ملخص
تدمج رواية "ابتسامة بوذا" للكاتب المصري شريف صالح بين الواقعية والفانتازيا عبر قصص تخييلية تتكئ على التاريخ والأفكار والهويات والهواجس
يظل التجريب إحدى آليات مجمل أعمال الكاتب المصري شريف صالح سواء القصصية أو الروائية، بمعنى الخروج عن توقعات المتلقي وتخطي هذه التوقعات وكسر أفقها المعتاد. وهو ما يبدو في روايته "ابتسامة بوذا – ناديت باسمك في الماء" (خطوط وظلال)، بحيث يكسر الكاتب أفق توقعنا أننا بناءً على العنوان بوصفه عتبة دلالية أولى سنلتقي بذلك الحكيم الصيني "بوذا" متجسداً في إحدى شخصيات الرواية، لكن الرواية، تبرز ثنائية الظاهر والباطن أو المظهر والجوهر، وتقوم على عالمين يفضي كل منهما إلى الآخر: العالم الافتراضي الذي تعارف من خلاله "مار" على "تاليا" وتواعدا على اللقاء في أبوظبي. والعالم الحقيقي يواجه فيه السارد وقائع غريبة، حيث يتجه إلى الفندق الذي حجزت "تاليا" له غرفة فيه، لكنها لا تسافر إليه.
وربما أوحت الرواية بذلك أننا نتواصل افتراضياً بصورة أكثر حرية وانكشافاً أكثر من العالم الواقعي الذي نرتدي فيه أقنعة لا تنتهي. ومن ذلك مثلاً، أن " تاليا" لا تخشى الناس كما تقول في تواصلها الافتراضي مع "مار"، فـ"الحب ليس خطيئة، الحب شجاعة، حلم أغني فيه وأرقص مع حبيبي". أو حين يناقشان فكرة الذهاب إلى شاطئ العراة، لأن العري – عند تاليا - ليس إثارة جنسية، بل "لحظة تتساوى فيها الأجساد، بلا زيف ولا ادعاء بطولة". ومن المهم أن نفهم العري – هنا – على أنه مجرد رمز للتمرد على قيود المجتمع المكبلة للاختيارات الفردية، والتي ينبغي الخلاص منها. مما يقوم به السارد في ترميز الأرقام – على لسان أحد الشيوخ المسافرين معه في الطائرة – حين يتساءل: "هل تظنون أن رقم الرحلة 666 كان عشوائياً؟ هذا رقم الشيطان، نحن خرجنا مع إخواننا المسيحيين لاصطياده بعون الله". ويقول أحد القساوسة إن هناك فارقاً بين رقمي 7، 6، فالأول يرمز إلى الكمال الإلهي بينما ستة شيطاني شبيه بالكمال وتكراره ثلاث مرات – رقم الرحلة – هو نقص لا نهائي. وفي هذه الحالة تصبح الطائرة – باحتوائها على الشيوخ والقساوسة – شبيهة بسفينة نوح التي أقلت المؤمنين فحسب. فهل توحي الرواية باعتقاد البعض أن الشيوخ والقساوسة هم المؤمنون فحسب؟ هذا أحد التأويلات الواردة بدليل تعرض السارد لـ"جهاز الكشف عن عدم الإيمان"!
تديين العالم
وهكذا تتحول الطائرة إلى "بيت مقدس، بما أنك عندما تجلس فيها مرتاحاً على كرسي فخم تصبح أقرب إلى السماء". إننا أمام تصوير لتديين العالم. وتتوازى مع هذا التديين رؤية أخرى لا تقل هيمنة، وهي أن الوطن مقدم على سعادة الفرد، وأنهما إذا تعارضا فعلى الفرد التضحية بسعادته. ويرى السارد سخافة مثل هذه التصورات، التي تختصر قصة البشرية في هاتين الثنائيتين: الإيمان واللا إيمان، والوطن والفرد، ويسخر من التفسير الخرافي للأحداث حين يقول الشيخ إن سبب مرور الطائرة بمطب عنيف هو "ضرطة شيطانية أخرى"، بما أن القس يرجح أن الشيطان اختبأ في حمامات الطائرة. كما يسخر من ثنائية أخرى حين يقول إنه رأى في الفندق فتاة تمسك دلة القهوة العربية وأخرى توزع الشمبانيا، "وبهذه الضيافة اللطيفة حل الفندق إشكالية الأصالة والمعاصرة".
يصل السارد إلى الفندق فيراه شبه مهجور، ليس فيه سوى موظف الاستقبال وعملاق باكستاني يصر على أنه "بوذا الحقيقي"، وبعض النساء. ويتم استدعاء بعض الفنانات: شويكار وسعاد حسني وكاميليا. كما تتم الإشارة إلى أبطال أفلام وروايات سابقة وبعض الحكم البوذية. كما تزخر الرواية بالمفارقات بين المشاهد، ففي اللحظة التي كانت تعبر فيه المرأة الفارسية عن حبها للسارد الذي قادها لمغادرة مسقط رأسها، في وقت كان فيه التلفزيون يعرض مشهداً مناقضاً لأصوات البلطة التي تمزق جسد شاب في فيلم "ميديا". بدا الفندق – دائماً في نظر السارد – شبيهاً ببيت الأشباح وكان يردد في مرارة: "أنا لا أريد العودة إلى فندق الأشباح". وقد زاد من هذا الإحساس مطاردة "العملاق" له، مما جعله يشعر – أيضاً - بوجود مؤامرة ضده، فتاليا حجزت له الفندق ولم تأتِ.
صوفية وعولمة
كما ظهرت النساء في صور عجيبة، فإحداهن كانت تعيش حياتها في المسبح ولا ترى فارقاً بين الجسد والروح أو بين الشهوة الجسدية والارتقاء الروحي، بحيث تضع وشماً على باطن فخذها: "الشهوة خيل ترمح فيه الروح". والأغرب أنها كانت تختفي – أحياناً - عندما يقفز السارد فوق المسبح، يقول: "لمحت كنداكة تلهو في المسبح بطريقتها المثيرة، كانت تعوم وتغطس وحدها، قفزت فوقها، تلاشت كأن لم تكن". و"تسيبا" التي تقيم في الصحراء باعتبارها بيتها، وتزاحم الجنسيات فيما يشبه العولمة حين شاهد السارد هذا المشهد السوريالي: "سيارة ألمانية على أرض إماراتية يقودها سائق سوداني فيها امرأة أصفهانية تساعد رجلاً مصرياً".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في مقابل هذه العولمة نجد بعداً صوفياً لافتاً يظهر في عديد من عبارات هذه الرواية. تقول تاليا، مثلاً: "أنا أكره الذين يصلون خوفاً لا حباً. أكره من يتعاملون مع الخالق كأنه بنك لجمع الحسنات. إن الحب هو القيمة الكبيرة التي يحرص عليها المتصوفون لا الخوف من النار أو الطمع في الجنة". وفي موضع آخر تعبر عن تمردها على قيود مذهبها الديني بعد أن تعلمت معنى الإيمان بكل أبناء البشرية، وهذا هو جوهر الصوفية الذي عبر عنه ابن عربي بقوله "لقد صار قلبي قابلاً كل صورة". ويقصد بكل صورة جميع الناس على اختلاف أديانهم وأعراقهم ومذاهبهم. ويقول "مار" إنه أصبح عاجزاً عن "التخلي والتحلي"، وهما من تعريفات الصوفية الشهيرة. إن البارئ – في الصوفية – يتجلى في كل شيء كما يقول العملاق "بوذا الباكستاني". الطقوس ليست هي الأساس أو أنها لا يعول عليها ما دامت لا تؤدي إلى الخلاص. وهناك بعض العبارات التي تؤكد أن الوعي أسبق على الوجود فنحن نعكس ما في داخلنا أو تصوراتنا على الموجودات. يقول العملاق مخاطباً السارد: "نحن نضع الإطار وأن تخلق الصورة"، "هذه الصورة كانت في رأسك لا على الحائط"، وإن "الصور مثل الأغنية تأتي من قلبك".
توظيف الفانتازيا
وفي مقابل هذه النزعة الروحية نجد مشاهد كثيرة ذات بعد سياسي حين يقول السارد إنه – وهو يشرب أعظم كوب شاي بالحليب – فكر في مدى تفاهته لأنه غاضب من جوعه بضع ساعات، "بينما آلاف الناس في سوريا واليمن تمر عليهم أيام دون كسرة خبز". وحين يتحدث عن ستالين الذي قتل 20 مليون شخص من أجل مضاجعة المنجل للمطرقة. العالم كله على هذه الشاكلة: قاتل ومقتول. ومن هنا يأخذ المسبح الذي تقيم فيه كنداكة معنى رمزياً. فهو المكان الذي نسترد فيه أجسادنا كاملة ونرتاح من اللهاث. وإقامة السارد في فندق مهجور جعله غير قادر على معرفة الزمن رقمياً فاعتمد على ما يعرف بالزمن الطبيعي، "لا أصدق أننا في الشتاء (هل يعقل أن ستة أشهر مرت عليَّ هنا؟)".
تمتاز هذه الرواية بعدة سمات فنية، منها توظيف الفانتازيا مثل استجلاب السارد للغيث في الصحراء بضم راحتي يديه، وخروج امرأة من الرمل عارية أمامه وهي قريبة من المعجزة التي أخرجت مادونا من الصورة أو رؤيته – من نافذة الطائرة – لتالوشا وشالوشا وثالوثا وهم يجلسون فوق سحابة. ومن السمات أيضاً استدعاء الأغاني والأفلام والروايات السابقة وأبطالها وترميز بعض الأماكن والشخصيات، فـ"تاليا" نفسها قد تكون رمزاً لحلم السارد البعيد الذي لا يتحقق. ومن تلك السمات، تبادل الشخصيات كأن تتجسد "نيرفانا" مثلاً في صورة الفنانة شويكار، واستدعاء بعض الأساطير مثل أسطورة بيغماليون، وتقنية الرواية داخل الرواية فالسارد دخل الرواية بوصفه روائياً يحاول كتابة رواية عن سعاد حسني ورصد حياتها ونهايتها المأسوية.