ملخص
استغل السودانيون انشغال السلطات بالصراع المسلح وشرعوا في القطع العشوائي لأشجار الهشاب والطلح لإنتاج الفحم النباتي الذي بات يعتمد عليه نحو 80 في المئة من السودانيين للاستخدام المنزلي في أغراض الطبخ، وبخاصة مع انعدام غاز الطهي.
فقد السودان خلال 16 شهراً من الحرب الدائرة بين الجيش وقوات "الدعم السريع" مساحات شاسعة من الغابات البكر في ظل دمار كبير لحق بالأشجار بالعاصمة الخرطوم ومدن عدة بولايات البلاد جراء ظاهرة القطع العشوائي التي تفاقمت بسبب تطاول أمد الصراع المسلح، فضلاً عن أزمة غاز الطهي بعد انعدامه في محال التوزيع وتوقف مصفاة النفط الرئيسة بمنطقة الجيلي شمال مدينة بحري عن العمل، إذ تغطي 50 في المئة من إنتاج الغاز للاستهلاك المحلي.
المعاناة طاولت السكان من دون استثناء ودفعت كثيراً من المواطنين إلى العودة للاحتطاب البدائي وأجبرتهم على قطع أشجار الغابات بأقاليم السودان المختلفة من دون تفرقة بين يابسها أو أخضرها لاستخدامها كوقود للطهي وإعداد الوجبات، علاوة على جمع الأخشاب وبيعها في الأسواق وكذلك رواج تجارة الفحم النباتي المربحة التي دفعت التجار إلى زيادة وتيرة إنتاجه بصورة شكلت خطراً على الغطاء الشجري، إلى جانب ارتفاع منسوب خطر مضاعفاتها البيئية.
قطع عشوائي
المزارع محمد أبكر من مدينة الضعين عاصمة شرق دارفور قال إن "ما جرى من عمليات دمار للأشجار هو أمر متوقع في ظل هذه الأوضاع التي تمر بها البلاد، إذ إن الهيئة القومية للغابات كانت تعتمد على الدولة ممثلة بأجهزتها الأمنية والشرطية في مراقبة مساحات شاسعة من الغابات في الإقليم، لكن اندلاع الحرب وتمددها أسهم في الكارثة التي حدثت".
وأضاف أبكر "نسمع خلال ساعات النهار أصوات دراجات هوائية ومركبات تسلك الطرق الترابية لتتسلل إلى الغابات ويمكن سماع صوت منشار الحطابين بصورة واضحة، ويتسلل آخرون خلال الفترات المسائية لقطع الأشجار مستخدمين أدوات يدوية لعدم جذب الانتباه إليهم، ثم يحضرون لاحقاً لنقلها إلى منازلهم".
وأوضح المزارع السوداني أبكر أن "المشهد ذاته يتكرر في مدن ومناطق أخرى بالإقليم وبصورة شبه يومية، وغالباً ما يقطع السكان الأشجار لاستخدامها في إنتاج الفحم وتجارته في ظل انعدام غاز الطهي، فضلاً عن جمع الحطب والأخشاب ومواد البناء وبيعها في الأسواق كمصدر رئيس للعيش نتيجة الظروف الاقتصادية الصعبة".
وتابع أبكر "استمرار الأوضاع على هذه الحال سيجرد السودان من غطائه الأخضر لأن هناك مساحات واسعة مهددة بالقطع العشوائي في ظل أزمة معيشية خانقة تدفع كثراً إلى التحطيب، بالتالي سنواجه التصحر في أكبر الولايات المنتجة للمحاصيل الزراعية وقطاع الثروة الحيوانية".
تناقص يومي
وفي أقاليم كردفان يتعرض حزام أشجار الهشاب والطلح لأخطار حقيقية جراء الزحف الصحراوي والقطع الجائر خلال فترة الحرب، مما يهدد كثيراً من الغابات.
واعتبر الاختصاصي في مجال الصمغ العربي بهاء الدين نصر أن "الحزام الشجري بات يذوب ويتناقص يومياً نتيجة تصحر مساحات كبيرة من حزام غابات الهشاب المنتجة لتلك المادة إلى جانب التعدي الجائر، إذ استغل الغالبية ظروف الصراع المسلح وشرعوا في القطع العشوائي لأشجار الهشاب والطلح لإنتاج الفحم النباتي، الذي يعتمد عليه نحو 80 في المئة من السودانيين للاستخدام المنزلي في أغراض الطبخ وبخاصة مع انعدام غاز الطهي، ويهرب على المقطورات والشاحنات إلى دول الجوار الأفريقي".
وأضاف أن "الطلح يستخدم في صورته الخام لأغراض الزينة والعلاج عند النساء السودانيات في ما يعرف بـ"الدخان، وكذلك حطب الوقود".
ونوه نصر إلى أن "المرتبة الأولى لإنتاج الصمغ العربي تحتلها ولايات كردفان الثلاث شمال وغرب وجنوب بنحو 55 في المئة، وفي المرتبة الثانية أقاليم دارفور الخمس، لكن الغابات داخل هذه المناطق ومنذ اندلاع الحرب تعرضت لمهددات عدة منها عمليات الاحتطاب العشوائي، وكذلك هناك 13 من 18 ولاية داخل السودان كانت تغطيها الغابات وتتعرض الآن لإزالة الغطاء النباتي بصورة دائمة، ونحو 40 في المئة من أشجار الهشاب والطلح المنتج الرئيس للصمغ العربي يطلق عليها "الكتلة الحية" تذهب إلى حطب الوقود".
حرائق الأشجار
إلى ذلك أتت الحرائق خلال مايو (أيار) الماضي على غابات ومزارع النخيل بمنطقة تنقاسي شمال السودان، والتهمت النيران الأشجار المثمرة وتحولت خلال ساعات معدودة مساحات ممتدة من الخضرة إلى حقول من الرماد والحطام الأسود. وخلال أبريل (نيسان) الماضي شهدت الغابات بمناطق عدة بولايات كردفان حرائق شملت أشجار الهشاب والطلح ومساحات مزروعة، وتركت أثرها في التنوع الحيوي.
وفي هذا الصدد أشار عضو جمعية النخيل السودانية السابق مزمل جادين إلى أن "الحرائق التي حدثت قبل ثلاثة أشهر ضربت أكبر المناطق الغنية بأشجار النخيل وأكثرها إنتاجاً لمعظم أنواع التمور والبلح في السودان، وقضت على الآلاف منها".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولفت جادين إلى أن "الخسائر المترتبة على الحرائق لا تقتصر على الشق المادي فحسب، بل تتعداها إلى التهديد بفقدان أصول من النخيل السوداني المعروف بجودة أصنافه وضياعها، خصوصاً سلالات التمور التي اشتهرت بها مناطق شمال البلاد، إلى جانب أصناف من أشجار نخيل "الجاو" التي تنتج العجوة وعسل البلح المميزة عالمياً، وكلها أصبحت الآن مهددة بعد تقلص أعدادها بصورة كبيرة بسبب الحرائق".
اختلال المعادلة
وصف الاختصاصي في مجال الغابات والبيئة الطيب أبوزيد حرق أشجار الغابات والعودة الكثيفة لاستخدام الفحم النباتي نتيجة لشح غاز الطهي، بـ"الظاهرة الخطرة التي ترفع نسبة اعتماد السودان على الكتلة الحيوية في الطاقة ما بين 69 أو71 في المئة إلى نحو 100 في المئة، مما يشكل انتكاسة لجهود حماية الغطاء الغابي".
وأوضح أن "اعتماد غالبية سكان الولايات التي تشهد نزاعاً مسلحاً على القطع العشوائي كمصدر رزق في إنتاج الفحم، فضلاً عن تجارة الأخشاب في مواد البناء واستخدام الحطب في طهي الطعام بصورة مستمرة، كلها مؤشرات تسهم في تفاقم آثار إزالة الغطاء الغابي بصورة يصعب تعويضها ويؤدي إلى اختلال المعادلة بين الفاقد والتعويض، بالتالي يشكل تهديداً كبيراً بتدهور قطاع الغابات".
ويعدد أبوزيد فوائد الغابات "من خلال دورها في دعم الإنتاج الزراعي والحيواني والحياة الريفية والحضرية، وكذلك دعم الأمن الغذائي والتخفيف من حدة الفقر، وفي الاستقرار البيئي وكمستودع للتنوع الإحيائي وتنقية الهواء وحبس الكربون وتنقية وتخزين المياه وصيانة التربة ودرء أخطار الأهوية والفيضانات، إضافة لخدماتها الاجتماعية في الترويح عن النفس وبهاء المنظر".
ويتابع الاختصاصي في مجال الغابات "هناك مدن لا توجد بها أية أحزمة خضراء أو أشجار قادرة على التصدي لقوة الرياح في مناطق بها آلاف الأطنان من الرمال، بالتالي بات الزحف الصحراوي مهدداً لحياة الإنسان والبيئة".
مهددات بيئية
ويعتقد الناشط في مجال البيئة زهير عبدالعزيز أن "التحطيب الجائر أسهم في تدمير المساحات الخضراء والغابات والغطاء النباتي، واختفت خلاله أنواع مهمة من الأشجار مثل الطلح والدربة والجوغان وكذلك الكليت والدروت، مما أثر في التنوع الحيوي".
وأفاد بأن "الكارثة البيئية لم تتوقف عند الحرائق وقطع الأشجار إنما شملت أيضاً اصطياد الحيوانات التي باتت أهدافاً مشروعة للصيادين ومصدراً آخر للتجارة، أدى إلى اختفاء أنواع نادرة وكذلك انقرض كثير من أنواع الحيوانات المفترسة وغير المفترسة التي كانت تسكن هذه الغابات وتحمل هوية السودان البرية".
وعدد عبدالعزيز جملة من المهددات البيئية منها "افتقاد المساحات الخضراء في مدن ومناطق عدة داخل البلاد، إذ تشهد ارتفاعاً في نسبة تلوث الهواء لأن الأشجار تخفف من آثار الاحتباس الحراري الناتج من تغير المناخ، إذ تختزن الكربون في جذوعها وتزيل ثاني أكسيد الكربون من الغلاف الجوي".
ونبه الناشط في مجال البيئة إلى أن "إزالة الغابات تؤدي إلى نقص في المياه والهواء على المدى الطويل، فضلاً عن الأضرار التي تؤثر في معدلات إنتاج الأرض بسبب تآكل التربة وفقدانها خصوبتها وتكرر ظاهرة الفيضانات وموجات الجفاف".
غابة السنط
خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2023 تأثرت غابة السنط العريقة في الخرطوم بالقصف العشوائي، وكثرت التعديات على أشجارها من قبل قوات "الدعم السريع" بالقطع والاحتطاب من دون مراعاة لأهميتها البيئية ووضعيتها الخاصة.
وتمثل غابة السنط مأوى لعدد كبير من الطيور المهاجرة والنادرة، وتسببت الحرب في هجرة أكثر من 930 طائراً تتخذ هذه المحطة معبراً لها في هجرتها ومساراتها عبر البحر الأحمر أو نهر النيل بصورة غريزية.
وتكتسب غابة السنط أهمية خاصة نظراً لنوعية الأشجار ذات الميزة البيئية العالية، وتحتل موقعاً جغرافياً مميزاً عند ملتقى النيلين الأبيض والأزرق في منطقة المقرن، وأهلها كل ذلك إلى صفة العالمية على مستوى معايير منظمة "يونيسكو".
مساحة الغابات
وبحسب وثائق الهيئة القومية للغابات يبلغ الحجم الحالي لمساحة الغابات في السودان نحو 52 مليون فدان، أي ما يعادل 10 في المئة من حجم المساحة الكلية للبلاد.
وكان حجم المساحات الغابية بالبلاد قبل انفصال دولة جنوب السودان عنه تقدر بنحو 152 مليون فدان، مما يعني أن البلاد فقدت ثلثي المساحات الغابية أي ما يشكل نسبة 66 في المئة.
وتسهم الغابات بنحو 69 في المئة من إجمال الطاقة المستهلكة في السودان، وتمد القطيع القومي (الماشية) بنحو 30 إلى 70 في المئة من احتياجاته للعلف في فصلي الخريف والصيف على التوالي، كما تستوعب 15 في المئة من العمالة في الريف وتفي بكل احتياجات البلاد تقريباً من الأخشاب الصلبة، وكذلك توفر من الأخشاب نحو 21 مليون متر مكعب تستهلك هذه الكمية في هيئة تسعة ملايين متر مكعب من حطب الحريق و8 ملايين متر مكعب من الأخشاب المحولة إلى فحم، ونحو 3 ملايين متر من الأخشاب المستديرة والمنشورة.