ملخص
لبنان بلا كهرباء أشبه ما يكون بواحة من الظلام، ووصلت البلاد خلال شهر أغسطس الجاري إلى العتمة الشاملة، ويعيش قطاع الطاقة في دوامة الفشل منذ عقود.
فهل من حلول؟
مشهد الظلام لم يعد غريباً على لبنان بفعل الانقطاع المستمر للتيار الكهربائي. وبلغ المواطن اللبناني حداً من اليأس، إذ إن مطلب الكهرباء 24 ساعة يومياً لم يعد غاية في حد ذاتها، إذ تكفيه ساعات قليلة في اليوم من أجل تأمين الحد الأدنى من المتطلبات الضرورية.
لكن ما فجر هذه الأزمة في الأيام الماضية البيان الذي خرجت به مؤسسة كهرباء لبنان معلنة خروج آخر مجموعة إنتاجية متبقية على الشبكة الكهربائية عن الخدمة بشكل كامل وبالتالي توقف التغذية بالتيار الكهربائي كلياً على جميع الأراضي اللبنانية.
الكهرباء إلى التحقيق
حازت الأزمة الراهنة على اهتمام إعلامي محلي وإقليمي، ثم قام رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي بتوجيه كتاب رسمي للنيابة العامة التمييزية لإجراء التحقيقات اللازمة وملاحقة المسؤولين عن الأزمة. وحضر إلى قصر العدل ببيروت في الـ21 من أغسطس (آب) الجاري وزير الطاقة في حكومة تصريف الأعمال وليد فياض والمدير العام لمؤسسة كهرباء لبنان كمال حايك من أجل الاستماع إلى أقوالهم أمام مدعي عام التمييز جمال الحجار حول وصول البلاد إلى مرحلة العتمة التامة.
ولم تمر خطوة ميقاتي مرور الكرام، إذ عبر الوزير فياض عن امتعاضه من الإجراء الذي اتخذه رئيس الحكومة، قائلاً "لم أكن أنتظر هذا الظلم"، مشيراً إلى أن سبب العتمة الشاملة عدم تنويع مصادر الطاقة، و"الحصار الخارجي المفروض علينا"، وهو ما يتجلى في توقف الغاز المصري والكهرباء من الأردن جراء "قانون قيصر"، بحسب فياض. ووعد فياض بعودة التيار الكهربائي خلال الأسبوع المقبل نتيجة وصول شحنة "سبوت كارغو" لتأمين نحو ست ساعات كهرباء في بيروت، وأربع ساعات في مناطق أخرى، بانتظار وصول الفيول العراقي خلال سبتمبر (أيلول) المقبل.
وفي سياق متصل برزت المبادرة الجزائرية، إذ أعلن الرئيس الجزائري عبدالرحمن تبون عن منح لبنان كميات من الفيول أويل (قرابة 30 ألف طن) على سبيل الهبة.
لكن وحتى اليوم، لم تؤدي الاقتراحات والخطوات المتخذة، على تنوعها، إلى حل مشكلة الكهرباء، ولم تتمكن مؤسسة كهرباء لبنان من توفير الطاقة رغم دولرة فاتورة الكهرباء ورفع الأسعار، وبقيت الطاقة الكهربائية تأتي إلى منازل اللبنانيين لأربع أو ست ساعات كحد أقصى.
معاناة أصحاب المصالح
صحيح أن انقطاع الكهرباء في لبنان يشمل كل المدن والمناطق، لكن تداعيات الأزمة أرخت بثقلها على الفقراء ومحدودي الدخل، فهؤلاء يعتمدون بصورة كبيرة على كهرباء "الدولة" كما يطلق عليها في لبنان، للقيام ببعض الأشغال، وبعضهم لا خيار ثاني له، كالاشتراك في المولد الكهربائي الخاص أو تركيب إمدادات الطاقة الشمسية.
في جولة ميدانية داخل أحياء طرابلس شمال لبنان، التي تعرف بـ "أم الفقير"، رصدت "اندبندنت عربية" تأثير انقطاع الكهرباء على المواطن العادي.
تدّخر السيدة هناء الأموال من أجل دفع فاتورة المولد الكهربائي، التي باتت كما تصفها "خيالية". وفي شارع آخر، يقول أحد أصحاب الدكاكين "توقفت منذ العام الماضي عن بيع المثلجات والعصير البارد، لأن كلفة تأمين فاتورة البراد أعلى بكثير من قدرتنا على التحمل".
المرافق العامة ليست بخير
ويتسع نطاق المعاناة ليشمل المرافق العامة، ويأسف المتخصص لدى المعهد اللبناني لدراسات السوق غسان بيضون لأن "المواطن العادي تعايش مع الحرمان من الطاقة، والبعض انتقل إلى الطاقة الشمسية. وتبقى المرافق العامة الأكثر تأثراً، ولا سيما المطار والمرفأ، إضافة إلى القطاع الصحي والاتصالات ومصالح المياه والمطاحن"، و"تكمن خطورة انقطاع التيار الكهربائي عن المرافق العامة في أن آثارها عامة وتؤدي إلى انقطاع لبنان عن العالم"، مشدداً على أن "المولدات تبقى لحالة الطوارئ لتعويض النقص عن التغذية، ولا يمكنها العمل المتواصل".
السجون ليست في أفضل حالاتها راهناً، على رغم أنها تعد من الأماكن الحساسة، وفي هذا الإطار يتحدث أهالي السجناء عن "أوضاع مأساوية يعيشها المسجونون أثناء فصل الصيف بسبب الاكتظاظ، وعدم استدامة التيار الكهربائي داخل الغرف". وباعتبار أن تأمين الحل من المؤسسات المعنية، أي شركات كهرباء لبنان ووزارة الطاقة غير متوفر حالياً، تمت إنارة بعض السجون إما عبر مولدات خاصة أو أنظمة الطاقة الشمسة، من خلال منح خارجية أو داخلية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وينسحب الأمر نفسه على قطاع الاتصالات، حيث تشكو هيئة "أوجيرو" من عدم قدرة مولداتها على العمل بصورة مستمرة، وبالتالي توقف العمل في بعض السنترالات، ما انعكس انقطاعاً لشبكة الانترنت والاتصالات في بعض المناطق.
لبنان مهدد بانقطاع مياهه
كذلك تأثر قطاع المياه في لبنان بشكل مباشر بسبب أزمة الكهرباء، وفي هذا الإطار تحدث المدير العام لمصلحة المياه في جبل لبنان وبيروت جان جبران عن تأثر المصالح إلى أقصى حد، مشيراً إلى أن أكثر من 60 في المئة من عملية توزيع المياه تعتمد على المضخات التي تعمل عن طريق الكهرباء، ونحو 30 في المئة يعتمد على الجاذبية، لذلك فإنها تعجز عن القيام بمهامها على أكمل وجه حالياً.
ويكشف عن أن بيروت الكبرى هي المنطقة الأكثر تضرراً من الأزمة الراهنة، لأنها تتزود بالمياه من محطة ضبية (الواقعة في ضواحي بيروت الشمالية)، التي تحصل على التيار الكهربائي عبر خط ساخن مباشرة من شركة كهرباء لبنان.
وعن الاستعانة بالطاقة الشمسية لتأمين استدامة عمل محطات المياه، يتحدث جبران عن تجهيز 24 محطة بهذه الأنظمة المستدامة، وعن خطة لتشمل 80 محطة إضافية جديدة، وأكد "إعداد ملف من أجل عرضه على مجلس الوزراء للموافقة، وتأمين جزء من التمويل".
انقطاع الكهرباء عن المطار والمستشفيات
نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون، نبه بدوره في حديث صحافي، إلى أنه لا تتمتع جميع المستشفيات بالطاقة الشمسية للتعويض عن انقطاع الكهرباء، لاسيما تلك الموجودة في العاصمة بيروت والتي لا تملك مساحات كبيرة.
ووصف هارون انقطاع التيار الكهربائي بالفضيحة، وقال "المستشفيات قد تكون مطفأة في حال الحرب، إذ لا يمكنها تحمل المصروف الهائل للمولدات الكهربائية، كما أن هذه المولدات لا تتحمل العمل 24 ساعة. لا يوجد أي بلد في العالم الكهرباء فيه مقطوعة 24 ساعة، فليستحِ المسؤولون".
وليس بعيداً عن هذه الأزمة، مطار رفيق الحريري الدولي، وهو المطار الوحيد في لبنان والمهدد بدوره بالعتمة الشاملة، وفي هذا الإطار علق المدير العام للطيران المدني في مطار بيروت، فادي الحسن مؤكداً أن المطار يؤمن الطاقة الكهربائية حالياً من المولدات، معرباً عن أمله أن لا تطول الأزمة.
فيما يقول خبراء إن مطار بيروت لن يتمكن من الاستمرار طويلا بالعمل على نظام المولدات.
الفيول العراقي حل موقت
وفي يوليو (تموز) 2021 وقع لبنان مع العراق اتفاقاً لاستيراد الوقود الثقيل لقاء سلع وخدمات،وفق عقود مؤجلة الدفع، من أجل تشغيل محطات الكهرباء، وتعامل الجانب العراقي بإيجابية مع الاتفاق وقام بتجديدها مرات عدة. وكان صادماً قول وزير الطاقة اللبناني وليد فياض في الـ10 من يوليو إنه "إذا لم تعالج مشكلة تمويل شحنات الفيول العراقي سريعاً، فسيدخل لبنان في عتمة شاملة"، مضيفاً "المشكلة معروفة للجميع: علينا أن ندفع ثمن الفيول، وأي رهان على أن العراق سيعفي لبنان من هذا الثمن ليس في محله".
ولم ينفذ لبنان التزاماته تجاه العراق في إطار الاتفاق الموقعة بين الطرفين، فلا لبنان حول الأموال المستحقة عليه، ولا دولة العراق حصلت على خدمات بديلة وسلع.
وقال المدير العام السابق للأمن العام اللواء عباس إبراهيم الذي لعب دور الوسيط في تصريح "لا أعتقد أن الجانب اللبناني وفى بأي من التزاماته ما يثير تساؤلات حول السبب"، معلناً أن "الحكومة العراقية الحالية ستواصل تزويد لبنان بالوقود لكن بشروط تلزم لبنان بالوفاء بالتزاماته".
المحطات الحرارية ومحدودية الإنتاج
ويعتمد إنتاج لبنان من الكهرباء بصورة أساسية على معمل دير عمار في شمال لبنان، ومعمل الزهراني في الجنوب، الحديثين نسبياً، ويحظيان بعمليات صيانة دورية. وتصل قدرتهم الإنتاجية نحو 900 ميغاواط بحدود ما بين سبع وثماني ساعات يومياً، من أصل قرابة 4000 ميغاواط يحتاج إليها لبنان. كما تؤدي الاستعانة بمعملي الجية والذوق (جبل لبنان) القديمين، إلى زيادة الإنتاج بحدود 160 ميغاواط. بالتالي، فإنه وفي أحسن الأحوال يمكن أن تؤمن المعامل مجتمعة 10 ساعات تغذية بالكهرباء يومياً، فيما يزداد التعويل على اتساع الاعتماد على الطاقة الشمسية في البلاد، والتي يقدرها المركز اللبناني للطاقة بألف ميغاواط، وهي تفتح نافذة أمل نحو تحقيق الاستدامة في مجال الطاقة.
في انتظار استدامة مصادر الطاقة
ويتضح أن مشكلة الكهرباء في لبنان مركبة ومعقدة، فهي لا تقتصر على سوء الإدارة وعدم الوفاء بالاتفاقات مع الخارج، أو تراكم العجز المالي الذي دفع مصرف لبنان للإصرار على عدم تمويل قطاع الطاقة مجدداً. ورأى المهندس غسان بيضون المتخصص في قطاع الطاقة أن هناك مشكلة بنيوية في قطاع الطاقة اللبناني لأن "كل مؤسسة يفترض بها الحفاظ على مخزون استراتيجي يعد بمثابة الخط الأحمر لعدم الانقطاع، ولكن هذا لا يحدث لدى كهرباء لبنان المسؤولة عن تأمين الطاقة لبلد بأكمله". وشدد بيضون على أهمية البحث عن "مصدر مستقر ومستدام وآمن للمحروقات لمؤسسة كهرباء لبنان"، محملاً المسؤولية لإدارة المؤسسة، ووزارة الطاقة، والحكومة.
وتساءل المهندس بيضون عن "نجاعة أخذ 5 ملايين ليتر فيول من المخزون الاستراتيجي للجيش من أجل منحه لكهرباء لبنان"، معتبراً أن "إدارة لبنان تستمر وفق معادلة العيش كل يوم بيومه"، بالتالي فإن هذه الخطوات غير ذات فائدة، لأنه لا يمكن تشغيل المؤسسات بإجراءات ظرفية، من هنا تبرز الحاجة إلى إجراءات تقود إلى تغييرات جذرية في القطاع، والتي تسير في مسارين: الأول في التحول نحو الطاقة المستدامة، وتشجيع المواطن للاستعانة بالطاقة الشمسية، والمسار الثاني يقوم بحسب رؤية المعهد اللبناني لدراسات السوق، على "تعزيز تنمية المناطق انسجاماً مع اللامركزية الإدارية الموسعة، وإعطاء البلديات الصلاحيات في مجال إنتاج الطاقة.
من هنا يرحب بيضون بتعاون البلديات مع القطاع الخاص من أجل تحقيق لا مركزية إنتاج الكهرباء عبر الطاقة الشمسية.