ملخص
يتوزع السرد في رواية "مقامات الغضب" للكاتبة المصرية صفاء النجار على خمس شخصيات، وتقع الأحداث في مكانين هما وسط القاهرة ومدينة مغاغة في شمال الصعيد، وتنتقل هذه الرواية من الخاص إلى العام وتبدأ بالأزمات الفردية لتنتهي بأزمة جيل حلم بواقع مغاير ثم أجهضت أحلامه.
جرت العادة في النقد الأدبي الحديث أن يبدأ الناقد بالعنوان بوصفه العتبة الأولى للنص، وإن كان هذا ليس حتمياً إلا عندما يكون بصدد عنوان لافت في دلالته. ويمكن تطبيق ذلك مع رواية "مقامات الغضب" (الدار المصرية اللبنانية) للكاتبة صفاء النجار، فالمقامات مصطلح صوفي دال على منازل تقرب المتصوف من الله، وهو ما استدعته الكاتبة في عنوانها بغرض مختلف وهو الاقتراب من حقيقة النفس، لتعيد لها علاقتها الطبيعية بالعالم، فلا تخضع هذه الرواية لصوت السارد الخارجي العليم بل تقوم على تعدد الأصوات الداخلية المشاركة في الأحداث.
وعلى هذا انقسمت الرواية إلى أربعة مقامات هي "المغامرة" و"الحيرة" و"الترقب" و"الترحال"، والتدرج هنا يأخذ شكل المجاهَدات الروحية ويبدأ بالمغامرة كرغبة أولى، وينتهي بالترحال بوصفه قراراً نهائياً، مروراً بمقامي الحيرة والترقب الدافعين نحو المقام النهائي. وتقوم الشخصيات / الأصوات في هذه المقامات كلها بالتناوب على روايتها، "أروى" التي تكاد تكون بطلة الرواية، و"سلوى" التي تشبه "أروى" وتكاد تقترب من التماهي معها في معاناتها وحياتها المضطربة، و"يسري صالح" (جد أروى)، و"فادي" زوجها، و"علي قنديل" الشيخ الأزهري .
واللافت أن السرد يبدأ بصوت "أروى" وينتهي به، وهذا يؤكد أننا أمام تخطيط دقيق لبناء الرواية، وإضافة إلى هذه الأصوات الساردة فهناك شخصيات مستدعاة في السرد، منهم "هند" جدة "أروى" و"سامر" طليق "سلوى" و"نجاة" والدتها. والسرد عموماً مقدم بضمير المتكلم، إذ تحكي كل شخصية تجربتها الخاصة.
بين مكانين
توزع السرد على خمس شخصيات لكن أحداثه تقع في مكانين وحسب، وسط القاهرة ومدينة مغاغة شمال الصعيد، فأسرة لواء الشرطة السابق يسري صالح، وهي أسرة إقطاعية أُممت أراضيها، وتصور الكاتبة مشهد التأميم حيث كانت المدرعات "تدك الزرع وتهد سور السراي"، وهكذا تمتد أحداث الرواية من أعوام التأميم التي أعقبت ثورة عام 1953 إلى ما بعد عام 2013، وهو ما ألجأ الكاتبة إلى توظيف "الثغرة الزمنية"، تقول أروى: "بعد سنوات من يناير 2011 يمكن لجدي أن يردد شعاره على شاشة التلفزيون: ارفع رأسك فوق أنت ضابط شرطة"، وهذا ما يتوازى مع تحولات المكان، حيث لا يبقى مكان على حالته الأولى في ظل التغيرات السياسية والاجتماعية التي صاحبت "ثورة 25 يناير"، "الحي الهادئ، المنيل، يفقد الكثير من روحه وسكينته"، وهو وصف تعبيري من جانب "أروى" يقابله وصفها التقريري المحايد: "في الدور الأرضي غرفة الطعام، وغرفة دادا سُهاد، الصالونات، غرفة مكتب جدي وبها باب مغلق يفتح على سلالم، تؤدي إلى غرفة في البدروم"، وهو ما يرصده اللواء يسري أيضاً حول ما حدث لفيلا إلهامي باشا التي تحولت إلى "مأوى للكلاب الضالة والمتسكعين".
ولا شك في أن هذه التقابلات تخلق بنية درامية وصلت إلى الصراع الدامي في مواجهة الشرطة للمناوئين للنظام، يقول اللواء يسري: "تلك أطول ليلة مرت بي منذ تركتُ الخدمة، تصاعد صوت الأعيرة النارية ومعها انفجر دماغ شاب على الرصيف الذي أسير عليه الآن".
أروى وسلوى
تشكل الأزمات الفردية والمجتمعية متن الرواية، ففادي المسيحي يحب أروى المسلمة ويشهر إسلامه لكن علاقتهما تضطرب، ويقول فادي "منذ زواجي من أروى وأمي حزينة مكلومة تحاول أن تنقذني من الأسد الذي أضع روحي وجسدي في فمه". والأمر نفسه يحدث مع سلوى التي تفشل في زواجها من سامر الذي تصفه بقولها "خمسة عشر عاماً مرت منذ انفصالنا، تزوج وطلق خمس مرات وما زال يغيب ثم يعود وهو يردد: لقد تغيرت"، ويرجع انفصالهما إلى اغتصابه لميراث أمها وأنانيته. إن تحول "فادي" إلى الإسلام واكتشاف "سلوى" لحقيقة زوجها يدخل في نطاق تحولات الشخصية.
النجمة الإعلامية ميادة شاهين تقرر ارتداء الحجاب لتقدم برنامج فتاوى للمرأة المسلمة بعدما كانت في السابق تقدم برامج المنوعات، وهنا يأخذ الدين بعداً براغماتياً، فنحن إذاً أمام شخصيات مضطربة "أروى وسلوى"، وشخصيات براغماتية "ميادة شاهين"، وشخصيات متعصبة مثل "والدة فادي"، وأخرى تؤمن بإنسانية الأديان مثل "علي قنديل" الذي لا يرى مانعاً من الاقتباس من الإنجيل، وعندما يهاجَم يكتب عبر تطبيق "فيسبوك" عن أهمية تعدد مصادر المؤمن، وأنها جميعها تصب في مجرى إيمانه.
والحق أن ظاهرة التضمين تعد إحدى سمات هذه الرواية، فـ "أروى" مثلاً تستدعي قصة النبي سليمان مع المرأتين اللتين ادعتا أمومتهما لطفل، فيقترح تقسيمه بينهما لكن الأم الحقيقية تصيح، تأخذه ولكن لا تقسمه، وهنا يدرك أنها الأم الحقيقية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأكثر من ذلك تضمن الكاتبة أغنيات بالفرنسية لأديث بياف وداليدا، وامتداداً لذلك توظف الكاتبة الأسلوب الخيالي والأسلوب الشاعري حين يقول فادي: "الوحش يبتلع الجميلة / سأغمض عيني كي لا أراك / سأغلق فمي كي لاينطق اسمك / لكني سأبقي أذني مشرعتين كي تلتقطا حفيف صوتك"، فعلى رغم ندرة المجاز البلاغي إلا أن السطور تحمل طاقة شعرية واضحة في الجمع بين الشيء ونقيضه، ومن ذلك دمج الحوار مع المتن، كما يبدو من حديث "يسري صالح" مع "رافع" الذي يقوم بخدمته حين فوجىء به محتقن الوجه: "ماذا حدث؟ أشار إلى ساقه ورفع الغطاء، بدت بقعة حمراء، هم بالنهوض: سأجهز لك القهوة. لا استرح، حاسس بتكسير في جسمي، سأبحث لك عن مُسَكن". ومن المعروف أن الوصف والحوار يوقفان حركة السرد، لكن هذا الدمج يساعد في استمرار تدفق السرد.
اضطراب واغتراب
ذكرتُ أن "أروى" و"سلوى" يعانيان اضطراب ظروفهما ونفسيتيهما مما أدى بهما إلى الإحساس باللاجدوى والاغتراب والتشظي، وتقول "أروى": "أنا واحدة من الكائنات التي تتشظى طوال يومها وفي الصباح التالي تعيد تركيب أجزائها"، أو "أنا مثل كثيرين أفعل كل يوم أشياء عدة، لكني في الحقيقة لا أفعل شيئاً"، ولهذا يكون من الطبيعي أن يسيطر عليها الشعور بالغضب: "يملأني غضب هائل ضد نفسي، وضد ماما وبابا، وضد جدي وضد فادي، غضب من استخدام الآخرين لي، غضب من استغلالي للآخرين".
ولا تجد سوى مشاهدة أفلام الرعب لتفرغ كل هذه الطاقة من الغضب، وتفسر "سلوى" بداية السقوط أو بداية التواطؤ بعدم تعليقها على قول "سامر" إنه كان متزوجاً، فلم تتخذ موقفاً أو حتى تطرح تساؤلاً حوله، وإن تصوير حالات المرأة المختلفة هو من المهمات الرئيسة لهذه الرواية، وهذه الحالات التي يحكمها التقابل الذي نراه أيضاً على المستوى الاجتماعي والديني والسياسي، فالموقف من أحداث الـ 25 من يناير (كانون الثاني) 2011 جدّ مختلف بين أروى وجدها اللواء يسري صلاح حين تقول: "نحن من صنع آلهة من الأحلام والأمنيات، نفخنا فيها من أرواحنا، من براءتنا، من الشغف بالحياة، ومن الرغبة في التغيير". بينما يشير "اللواء يسري" بأصابع الاتهام إلى الثوار "الغر السذّج".
تبدأ هذه الرواية من الخاص إلى العام ومن الأزمات الفردية لتنتهي بأزمة جيل حلم بواقع مغاير ثم أجهضت أحلامه.