Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

أسفل مانهاتن... الحياة بحد ذاتها

إيرلينغ كايغ يوظف معارفه الواسعة في سبر أغوار عالم نيويورك السفلي و"غارديان" تعده ضمن أفضل 10 كتّاب حول العالم

عازف على الساكسفون في نفق مترو الأنفاق بمدينة نيويورك أثناء تفشي فيروس كورونا، 13 أبريل 2020 (أ ف ب)

ملخص

يصف إيرلينغ كايغ ما يراه في هذا العالم بوصفه "الجمال السلبي" الذي يتكون من غياب اللون والضوء والنظام الطبيعي، وخلال الرحلة تحت الأرض يصادف مع رفاقه المغامرين أشخاصاً يعيشون حيواتهم كلها في الأسفل منقطعين عن عالمنا، مكتفين بكل ما يجدونه في طريقهم، وراضين عن حياتهم بعيداً من صخب الحياة فوق الأرض، ومدركين ما يحيط بهم من أخطار. 

في كتابه "أسفل مانهاتن: الحياة السرية لمدينة نيويورك"، يتكئ المستكشف والكاتب النرويجي إيرلينغ كايغ (1963) على معارف واسعة حصل عليها من شغفه بالقراءة، ومن مغامراته في جبال الهيمالايا والقطبين الشمالي والجنوبي.

ويتضمن الكتاب الذي صدرت ترجمته إلى العربية أخيراً عن "دار العربي" في القاهرة بتوقيع هايدي إبراهيم، مغامرة لا تقل أخطارها عن أخطار تسلق قمة "إيفرست"، واستكشاف جغرافية القطبين الشمالي والجنوبي سيراً على الأقدام، وتتمثل في سبر أغوار ما تموج به شبكة المجاري في نيويورك من برونكس إلى مانهاتن وصولاً إلى مصبها عند المحيط الأطلسي، من حياة سرية لأميركيين اختاروا طواعية العيش تحت الأرض، غير مبالين بالروائح النتنة، واحتمال أن يدهس أياً منهم قطار ينطلق بسرعة فائقة داخل أنفاق المترو.

ويعتبر هذا الكتاب من أشهر كتب كايغ وأكثرها مبيعاً، علماً أن هذا المغامر - المثقف بدأ حياته العملية في المحاماة، وارتبط شغفه بالمغامرات والأدب بدرس الفلسفة قبل أن يؤسس دار نشر في أوسلو هي دار "كاج فورلاج".

 

 

المغامرة التي خاضها أسفل مانهاتن بدأت عملياً في الـ 17 من ديسمبر (كانون الأول) 2010، وسبقها تحضير استغرق بضعة أشهر وشاركه في مراحلها كافة المصور والمؤرخ ستيف دانكن، كما شارك آخرون في بعض محطاتها.   

ومن خلال التأملات الفلسفية ينفتح أمامه عالم كامل لم يستكشف من قبل، ويصف إيرلينغ كايغ ما يراه في هذا العالم بوصفه "الجمال السلبي" الذي يتكون من غياب اللون والضوء والنظام الطبيعي، وخلال الرحلة تحت الأرض يصادف مع رفاقه المغامرين أشخاصاً يعيشون حيواتهم كلها في الأسفل منقطعين عن عالمنا، مكتفين بكل ما يجدونه في طريقهم وراضين عن حياتهم بعيداً من صخب الحياة فوق الأرض، ومدركين لما يحيط بهم من أخطار.

الأعلى مقابل الأسفل

يبدو الكاتب ملماً بأحوال نيويورك، ومن ذلك أن سكانها "يتقبلون معنى الاختلاف عن الآخرين أكثر من أي أحد في مكان آخر" (ص: 56)، كما لاحظ أنه خلال الـ 200 عام الأخيرة كانت مانهاتن "شيئاً ساحراً يشبه المعمل الذي يختبر فيه الناس العمارة والفن وأساليب الحياة البديلة"، أما مصادر القوة في نيويورك فتأتي من الخدمات المالية والإعلانات والموضة.

"إن الإعلانات التي ألاحظها وأنا أمر بالمدينة تقدم غالباً خدمات تشبع الملذات العابرة، وتوضح أن المسوقين يؤمنون بأن جميعنا لدينا تلك الأحلام، سيارات أفضل وأجسام أنحف وعطلات استثنائية ومال أكثر وبيوت أوسع وشهرة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويرى في السياق ذاته أنه إذا جاء داروين إلى مانهاتن في عصرنا كان سيكتب "مجتمعات صغيرة تطورت بمرور الوقت لتكون مستقلة عن العالم الخارجي"، وهو ما ينطبق برأيه على ما فوق الأرض كما ينطبق على ما في أسفلها، "مع أن ما يحدث فوق الأرض يحدث عكسه تحتها تقريباً، وبطريقة ما تروي الأنقاض والهياكل التي لاتزال في الخدمة تحت الأرض أيضاً قصة تاريخ نيويورك، وتشهد جميع الأنابيب والأنفاق والممرات السرية على جميع الأشياء التي حدثت في المدينة منذ بداية نشأتها، وسرعان ما يُنسى تاريخ هذا الجزء السفلي من المدينة مع استمرار التغييرات".

لا تبدو "سنترال بارك" وبعض المناطق الغنية الأخرى، في نظر المستكشف النرويجي، معزولة عن أميركا الشمالية وحسب، بل أيضاً عن المدينة نفسها، "ونتيجة لذلك فكرتُ وأنا أمشي بين الحشود أن هناك متلازمة 'جالاباجوس' صغيرة تحدث الآن، ليس بالمعنى الجيولوجي ولكن بالمعنى الثقافي"، وهنا يستشهد بقول الفيلسوف الأسكتلندي ورائد الاقتصاد السياسي آدم سميث أنه "بمجرد أن يملأ الأثرياء بطونهم بالطعام ويلبون حاجاتهم الأساس سيبدأون في تضييع ثروتهم".

مسار متعرج

ولا يُخفي كايغ اندهاشه من التناقض بين التفاني في العمل بمدينة نيويورك عبر التاريخ والسلع التافهة التي تنتجها، ويكشف أن ولعه بالسير على الأقدام ارتبط بنصيحة أسداها له ذات يوم طبيب القلب المصري - البريطاني مجدي يعقوب "إنني متحمس للسير عبر نيويورك تحت الأرض وفوقها، أكثر من حماستي لقيادة سيارة في شوارعها وطرقها، وأحب المشي في الأماكن التي لا أعرفها جيداً، يبدو الأمر وكأنني أترك جزءاً من نفسي في المنزل" (ص: 68).

ويؤكد أن هدف الرحلة لم يكن المشي عبر المدينة بأكبر قدر ممكن من الكفاءة، "ولكن تجربة السير في قنوات الصرف الصحي ومراكز التدفئة أكثر، بعبارة أخرى أن نسير خلال مترو الأنفاق والقطارات وأنفاق المياه أيضاً. أحببتُ شعور ألا يكون لدينا مسار ثابت نتبعه ما دمنا كنا نتحرك ناحية البحر، فتكون الرحلات أكثر إثارة عندما يكون لديك وجهة جغرافية".

 

 

يكثر كايغ من الاستشهاد خلال سرده تفاصيل مغامرة استكشاف نيويورك من أسفل بعبارات من "الكوميديا الإلهية" لدانتي، ومقولات وتعاليم لأرسطو وأفلاطون وبوذا وكونفشيوس وإبيقور، وكثير من الأدباء مثل توماس مان ونوم وولف، والمغنيين مثل بوب ديلان، منطلقاً دائماً من الإيمان بأن "المثير في الأمر هو الرحلة وليس مكاسبها".

كما يتطرق في كثير من الأحيان إلى مغامراته السابقة ثم يعود مجدداً لمغامرته في نيويورك التي نعرفها وتلك الكامنة تحت الأنفاق.

يقول، "كانت الرحلة عبر نيويورك تدور حول تحطيم الأنماط الروتينية"، ليؤكد في النهاية قناعته بالفلسفة القائلة إن أي شخص يمكنه تحقيق السعادة حتى لو اختار أن يعيش في أنفاق المجاري ومترو الأنفاق.

ويكشف المؤلف أنه والخمسة الآخرين الذين شاركوه محطات الرحلة، كان عليهم خرق كثير من القواعد والقوانين، عملاً بمقولة ريتشارد فورد "عليك أن تفعل الأشياء الخاطئة في بعض الأوقات لتشعر بأنك حي".

أبرز من التقاهم كايغ ورفاقه أسفل مانهاتن كانت امرأة في الـ 50 من عمرها تدعى بروكلين، وقد مرّ على اختيارها هذا النمط الغريب من الحياة نحو 28 سنة، وكانت تلتقط ما تحتاجه من مكبات النفايات ثم تأوي إلى وكر شيدته وسط شبكة المجاري وأنفاق المترو، "في قلب مجتمع منظم إلى حد ما، يقع عند نفق الجانب الغربي الذي يسمى أيضاً نفق الحرية".

يقول، "كانت عيناها تفيضان بالسعادة، إنها لا تريد العيش في أي مكان آخر، وتكون في ذروة سعادتها عندما تلعب مع قططها وتطعمها، وعندما تغني".

وهنا يستشهد بفقرة وردت في مقالة للكاتب الفرنسي من عصر النهضة ميشيل فونتين "يجب أن تكون الحياة هدفاً في حد ذاتها"، قبل أن يقول لرفيقه ستيف دانكن في نهاية الرحلة/ المغامرة "لا تتقبل الأمور كما هي، اكسر قواعدك الخاصة وامتلك شغفاً، اقرأ واستكشف، وتقبّل أن معنى الحياة يكمن في الحياة نفسها، وأن العالم هو كما تراه أنت" (ص: 220).     

المزيد من ثقافة