ملخص
اعتباراً من أبريل الماضي جرى تسفير ألفي مهندس وعامل سوري عبر إحدى الشركات في دمشق إلى ليبيا، وبالتحديد إلى موقع بناء يتبع شركة إعمار ليبية في منطقة برقة قرب مدينة بنغازي.
في أبريل (نيسان) الماضي ظهرت صفحة توظيف على مواقع التواصل الاجتماعي في سوريا، معرفة نفسها بأنها أول شركة متخصصة في نقل العمال والكوادر وتأمين فرص العمل إلى ليبيا من مهندسين وعمال بناء وتخصصات أخرى.
الشركة أوضحت أنها حاصلة على جميع التراخيص الحكومية الرسمية من وزارة الشؤون الاجتماعية والعمل السورية بالاتفاق مع السفارة الليبية لدى دمشق، بغية الاهتمام بتأمين العمال إلى البلد الواقع في شمال أفريقيا تحت بند وهدف رئيس يتعلق بإعادة إعمار مناطق متعددة بالتضامن مع شركات استثمارية وهندسية أخرى، وفق نظام عقود مصدقة رسمياً من الجهات الناظمة والمعنية.
وأكدت أن تسفير أولئك العمال السوريين سيكون على حسابها وبأجر مدفوع مسبقاً على صعيد تذاكر الطيران وتأمين السكن والتأمين الصحي وما وصفته بـ"الرواتب الممتازة".
الاستفادة من الصراع السياسي
قبل الحديث عن العمالة في ليبيا ولإيضاح موافقة السفارة الليبية لدى دمشق على تلك العقود لا بد من إيراد بعض الإيضاحات السياسية الضرورية للواقع هناك باختصار، وهو ما سيكون كفيلاً بإيضاح كيفية التكافل الحاصل بين شركاء هذا الملف. في عام 2012 أوقفت ليبيا عمل سفارتها لدى دمشق وسحبت سفيرها إثر الخلافات السياسية والصراع العسكري الممتد ما بعد مرحلة معمر القذافي وظهور تشكيلات وفصائل وقوى سياسية وعسكرية متناوئة محلياً ومدعومة خارجياً.
بعد عام 2014، ازدادت حدة الانقسام السياسي داخل ليبيا، لتسيطر حكومة الوفاق الوطني مع قواتها على طرابلس العاصمة وأجزاء أخرى محسوبة على المعسكر الغربي الذي ترفضه دمشق، وليقابلها صعود نجم قوات المشير خليفة حفتر الذي سيطر على شرق البلاد ومعظم جنوبها عسكرياً مع نفطها ومصرفها المركزي، وهو الذي يميل للمعسكر الشرقي ويتفق مع دمشق بصورة أدت لاتخاذه خطوة متقدمة تمثلت في إعادة افتتاح السفارة الليبية لدى دمشق عام 2020، وفي الأوساط السياسية تسمى حكومة حفتر بالحكومة الموازية.
حاولت الأمم المتحدة إحياء اتفاقات سابقة كاتفاق الصخيرات في المغرب 2015 بين الحكومتين لكنها فشلت، لتتضح خريطة السيطرة منذ محاولة حفتر الأخيرة دخول العاصمة طرابلس عام 2019، لكنه فشل واكتفى باقتحام مدينة سرت شرقها، وعليه وجدت كل حكومة نفسها مع القوى الإقليمية والدولية التي تدعمها من دون حلول نهائية. ومن هنا جاء تسهيل حركة آلاف السوريين إلى مناطق سيطرة حفتر لأهداف تتعلق بالعمالة والبناء والرواتب المجزية.
بناءً على ذلك تمكنت الشركة من تسفير آلاف العاملين السوريين في غضون أشهر قليلة إلى ليبيا، لكن رحلات السفر تلك حملت معها روايات وقصص تسترعي التنبه على ما وصفته مصادر تواصلت معها "اندبندنت عربية" في ليبيا من أولئك العاملين، ومع بعض من أهاليهم في أكثر من محافظة سورية، كل ذلك كان بعد أن بدأت تصل أخبار "معاناتهم" تباعاً إلى مسامع السوريين وما يلقونه من أساليب معاملة ترقى لـ"الوحشية" بحسب وصف بعضهم.
شهادة من موقع البناء
اعتباراً من أبريل الماضي جرى تسفير ألفي مهندس وعامل عبر تلك الشركة إلى ليبيا، وبالتحديد إلى موقع بناء يتبع شركة إعمار ليبية في منطقة برقة قرب مدينة بنغازي ليجدوا أنفسهم في بيئة عمل قاسية وقاهرة، بحسب تعبير أحد العاملين هناك.
ماهر وهو اسم مستعار تحدثت أسرته في ريف دمشق عن أن "الشركة ملأت مواقع التواصل الاجتماعي بالإعلانات، وبدا الأمر حقيقياً لأنهم سيدفعون أجور الطبابة والتأمين وتذاكر الطيران ويتولون الإقامة وسيمنحوننا أجوراً تعادل 600 دولار شهرياً، وهو رقم مهول في سوريا، وطالما أن كل شيء مؤمن فسأتمكن من توفير المبلغ وإرساله لأهلي ليعيشوا بكرامة، ولكن فوجئنا أن الحقيقة غير ذلك تماماً".
ويتابع "لم يحصل شيء مما اتفقنا عليه، كان يفترض أن نحظى بثلاث وجبات، ولكن كانت أقل وسيئة جداً وغير صالحة للطعام، والنوم كان في مهاجع جماعية تتسع للعشرات وتصلح لعيش الحيوانات، والطامة الكبرى أن الراتب كان نصف ما اتفقنا عليه في العقود، فتحولنا إلى أسرى في معتقل كبير".
عقد عبودية
يروي والد أحد العاملين هناك وهو من دمشق أيضاً أن ولده أخبره تفاصيل مرعبة عن الحالة التي يعيشونها على صعيد الأجور والطعام والمنامة وغير ذلك، مضيفاً "سافر ابني منذ ثلاثة أشهر وقبض راتباً واحداً، وهو أقل من المتفق عليه، ثم مضى حتى الآن أكثر من شهرين لم يقبض، وحين راجع المسؤولين عن موقع البناء من الليبيين قالوا له: المشكلة من دمشق، وحين قرر العودة طالبوه بدفع الشرط الجزائي البالغ 40 مليون ليرة سورية (أقل من 3 آلاف دولار بقليل)، ومن أين سيأتي بهم ابني وهو لم يقبض حتى الآن أكثر من 400 دولار، علماً أن عقد الاتفاق كان يقتضي بوجود ثلاثة أشهر تجريبية، إن لم يناسب الوضع العامل فيعود إلى بلده على حساب الشركة، ولكن تبين أن هذا الكلام هو وهم، وما هو إلا مقدمة لصيغة عقد عبودية".
عمالة رخيصة
روى أكثر من سوري ملتحق بتلك العمالة مباشرة أو عبر وسطاء عن الأذية النفسية والمعنوية التي لحقت بهم أكثر من مرة، وعن تكرار مطالبتهم بحقوقهم مراراً، بيد أن صوراً تسربت في مناسبتين في الأقل توضح تجمهرات للناس داخل موقع البناء، ولكن يصعب التأكد من مصدر مستقل إن كانت تظاهرات فعلاً، بخاصة أن بعض العاملين متمسكون برواية دخول وحدات شرطية وأمنية ليبية مقتحمة مكان عملهم لفض التظاهر ملحقة بهم بعض الأذية عبر الضرب بالعصي، وهو ما تنفيه الشركة تماماً.
كان يصعب للغاية التحقيق من موثوقية هذه المعلومة، وما الذي يمكن أن يفعله تظاهر ألفي عامل سوية وهو رقم ليس بقليل، وهنا تلقينا شهادة تبدو أكثر حيادية بعيداً من شروط العمل والعواطف، وتتعلق بتحركين اثنين جريا داخل المعسكر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الأول كان مشاجرة بين جزائري ومصري تطور لعراك وتدخل من الموجودين وجرى استثماره عبر السوشيال ميديا، والآخر هو تجمع فعلي لأعداد من العاملين بلباس عملهم من دون شعارات مرفوعة أو صيحات ونداءات وهتافات.
شاهين خيري عامل في ذلك المعسكر، لا يبالي بذكر اسمه مطلقاً تحدياً، لا يعتقد أن نهايته ستكون الموت قياساً بما وصفه بالامتهان الذي يمر عليهم، مؤكداً أنهم تظاهروا لجملة أسباب، منها ما اعتقدوا أنه احتيال منظم وقعوا ضحيته، وللمطالبة بتحسين شروط معيشتهم ورواتبهم وتركهم لحريتهم على اعتبار أن العمل لم يناسبهم.
ويتابع "الأمر ليس احتكاراً للاعب كرة قدم، نحن وقعنا على شرط جزائي على أساس حياة تحمل عملاً في النهار ورفاهية في الليل، وليس على أساس العمالة الرخيصة المستبد بها من قبل أطراف لم نعد نعرف من نخاطب فيهم لننتهي من هذه المأساة".
أفندي وطبيب
"أفندي" برتبة عالية في شرطة بنغازي تحدث لنا عبر طبيب سوري يعمل في أحد مستشفيات ليبيا منذ بضع سنوات، عن عدم معرفته بحدوث حالات اقتحام عسكري أو أمني أو شرطي للمعسكر من قبل القوات التي يديرها أو التي يتواصل معها. والأفندي هو لقب يطلق على الضابط هناك.
لكن الأفندي لم ينف أن تكون تلك الرواية حصلت من قبل وحدات شرطية أخرى استدعاها القائمون على الموقع لفض تظاهر أو مشاجرة ما وعدم تحولها إلى مشكلة أمنية وسط واقع لا يحتمل المزيد من التصعيد البشري وإثارة القلائل.
الطبيب الذي أمن الاتصال ينحدر من مدينة حلب، اسمه علاء عينا، وعند سؤاله إن كان يملك معلومات عن القضية بين عدم معرفته الدقيقة بها، لكنه أشار إلى أن السوريين يحظون بمعاملة ممتازة في ليبيا. وعلى حد تعبيره، الليبيون يحبون السوريين، ولكنه ممنوع عليهم العمل في طرابلس أو الحصول على رخصة عمل هناك، إذ يقتصر عملهم على مناطق الشرق.
الاتجار بالبشر
المحامي عابد خولي قال في تصريح خاص إن معطيات الواقعة تشير إلى مسألة تتعلق بـ"الاتجار بالبشر" وهو جرم دولي مشدد في سوريا وخارجها، ويجب أن يكون هناك تدخل مباشر من الجانب السوري أو الأممي عبر توسعة القضية لا سيما أن الحديث هنا يشتمل على آلاف العاملين.
وأكد خولي أن مكتب المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة نوه إلى الحالات التي تصنف ضمن "الاتجار بالبشر"، قائلاً "الاتجار هو تجنيد أشخاص أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم بواسطة استعمال القوة أو القسر أو الاحتيال أو أشكال الخداع الأخرى، لغرض الاستغلال".
وتابع، "هنا يجب التوقف ملياً أمام عبارة (الاحتيال)، وفي الوقت ذاته لا يجب الاكتفاء بالاستماع لطرف واحد حتى وإن كان أطرافه كثراً، فالبينة على من ادعى والتفوق القانوني في استرداد الحقوق لمن يمتلك المدفوعات القانونية المثبتة والمسندة إلى معطيات ووثائق وعقود لا تقبل الطعن في صحتها، وهذا ما يعطي كلا الطرفين الفرصة لإثبات أحقية ما يقوله".
كواليس وحق الرد
أما شركة التسفير في دمشق، وعلى رغم أنها تضع أرقاماً عدة لمختلف الأقسام، إلا أن القسم الوحيد الذي أجاب هو الموارد البشرية، وحين علمه بأن موضوع التواصل لهدف صحافي أغلق أي وسيلة للتواصل، قبل التمكن من الوصول إلى محمد أبو خزام وهو مندوب الشركة الجديد في ليبيا، والذي أجاب باقتضاب شديد عبر رقمه الليبي، "كل الكلام الذي يقال غير صحيح، وعار من الصحة"، محولاً إيانا للتواصل مع سيدة ليبية الجنسية تدعى مايا، وهي المدير التجاري والمسؤولة عن العمالة في ليبيا.
حاولت مايا الاستفاضة وإيضاح كل نقطة جدلية تتعلق بالملف ولكنها في نهاية المطاف فضلت نقل استبيان التفاصيل بدقة أكبر إلى المهندس أسامة الحسين والمسؤول عن الملف الليبي في الشركة لدى دمشق والذي بادر بالشرح من جديد حول كل ما أثير ويثار عن قضية العاملين أولئك من وجهة نظر الشركة، ومن قدرة الشركة على الاطلاع الحثيث حول مجريات كل ما يحصل في شؤون العاملين.
المهندس تناول جزئيات مهمة بشكل غير مباشر أحياناً أهمها تعلق العاملين بالهجرة أكثر من نوع وشروط الهجرة نفسها، وهو ما يعلله القبول بأي عمل متاح ومعلن عنه من قبل الشركة، مورداً مثالاً عن "نقاشين" لم تطلب الشركة وجودهم، فوافقوا على العمل بالبناء ريثما تتاح شواغر في مواضع مهنتهم.
وحول التغير في الرواتب يقول "هناك في مقدمة العقد ما يوضح أنه بعد فترة تجريبية مدتها ثلاثة أشهر يحق للطرف الليبي التصرف أمام العامل السوري مدعي الخبرة في مهنته، ثم تبين أنه لا يملك خبرات، فيحق للطرف الليبي إما تغيير المهلة الزمنية أو إنقاص الراتب أو زيادته، وهناك فئة كبيرة تريد الخروج بأي طريقة والعمل بأي عمل تجيده موقتاً ريثما ينتقلون لأعمالهم الأساسية، ونخبره مسبقاً أن الرواتب تختلف، وحين يرى أن أقرانه رواتبهم أعلى يبدأ بافتعال المشكلات، وقد خضعنا لكثير من عمليات كذب من العمال حول خبراتهم، وحينها تلقائياً يتم خفض الراتب بناءً على قرار مدير المشروع أو الموقع".
وحول التظاهرات والمشكلات، قال "هناك ألفا سوري، وجنسيات أخرى أيضاً، ووجبات الطعام جيدة وكافية، ولكن من يفتعل المشكلات ويحرض ويثير القلق هم نحو 35 شخصاً في الموقع، وهناك أشخاص وصلت بهم الأمور لضرب مدير المشروع وأعمارهم لا تتعدى 20 سنة، إضافة لمشكلات حصلت بين جنسيات أخرى وتدخلت بها القوى الأمنية طالبين من السوريين الابتعاد باستثناء أشخاص قلة تورطوا بالمشكلة".
المهندس الحسين أكد "وجود ستة آلاف شخص حالياً سجلوا أسماءهم للسفر ضمن نظام الشركة، فالناس ما زالت متشجعة للسفر، والإخوة يلحقون بعضهم، في حين هناك أناس قرروا وقف العمل فجأة على رغم وجود عقد موقع من قبلهم، فيجب عليهم الاستمرار بالعمل لسداد تكاليف السفر الباهظة والتي تولتها الشركة، فتقوم الشركة الليبية بإيقاف رواتبهم ريثما يتم تحصيل أجور السفر، وهذا سبب تأخر رواتب أعداد من العاملين".
وفي الوقت ذاته بيّن المهندس أن عاملين عدة اتخذوا من الشركة وسيلة لإيصالهم إلى ليبيا ومن هناك الهرب إلى أوروبا، لتتنبه الشركة لاحقاً وتعمد إلى تفعيل نظام كفيل السفر في دمشق، وهو أن يقوم أحد الأشخاص بكفالة المسافر لئلا تضيع حقوق الشركة وشرطها الجزائي، وفي السياق نجح فعلاً أشخاص بالهرب والهجرة نحو جهات متعددة، ومن بينهم من تاه في الصحراء، وغرض الهجرة المبيت كان سبباً آخر في إحداث المشكلات.
روايات غير متطابقة
لا تتقاطع رواية العاملين في ليبيا بأي شكل مع رواية الشركة في دمشق، لكل منهما أسبابه ودفوعاته القانونية واليومية، بيد أن الشركة تتفوق في رأيها الواحد وامتلاكها قاعدة بياناتها وتوثيقها بالفيديو لكثير من المفاصل، ولعل نقطة الالتقاء الوحيدة بينهما هي أن شركة واحدة تمكنت من تسفير ألفي عامل بأشهر قليلة، وتمتلك على جداولها أسماء ستة آلاف عامل جديد يريد الهجرة.
قد يكون هذا أدق رقم يمكن الحصول عليه في سياق النزيف البشري السوري، وهو الرقم الذي لن تدركه مراكز الإحصاء وهي تبحث في بيانات الأمم المتحدة والسفارات حول العالم، فإن فعلت شركة واحدة ذلك، فماذا تفعل عشر شركات معاً، وماذا يفعل مئات ألوف قرروا الهجرة دونما تنسيق حقيقي مسبق وفرص عمل واضحة؟
ولعل الأغرب أن كل أولئك الآلاف ذاهبون لإعمار ليبيا ومدنها فيما بيوتهم أنفسها مهدمة في بلدهم. وفي بلدهم معظم مدنها صار نصفها مساوياً للأرض، فهل تستعيد سوريا عامليها إذا ما أعيد إعمارها وفق عقود احترافية، أم تستجلب عمالة أخرى من جنسيات متنوعة وتبدأ حلقة جديدة من الاتجار بالبشر؟