ملخص
استخدمت روسيا مخزونات أسلحة الحرب الباردة التي استطاعت مؤسسات المجمع الصناعي الروسي تحديثها بما يتفق ومتطلبات الموقف على الجبهة
ما إن اعترف وزير الخارجية الأميركية أنتوني بلينكن بعجز العقوبات الأميركية عن التأثير في عرقلة نشاط المؤسسة الصناعية العسكرية الروسية، وعدم قدرتها على الحيلولة دون إمداد القوات الروسية المسلحة بما تحتاجه من ذخيرة ومعدات، حتى تدفقت الاعترافات من أطراف أخرى، وكان بلينكن أشار في رسالته التي بعث بها عبر "يوتيوب" التابعة لوزارة الخارجية الأميركية إلى أن "روسيا نجحت في تأمين وتعزيز نشاط مؤسساتها العسكرية الصناعية، ووجدت السبل اللازمة لتجاوز العقوبات ومواصلة عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا". وعزا بلينكن ذلك إلى أن موسكو وجدت الحلول في علاقاتها مع كوريا الشمالية وإيران، "وللأسف مع الصين أيضاً"، وثمة من يقول إن ذلك الاعتراف الذي عاد بلينكن وكشف عنه خلال المنتدى السنوي الأمني لمعهد "إسبن" للدراسات الإستراتيجية والإنسانية في واشنطن، يمكن أن يضاف إلى ما قاله في مطلع يونيو (حزيران) الماضي الأمين العام لحلف الـ "ناتو" ينس ستولتنبرغ والمنتهية ولايته، حول أن "روسيا عززت صناعاتها الدفاعية بصورة أسرع مما كان متوقعاً، وإن بلدان الحلف تقضي وقتاً أطول في زيادة الإنتاج العسكري أكثر مما ينبغي أن تقضيه"، فضلاً عن اعترافات أخرى كثيرة أدلى بها عدد كبير من رموز ذلك التحالف الغربي.
نجاح روسيا في مواجهة العقوبات الغربية
ولعل تلك التصريحات الصادرة عن كبار المسؤولين في التحالف الغربي المضاد لروسيا يمكن أن تكون إضافة لتفسير ما تشهده أروقة التحالفات السياسية والعسكرية الغربية من خلل وارتباكات وتراجع، بحسب مسؤولين سياسيين، سواء على الساحة الأوروبية بعد الانتخابات البرلمانية الأخيرة، أو في الساحة الأميركية التي كشفت منتدياتها الأخيرة عن تقدم ملاحظ للرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وانحسار واضح لنفوذ ومواقع الرئيس الحالي جو بايدن، واحتمالات انسحابه من الترشح لفترة ولاية ثانية، وهو ما لا بد من أن يؤثر في الأوضاع الأوكرانية، وما يفسر تعجل الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي في الاتصال بالمرشح الجمهوري لمنصب الرئاسة الأميركية دونالد ترمب وطلب الاجتماع معه لبحث رؤيته حول السلام في أوكرانيا.
وقد عكف خبراء غربيون كُثر على درس أسباب صمود روسيا ونجاحها في التصدي للعقوبات الأميركية والأوروبية، وفشل هذه العقوبات في التأثير في عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، وعلى صناعاتها العسكرية التي تجاوزت نجاحاتها التوقعات في إنتاج أحدث المعدات والأسلحة والمنظومات الصاروخية والذخيرة، على النقيض من توقعات الغرب والـ "ناتو"، على حد قول قائد الجيش الأستوني مارتين هيريم.
أما عن تفسير ما صار اليوم حديث العامة والخاصة في أروقة السياسة الغربية، فقد كشف عنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في ما قاله حول ضرورة التحول إلى الاكتفاء الذاتي والاستناد إلى ما تملكه روسيا من قدرات ومقدرات، وهي ليست قليلة، فروسيا تملك 30 في المئة من ثروات العالم من موارد الطاقة والمعادن بمختلف أنواعها، بما فيها اليورانيوم والذهب، وهي الدولة الأكبر في العالم من حيث المساحة الجغرافية.
وفي حديثه إلى قيادات وكالات الأنباء العالمية خلال "منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي السنوي الأخير"، قال بوتين إن هدفه المتمثل في انضمام روسيا إلى الاقتصادات الأربع الأهم في العالم قد تحقق، مضيفاً أن روسيا "زادت إنتاجها من الذخيرة بأكثر من 20 ضعفاً، وتتقدم بمراحل عدة على العدو في تكنولوجيا الطيران"، مؤكداً اعتماد بلاده الكامل على أسلحتها وصناعاتها العسكرية ونجاحها التام في تحقيق ذلك.
ولعل أبرز نجاحات روسيا التي يمكن التوقف عندها طويلاً هو ما تحقق على صعيد الإنتاج الزراعي وتحولها من واحدة من أكبر بلدان العالم استيراداً للغلال إلى الدولة الأولى في تصدير الحبوب، فضلاً عن تحقيق الاكتفاء الذاتي في المواد الغذائية بعد نجاح رجال الأعمال في روسيا في استنباط وتصنيع كثير من الأنماط الغربية التي تلبي حاجة المستهلك المحلي، كما أعلن بوتين خلال الفترة الماضية تحقيق الاقتصاد الروسي نسبة نمو تضعه في المرتبة الأولى في أوروبا والخامسة عالمياً بعد كل من الصين والولايات المتحدة والهند واليابان.
كيف استطاعت روسيا المواجهة؟
من الممكن أن نجد الإجابة عن هذا السؤال في كثير من التقارير الصادرة عن معاهد الأبحاث والدراسات الإستراتيجية الغربية، ومن هذه التقارير ما كتبته ماريا سنيغوفايا من مركز واشنطن التحليلي للدراسات الإستراتيجية والدولية (CSIS) في تفسيرها لقدرة روسيا على الصمود والتطور وقالت سنيغوفايا "أولاً تواصل روسيا الاعتماد على المخزونات السوفياتية الضخمة من الأسلحة، والمشكلة هي أنه لا أحد يعرف حقاً كم منها لديها"، وأضافت أنه "على رغم استخدام المعدات القديمة فإن الروس يقومون بتحديثها عبر إضافة مكونات حديثة، وذلك ما يحدث على سبيل المثال مع الدبابات والمركبات المدرعة الأخرى".
وانتقلت الباحثة إلى الاقتصاد الروسي الذي قالت إنه حقق العام الماضي نسبة نمو قدرت بـ 3.6 في المئة، وفقاً لإحصاءات "صندوق النقد الدولي"، وهذا يرجع جزئياً لقدرة روسيا على تجميع إيرادات ضخمة باستمرار من صادرات الهيدروكربونات التي تعيد استثمارها في الاقتصاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومن الأسباب التي أسهمت في تجاوز روسيا العقوبات فإن ثمة من يشير إلى انخفاض فعالية العقوبات في المقام الأول نظراً لكثير من الأسباب، ومنها انخفاض اعتماد الاقتصاد الروسي على رأس المال الخارجي، والأهمية العالية للسلع الروسية التي تواصل الدول الغربية نفسها شراءها وإن بكميات أقل، فضلاً عن نجاح نهج استبدال الواردات من خلال التصنيع المحلي لما كانت روسيا تستورده من الخارج، والذي كان في معظمه، عدا المعدات والتكنولوجيا الحديثة، يمكن إدراجه تحت بند الكماليات، ومنه مستحضرات التجميل وكثير من المواد الغذائية ومنها الأجبان الفرنسية التي ظهرت أخيراً في الأسواق الروسية بأسمائها الفرنسية نفسها.
"فوربس" تقر بتقدم روسيا على الولايات المتحدة
وعلى صعيد الصناعات العسكرية نقلت وكالة "سبوتنيك" الروسية عن مجلة "فوربس" الأميركية ما نشرته حول "أن الجيش الروسي يحتل المرتبة الأولى عالمياً من حيث عدد الأنظمة المدفعية التي يمتلكها، متفوقاً على القوات المسلحة الأميركية بثلاثة أضعاف"، وقالت المجلة "إن القوات المسلحة الروسية تمتلك أنظمة مدفعية أكثر من أي جيش آخر في العالم، وثلاثة أضعاف ما تمتلكه القوات المسلحة الأميركية، كما يستخدم الجيش الروسي مزيجاً من مدافع الهاوتزر ذاتية الدفع من الحقبة السوفياتية مثل (MS19 Msta-S) والأنظمة الأحدث مثل (2S33 Msta-SM2).
أما عن الذخيرة فقد استطاعت روسيا تعبئة كل احتياطاتها الصناعية العسكرية من أجل تحقيق التفوق على إمدادات البلدان الغربية لأوكرانيا بما يزيد على ثلاثة أضعاف، بحسب تقديرات شبكة تليفزيون "سي أن أن".
ومن اللافت في هذا الشأن ما تقوله المصادر الأميركية حول أن "القاعدة الصناعية الدفاعية الروسية تتمتع بشبكة إمداد قوية لإنتاج القذائف المدفعية، وتبلغ طاقتها الإنتاجية 250 ألف قذيفة مدفعية شهرياً، وهي قادرة على مواكبة معدل استخدامها العسكري"، وذلك ما تضيف إليه المصادر الروسية تأكيدها حول أن روسيا تملك من الأسلحة الحديثة ما يؤهلها لمواجهة الموقف الراهن على جبهة القتال.
وتوقفت المصادر الغربية في تناولها لعناصر صمود القوات الروسية وما تحرزه من تقدم في الأراضي الأوكرانية، عند خواص كثير من المعدات ومنها مدافع "Msta-S" الروسية، وهي مدافع ذاتية الدفع محمولة على عربات مجنزرة صممت لتدمير بطاريات المدفعية والدبابات وناقلات الجنود المدرعة والهياكل الدفاعية ومراكز التحكم ومراكز الاتصالات والقوى العاملة والأهداف المعادية المختلفة.
وتتسلح هذه المدافع بقذائف شديدة الانفجار وقذائف عنقودية وقذائف "كراسنوبول" التي يمكن التحكم بها عن بعد لتصيب أهدافها بدقة، كما تشير مؤسسة "روستيخ" للتسلح إلى أن روسيا تعمل على تطوير مدافع "Msta-S" باستمرار، مستفيدة من الخبرات التي اكتسبتها في استخدام هذه المدافع في المعارك، كما تسعى إلى زيادة قدراتها النارية وتحسين خصائصها.
وفي هذا الشأن نشير إلى أن روسيا تعتمد بنشاط على المكونات ذات الاستخدام المزدوج مما يؤدي إلى استخدام أنواع أرخص من المكونات والأسلحة، وذلك إضافة إلى ما قاله مستشار الأبحاث والدراسات الروسية في "مركز التحليلات البحرية الأميركية" صموئيل بنديت حول استخدام روسيا مخزونات أسلحة الحرب الباردة التي استطاعت مؤسسات المجمع الصناعي الروسي تحديثها بما يتفق مع متطلبات الموقف على الجبهة، ولعل ما أجراه الرئيس بوتين من تغييرات في قيادات وزارة الدفاع يمكن أن يضيف كثيراً إلى تطوير قدرات الجيش الروسي اعتماداً على توجهات الوزير الجديد أندريه بيلوأوسوف، وما أفصح عنه من ضرورة الاعتماد على "تكنولوجيا الابتكارات" إلى جانب ما يسمي بالتحول في "نهج الإنتاج الدفاعي"، وهو ما خلص إليه خبراء كثيرون في استنتاجاتهم حول أهمية الاعتماد على المكونات ذات الاستخدام المزدوج، والاعتماد على أنواع أرخص من المكونات والأسلحة.