاعات وتطبيق العدالة وفقاً للقوانين التقليدية والعرفية.
وشهد تطور القضاء في العصور الحديثة تحولات مهمة في مجال تمثيل الأقليات وتعزيز المساواة من خلال دخول النساء والأشخاص الملونين إلى نظام العدل، وكانت هذه الخطوة محورية في تطور العدالة إذ أصبحت القضايا تعامل بمنظور متنوع وشامل يعكس تنوع المجتمع.
وتوجد شخصيات عديدة ملهمة أسهمت في تلك التحولات من بينها القاضية البريطانية فيكتوريا ماكلاود، ففي عام 2016 تم تعيين ماكلاود كرئيسة محكمة بالمحكمة الجنائية العليا في اسكتلندا، لتصبح أول قاضية مثلية الجنس تحتل هذا المنصب في بريطانيا ورمزاً للتنوع والتمثيل المتساوي في المجتمع القضائي.
وفي الهند تمكن شاب يدعى مايانك بارتاب سينغ من تحقيق حلمه بالعمل في القضاء في سن مبكرة للغاية، وكان الشاب المولود عام 1995 يحلم منذ صغره بأن يصبح قاضياً لتحقيق العدالة وتقديم المساعدة إلى الناس في مجتمعه. وبدأ سينغ محاولاته لتحقيق هذا الحلم عندما كان في الـ21 سنة إذ تقدم لاختبار الخدمة المدنية في الهند، لكن كان يشترط أن يكون عمر المتقدم للاختبار 23 سنة في الأقل، ونظراً إلى تفوقه في الاختبار قررت لجنة الخدمة المدنية تخفيض سن القبول فخضع للتدريب لمدة عامين وتم تعيينه في النهاية قاضياً في المحكمة المدينة في جوركهبور عام 2018، وهو يبلغ من العمر 23 سنة فحسب.
محاكمات لا تنسى
ويشهد التاريخ بين حين وآخر محاكمات شهيرة تظل بصمة خالدة في الذاكرة الجماعية، إذ تمثل نقطة تحول أو تحدياً أمام العدالة. ومن بين أبرز هذه المحاكمات وقوف الفيلسوف اليوناني الشهير سقراط عام 399 قبل الميلاد أمام المحكمة الديمقراطية الأثينية، بعد أن اتهم بتحريض الشباب على الهرطقة وإساءة السمعة الأثينية، ودين وأعدم بشرب السم.
وفي عام 1431 تمت محاكمة البطلة الوطنية الفرنسية جان دارك المعروفة أيضاً بـ"جان من أورليانز"، في محكمة الانقلاب الإنجليزية خلال حرب الورد، بعد اتهامها بالهرطقة والسحر والخيانة، ودينت وأعدمت حرقاً.
وجرت محاكمة ماري أنطوانيت عام 1793 إذ وقفت ملكة فرنسا السابقة أمام المحكمة الثورية في فرنسا، بعد اتهامها بالخيانة والمؤامرة ضد الثورة الفرنسية، ودينت وأعدمت بقطع رأسها بالمقصلة.
وحوكمت الموظفة في وزارة الدفاع الأميركية جوديث ميلر وزوجها عام 1953 إثر اتهامهما بالتجسس لمصلحة الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة، وكانت هذه المحاكمة طويلة ومثيرة للاهتمام نظراً إلى التأثير السياسي والعاطفي الكبيرين اللذين أحدثتهما.
وتعد "محاكمات نورمبرغ" التي جرت بعد الحرب العالمية الثانية بين عامي 1945 و1946 أطول محاكمة معروفة في التاريخ، وقوضي خلالها عدد كبير من المسؤولين النازيين البارزين أمام المحكمة العسكرية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، وكانت هذه المحاكمات طويلة ومعقدة إذ استغرقت شهوراً عدة وشملت عدداً كبيراً من المتهمين وشهود الإثبات والأدلة.
عدالة على الشاشات
وفي العصر الحديث أصبحت محاكمات المشاهير محط اهتمام واسع في الثقافة الشعبية، وغالباً ما تتحول إلى مادة للترفيه والإعلام. وتغطى هذه المحاكمات بصورة مكثفة من قبل وسائل الإعلام مما يجعلها جزءاً من النقاشات العامة اليومية، ومن أبرز الأمثلة على ذلك محاكمة لاعب كرة القدم الأميركية أو جيه سيمبسون في التسعينيات التي لاقت متابعة جماهيرية هائلة وأثارت جدلاً واسعاً، والصراع القضائي بين الممثل جوني ديب وزوجته السابقة آمبر هيرد.
وتستقطب هذه المحاكمات الاهتمام بسبب شهرة الأفراد المتورطين وطبيعة الجرائم المتهمين بها مما يجعلها تتجاوز حدود النظام القضائي، لتصبح جزءاً من الثقافة الشعبية.
وكانت أول محاكمة بثت أحداثها مباشرة عبر التلفزيون هي محاكمة كلاوس فون بولو عام 1982 في الولايات المتحدة، الذي اتهم بمحاولة قتل زوجته ونالت المحاكمة اهتماماً إعلامياً مكثفاً مما جذب انتباه كثير من الجمهور، وأثار نقاشات واسعة حول تأثير الإعلام في العدالة.
لكن بالتأكيد هناك محاكمة متلفزة يصعب محوها من الذاكرة العربية، فبعد سقوط نظامه عام 2003 وقف الرئيس العراقي السابق صدام حسين أمام المحكمة الجنائية العراقية العليا، وبدأت محاكمته في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2005 بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، بما في ذلك عمليات القتل الجماعي والتعذيب والانتهاكات الخطرة لحقوق الإنسان خلال فترة حكمه، وكانت محاكمته موضع اهتمام عالمي وبثت على نطاق واسع.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) عام 2006 دين صدام حسين وحكم عليه بالإعدام شنقاً ونفذ الحكم في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه، وتعد محاكمة صدام حسين واحدة من أبرز المحاكمات في التاريخ الحديث إذ كانت لها تأثيرات كبيرة في السياسة الإقليمية والدولية.
وإلى جانب الأمثلة السابقة فإن محاكمة دونالد ترمب ستظل بدورها في ذاكرة التاريخ كحدث مهم وتحول تاريخي له أثره الكبير في المشهد السياسي والقانوني، في الولايات المتحدة وربما في العالم بأسره، ويضيفها بلا محالة إلى قائمة المحاكمات التي لا تنسى.