ملخص
خلفت التوترات الناجمة عن حكم المجالس الحاكمة فراغات أمنية بفعل ضعف التنسيق بين دول المنطقة الذين لجأوا إلى غلق الحدود والخروج من تحالفات عسكرية، وتجميد مهمة قوات مشتركة مدعومة غربياً، في مقابل بروز تكتلات جديدة أخفقت بدورها في قلب المعادلة الأمنية.
على عكس الشعارات الشعبوية التي رفعها قادة عسكريون استولوا على السلطة بقوة السلاح في بلدان الساحل وغرب أفريقيا، لم تُسفر سنوات حكمهم عن دحر المتطرفين وتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للسكان، بل دخلت المنطقة في دوامة من العنف، في حين لا تزال التكتلات وليدة النشأة تحت امتحان الصمود، وتُثار هواجس من تحويل قضية استبدال الحلفاء الغربيين بآخرين من روسيا والصين، رؤساء المجالس العسكرية إلى مجرد بيادق بدلاً من جهات فاعلة.
وتاريخياً شهدت القارة الأفريقية انقلابات عسكرية أكثر من أي قارة أخرى في العالم، ومن بين 17 انقلاباً منذ عام 2017، وقع 16 منها في القارة السمراء مقابل انقلاب واحد في ميانمار في 2021، وتتركز معظم المحاولات في منطقة غرب أفريقيا الغنية بالثروات والمعادن والتي يهيمن على خطابات قادتها الجدد العداء للغرب، لا سيما فرنسا.
وفاقمت الاضطرابات في هذه المنطقة الهشة من الظروف الاجتماعية والاقتصادية مع تغيّر المناخ، في أعقاب الانقلابات في مالي 2020 و2021، وبوركينا فاسو (انقلابان في 2022)، والنيجر في 2023.
تغيير الأنظمة
ولا تزال هذه البلدان معرضة لمحاولات أخرى لتغيير النظام بالقوة، مثلما وقع في بوركينا فاسو حين تحدث الرئيس الانتقالي النقيب إبراهيم تراوري في الثامن من أغسطس (آب) الجاري عن إحباط محاولة انقلاب لزعزعة الاستقرار في البلاد، زاعماً أن "ضباطاً وجنوداً متواطئين مع الإرهابيين، كانوا يخططون للاستيلاء على السلطة".
وأفادت وسائل إعلام محلية بـ"صدور أوامر للعديد من الضباط الذين غادروا البلد للتدريب أو كانوا في مهمة خارج بوركينا فاسو بالعودة إلى البلاد"، وقد تم "إلقاء القبض على العديد منهم فور نزولهم من الطائرة بمطار واغادوغو الدولي".
وليست المرة الأولى التي يعلن فيها تراوري إحباط محاولات انقلابية، وهو الذي أطاح رفقة عسكريين آخرين بالعقيد بول هنري سانداوغو داميبا.
وفي النيجر، خرج الرئيس السابق محمد إيسوفو عن صمته للمرة الأولى يوم الثلاثاء، كاشفاً عن إحباطه أربع محاولات انقلاب على الأقل خلال ولايتيه، بين عامي 2011 و2021، وذلك رداً على استفسار لجنة جائزة مو إبراهيم، من دون إعطاء تفاصيل عن المحرضين على هذه المحاولات المختلفة.
أما في مالي، فقد تفجرت توترات بين المجلس العسكري ورئيس الوزراء شوغويل مايغا ومعاونيه المدنيين من معارضي إبقاء الضباط في السلطة لسنوات أخرى وترقيتهم إلى جنرالات.
وكانت آخر المحاولات الانقلابية في الكونغو الديمقراطية خلال مايو (أيار) الماضي حين أعلن الجيش إحباطها والسيطرة على الوضع، قبل الكشف عن تورط ثلاثة أميركيين في المحاولة، وفق السلطات.
فراغات أمنية
وخلفت التوترات الناجمة عن حكم المجالس الحاكمة فراغات أمنية بفعل ضعف التنسيق بين دول المنطقة الذين لجأوا إلى غلق الحدود والخروج من تحالفات عسكرية، وتجميد مهمة قوات مشتركة مدعومة غربياً، في مقابل بروز تكتلات جديدة أخفقت بدورها في قلب المعادلة الأمنية.
والبداية من انهيار عملية "برخان" الفرنسية وتفكيكها عقب توتر العلاقات بين فرنسا من جهة، ومالي وبوركينا فاسو والنيجر من جهة أخرى، تبعها انهيار تحالف دول الساحل الخمس الذي يضم إلى جانب هذه الدول الثلاث تشاد وموريتانيا.
واستبدل هذا التحالف الخماسي بتأسيس كونفيدرالية الساحل الثلاثية في السابع من يوليو (تموز) الماضي، وذلك في أعقاب انسحاب هذه الدول من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس".
وبذلك عززوا ميثاق دفاع تحالف دول الساحل الذي وقعوه العام الماضي والذي يلزم، من بين أمور أخرى، الدول الثلاث بمساعدة بعضها البعض إذا تعرض أي منها للهجوم.
وبعد طردهم القوات الفرنسية والأوروبية والأميركية طلبوا الدعم من العديد من البلدان مثل تركيا وإيران والصين والآن أصبح شريك التحالف الأمني الرئيسي هو روسيا، وكان هذا التغيير في الشراكة مفاجأة كبيرة بالنسبة لباريس وواشنطن حيث تم تدريب بعض الحكام العسكريين على أيديهما واعتادوا على التعاون معهما.
كما أن المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا تمتلك القوة العسكرية المشتركة لأعضائها لمحاربة الإرهابيين في منطقة الساحل، ولكن الآن ستقوم الدول الثلاث بذلك بمفردها، وهو ما يعيد رسم معالم المشهد الجيوسياسي ويرفع من حجم التحذيرات من أخطار تدهور الوضع الأمني أكثر.
وبناء على بيانات حديثة لمركز "أفريقيا للدراسات الاستراتيجية" بواشنطن نشرت أول من أمس الثلاثاء، فقد ارتفعت أعداد الوفيات المرتبطة بعنف الإرهاب في أفريقيا بنحو 60 في المئة منذ 2021، في حين أن الوفيات التي بلغت 11200 حالة في منطقة الساحل بحلول 2024 وهو رقم يزيد ثلاث مرات عن 2021، وتمثل الآن أكثر من نصف إجمالي الوفيات المبلغ عنها في جميع أنحاء القارة.
وقبل عقد من الزمن، كان حوض بحيرة تشاد بمثابة بؤرة للتهديد المتطرف العنيف، حيث شهد 13670 حالة وفاة سنوية و67 في المئة من الوفيات المبلغ عنها في جميع أنحاء القارة، وحالياً تتحمل بوركينا فاسو غالبية الأحداث العنيفة (48 في المئة) والوفيات (62 في المئة) المرتبطة بالجماعات الإرهابية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتشير التقديرات الآن إلى أن 60 في المئة من أراضي بوركينا فاسو خارج سيطرة الجيش، وفي مالي، تصل النسبة إلى 50 في المئة، مع خروج أجزاء من وسط وجنوب مالي عن سيطرة الدولة في السنوات الأخيرة، ونتيجة لعدم الاستقرار المتزايد، يرتفع أيضاً عدد النازحين قسراً، بما في ذلك ما يقدر بنحو ثلاثة ملايين من بوركينا فاسو.
وفي السياق، قال وكيل الأمين العام للأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب فلاديمير فورونكوف لمجلس الأمن إن تنظيم "داعش" والجماعات التابعة له يكتسبون القوة في غرب أفريقيا ومنطقة الساحل.
سيطرة فعالة
وحذر فورونكوف من أن تنظيم "داعش" قد يفرض "سيطرة فعالة" على "أراض شاسعة تمتد من مالي إلى شمال نيجيريا" إذا استمرت الاتجاهات الحالية، كما يهدد وحلفاؤه أجزاء من موزمبيق والصومال وجمهورية الكونغو الديمقراطية.
أما مديرة لجنة مكافحة الإرهاب التابعة للأمم المتحدة ناتاليا جيرمان قالت أمام مجلس الأمن إن "القارة الأفريقية تمثل الآن ما يقرب من نصف الأعمال الإرهابية في جميع أنحاء العالم، حيث تمثل منطقة الساحل الوسطى نحو 25 في المئة من هذه الهجمات".
وأكد عضو المكتب السياسي الوطني لحزب "التجديد الديمقراطي والجمهوري" بالنيجر عمر الأنصاري في تصريح لـ"اندبندنت عربية"، أن "إضعاف الانقلابات العسكرية في منطقة الساحل الأفريقي التعاون الإقليمي في الحرب ضد الجماعات المتطرفة بسبب انهيار الأنظمة، ما أدى كذلك إلى تغيير في مبدأ الولاء والتحالف".
وقال الأنصاري إن الأنظمة الانقلابية خرجت من التحالفات الغربية "باريس وواشنطن" إلى التحالفات الشرقية "موسكو وطهران وأنقرة"، فانسحبت تلك الدول الثلاث "مالي والنيجر وبوركينا فاسو" من المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا "إيكواس"، مما أدى إلى تفكك التكتل الأكثر تماسكاً وقوة في الاتحاد الأفريقي.
تجاذب وتشرذم
وأضاف السياسي النيجري، أن هذا التجاذب والتشرذم كانا سببين في توسيع دائرة سيطرة المتطرفين وضعف الأنظمة على مقاومتهم، وبالأخص الأنظمة الانقلابية التي أشغلت الجيوش بشؤون الحكم بدل تعزيز دورهم في حماية الشعوب عبر ثكناتهم ودورياتهم.
ويستدرك عمر الأنصاري أن ذلك "لا يعني أنه يشيد بنجاح التكتلات المدعومة غربياً فقد مكثت القوات الأجنبية الأميركية والفرنسية عقداً من الزمن بالساحل، وكانت مجهزة بأحدث الأجهزة والتقنيات، ولكن لم تأت بالنتائج المرجوة، ما جعل الأنظمة الانقلابية تتهم الغرب بالتآمر مع المجموعات المتطرفة بالساحل".
ومن وجهة نظر الأنصاري، فإنه يتعين مكافحة الإرهاب بقوات محلية فقط، وإن كان لا بد من دعمها فيتم دعمها لوجستياً سواء من الشرق أو من الغرب، لأن وجود القوات الأجنبية تزيد من حدة التطرف أيديولوجياً بسبب إيجادها حجة أنهم يقاتلون غزاة محتلين للبلد.
بدوره، يؤكد الخبير الاستراتيجي عادل عبد الكافي أن إحداث الاضطرابات في منطقة دول الساحل الأفريقي، فراغات أمنية وجلب أعداء جدداً بما فيها من المكونات الاجتماعية والقبلية في هذه البلدان، حيث تسبب مواجهتها من طرف الحكام الجدد، في توفير بيئة حاضنة للتنظيمات المتطرفة.
وقال عبد الكافي إن التنظيمات استغلت المساحات الجغرافية والممرات في المنطقة، بعدما خسرت مراكزها بالشرق الأوسط لتجنيد المزيد من العناصر وتقوية شوكتها مستغلة الأوضاع الاجتماعية الهشة.