Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"خزين المصريين" أسير الدولار وسليل العادات ومرآة الاقتصاد

رغم ما ألم بغالبية الأسر المصرية من تواتر الأزمات الاقتصادية فإنهم حريصون على تخزين سلع اعتادوا اختفاءها في ظروف غامضة أو اضطروا إلى ترشيدها بسبب الغلاء

ارتطامات الجنيه أمام الدولار أثرت بصورة مباشرة في خزين المصريين كماً وكيفاً (رويترز)

ملخص

في البيوت المصرية يظل اختلاف مكونات وكميات غرفة الخزين سمة من سمات الفروق بين الطبقات، إنها الفروق التي لا تؤثر فقط على محتوى الخزين، لكن تقرر استمرار الفكرة من عدمها

يسميه البسطاء "الخزين"، وينعته الأغنياء بـ"الستوك"، وتعتبره الطبقة القابعة بينهما "الاحتياط الاستراتيجي". هذه الغرفة متناهية الصغر التي كانت كبيرة في أزمنة تاريخية مضت تحولت إما إلى خزانة أو جزء من خزانة في المطبخ أو اقتصرت على جرة فيها بضعة كيلوغرامات من الرز، وربما أخرى فيها قدر من المعكرونة.

تخزين الطعام في البيوت ليس عادة مصرية، بل إجراء اتبعته أمم وشعوب على مدار التاريخ لأسباب مختلفة بل إن غالب البيوت لا سيما في القرى، بدول الغرب والشرق كانت فيها غرف، وأحياناً مبان منفصلة مخصصة لتخزين شتى أنواع الأطعمة المعمرة مثل البقوليات، إضافة إلى اللحوم والأسماك المملحة التي يمكن الاحتفاظ بها فترات طويلة.

وتتشابه ملامح التخزين في بيوت العالم من حيث الفكرة، لكن المحتوى والكمية والأنواع والجودة تتراوح بحسب الثقافات، وبناء على القدرات الاقتصادية. وفي البيوت المصرية يظل اختلاف المكونات والكميات سمة من سمات الفروق بين الطبقات. إنها الفروق التي لا تؤثر فقط في محتوى الخزين لكن تقرر استمرار الفكرة من عدمها.

الخزين فكرة لا تموت

فكرة تخزين المواد الغذائية في مصر من عمر المصريين القدماء. وعلى سبيل المثال صوامع الغلال في معبد الرمسيوم بمدينة الأقصر (جنوب مصر) لا تزال ضمن أشهر صوامع العالم القديم، وظلت تؤدي دور تخزين الحبوب 1500 عام، وذلك حتى وقت الغزو الروماني مصر. وكانت هذه الصوامع تكفي لتوفير الطعام لأهل مصر.

كتب التاريخ تشير إلى أن المصريين اعتادوا على مدار آلاف السنين تخزين الحبوب في أعوام الرخاء تحسباً لأوقات الأزمات والجفاف. كان هذا قبل زمن التعويم وتدهور الجنيه وتقليص الدعم وتفعيل بطاقة الكهرباء السابقة الدفع، ووضع بند "باص" و"يونيفورم" (زي) المدرسة والدروس الخصوصية ورسوم السنتر وتطبيق 30 في المئة زيادة على أسعار تذاكر مترو الأنفاق وتحليق أسعار السجائر والبن والشاي في فضاء الغلاء وحاجة غالب الأسر المصرية إلى "شيت إكسيل"، أو خبير من البنك الدولي في اقتصادات الصمود والتحدي أو ترك الأمور بالبركة البحتة من دون حسابات أو احتياطات لتصريف أمور الشهر وحاجاته من الغذاء، فما بالك ببند التخزين؟!

 

لكن اللافت والمثير للعجب، وعلى رغم ما ألم بالغالبية المطلقة من الأسر المصرية جراء تواتر الأزمات الاقتصادية، فإن منظومة التخزين لا تزال حية ترزق. صحيح أنها اتخذت أشكالاً مختلفة، تارة باسم الحداثة، وأخرى بسبب تغير مساحات البيوت وتقلص أكثرها، وثالثة وهي الأعم والغالب بفعل أوضاع اقتصادية وضعت الملايين في قبضة نمط استهلاك غذائي وإنفاق شهري بالغ التقشف.

الطريف أن حتى تقشف زمان يختلف تماماً عن التقشف الحديث. تقول عنايات السيد (82 سنة)، إن بيتها الذي أغلقته لتنتقل للعيش مع ابنتها بعد تقدمها في العمر يحوي غرفة خزين صغيرة، فيها عبوات رز وسكر وفاصوليا بيضاء ولوبية وفريك وعدس وفول وعسل نحل ودقيق وقمح ومعكرونة وغيرها. وعلى رغم وصول النمل إلى بعض عبوات السكر، وتمكن فأر أو اثنين من القمح، فإن الخزين لا يزال موجوداً، وأحياناً يلجأ إليه الأبناء والأحفاد في أوقات الأزمات، وأحدثها أزمة السكر في نهاية العام الماضي.

تحكي، "مررنا بأزمات تقشف كثيرة عبر الأعوام. فمثلاً أثناء حربي 1967 و1973 كانت هناك أزمات في مواد غذائية كثيرة، كان الخزين يحل جزءاً من المشكلة. وكانت بطاقة التموين طوق نجاة للجميع. كميات السلع الغذائية كانت وفيرة إلى حد كبير، وكانت غالبية الأسر تقتطع منها جزءاً مع صرف التموين كل شهر لأوقات الأزمات. وحتى وقت قريب، كانت الأسر الثرية ذات الجذور الريفية تستقبل خيرات الريف من زبد وجبن ومحصولات زراعية وغيرها، ويتم تخزين كثير منها. حتى الأسر غير الثرية في الريف فتعتبر الخزين مسألة عادية مثلها مثل النوم ليلاً والاستيقاظ صباحاً وإنجاب الأبناء".

خزين على الطريقة الحديثة

اليوم، تختلف ثقافة التخزين وظروفه كثيراً. ميار (30 سنة) وزوجها أشرف (32 سنة) مهندسان أصرا على "ستوراج روم" (غرفة خزين) في البيت. هي ليست غرفة بالمعنى المعروف، لكنها ممر صغير جرى تزويده بأرفف خشبية وإلى جواره "ديب فريزر" (براد تثليج) عميق. الأرفف عليها جرات زجاجية عامرة بالشوفان ودقيق الحمص وبذور الشيا ومسحوق الماتشا وعبوات ألبان لوز وجوز هند وصويا معمرة وقهوة سريعة الذوبان.

وهناك كذلك أكل كلاب جاف بكميات وفيرة، خوفاً من تعويم جديد وزيادة أخرى في أسعارها. أما "الديب فريزر" فيحوي أنواع "غرانولا" مختلفة "تحسباً لجائحة جديدة تختفي معها هذا النوع من السلع غير الرئيسة" وفاكهة مجمدة وقدر من الخبز المصنوع ببدائل الدقيق. أما الخزين بمعناه التقليدي من شاي وسكر وزيت وأرز وفاصوليا وعدس وفول، فمكانها "بيت ماما".

 

بيت ماما، والدة ميار فيه قدر من الخزين التقليدي، لكن بكميات قليلة، مقارنة بـ10 أو 20 سنة مضت. تقول الأم التي تنتمي للفئة العليا من الطبقة المتوسطة إنها حين انتقلت من بيتها الكبير في مصر الجديدة (حي عريق راق في شرق القاهرة) إلى شقة صغيرة في القاهرة الجديدة (تجمع سكني حديث في شرق القاهرة) بعد زواج الأبناء احتفظت بـ"حق التخزين" كما تطلق عليه، وذلك بعد ما فرح الأبناء بالتخلص من غرفة التخزين التقليدية، التي لا داعي لها. صرعات الأنظمة الغذائية الحديثة من بدائل الدقيق والاستغناء على الزيت والسكر وغيرها، إضافة إلى اعتبار التخزين صفة قديمة أو تفتقد الحداثة أو تكشف عن شعور دائم بالتهديد جعلها تقصر التخزين على كميات إضافية محدودة من السكر والرز والزيت والعدس والشاي "تحسباً للأزمات، وما أكثرها"!

جهات عدة في دول مختلفة في العالم تعد قوائم وأدلة خاصة بتخزين المواد الغذائية في البيوت تحسباً للأزمات. في بعض الولايات المعرضة لأخطار الإعصارات أو حرائق الغابات في أميركا مثلاً، هناك قوائم مختلفة لتأمين حاجات الأسر من الغذاء في أوقات الأزمات لمدد تراوح ما بين أيام وأسابيع.

كلية الأسرة وعلوم المستهلك في جامعة جورجيا الأميركية لديها أدلة عدة للتخزين، تراوح ما بين طوارئ لثلاثة أيام، وأسبوعين، وأكثر. وتختلف قوائم الطعام المقترحة بحسب المدة، وكذلك بحسب نوع الأزمة، إذ يختلف خزين الفيضان عن الحريق عن الإعصار وهكذا.

قواعد التخزين

وتشير الأدلة في أميركا إلى أن فكرة التخزين في حد ذاتها تخلص الأفراد والأسر من بعض التوتر والقلق اللذين ينجمان عن الظروف الطارئة، لا سيما حال وجود أطفال في البيت. ويجري سن هذه القوائم بناء على الفئات العمرية والعناصر الغذائية التي تحتاج إليها كل فئة، والموانع الطبية، ومساحة التخزين المتاحة وغيرها من العوامل، التي غالباً لا ينظر إليها بكثير من الاعتبار، أو بالأخرى بأي اعتبار في دول أخرى، إذ حلم التخزين من الأصل لا يتحقق للجميع هذه الأيام.

حلم التخزين، كعادة وكذلك أداة لمجابهة الشعور بعدم الأمان، بدأ في التضاؤل قبل أعوام، يربطها البعض ببدء مسيرة المصريين مع التعويم، وفقدان الجنيه المصري الجانب الأكبر من قيمته أمام الدولار، وذلك بدءاً من عام 2016. في هذا العام المفصلي، قفز الدولار أو بالأحرى ارتطم الجنيه من 8.88 جنيه للدولار إلى 15.77 جنيه للدولار الواحد. وظل هذا يقفز، وذلك يرتطم حتى أصبح سعر الصرف حالياً نحو 49 جنيهاً للدولار الواحد.

هذه القفزات والارتطامات أثرت بصورة مباشرة في خزين المصريين كماً وكيفاً. تكالب الجنيه المأزوم، أو تفاقم الأوضاع الاقتصادية بصورة متواترة من عمليات إرهابية وأوضاع أمنية غير مستقرة وتأثر سلبي لقطاع السياحة الذي كان يمثل 20 في المئة من الناتج الإجمالي وحرب روسيا في أوكرانيا، وتضرر جوانب عدة في قطاعات الاستيراد والتصدير والسياحة وحركة النقل، ثم حرب غزة وأنشطة الحوثيين في البحر الأحمر، وهو ما أثر سلباً في حركة مرور السفن في قناة السويس 42 في المئة تقريباً، وتراجع إيرادات القناة من 9.4 مليار دولار في العام المالي 2022 - 2023 إلى 7.2 مليار دولار في العام المالي 2023 - 2024، وذلك ضمن عراقيل وأزمات ومصائب أخرى على خزين المصريين.

 

خزانات المطابخ تتحدث عن نفسها. المخزون الاستراتيجي في البيوت يتأرجح بين التقشف النسبي والتقشف الحاد، كل بحسب مستوى دخله، والقدرة على الإبقاء على جانب من الدخل يتيح اكتناز كيلوغرامين إضافيين من الرز تحسباً لاختفائه فجأة، أو ثلاثة كيلوغرامات من السكر، خوفاً من تقنين بيعه من دون سابق إنذار، أو عبوتي زيت، لا سيما أن له سجلاً حافلاً من ارتفاع السعر الجنوني والاختفاء القسري وغيرها من المواد الغذائية الأساسية.

إنها السلع التي لقنت المصريين دروساً عبر تاريخهم الحديث في الصبر على الاختفاء في ظروف غامضة، والترشيد في أحوال صعبة، والغلاء في أوضاع متأزمة، والانتقال من بطاقة التموين، حيث جنة الدعم إلى أرفف السوبرماركت، إذ معايير جهنم التي يحددها تاجر الجملة والتجزئة ومن بينهما.

ويضاف إلى ما سبق إجراءات تقليص وترشيد وتنقيح بطاقات التموين، سواء من حيث أعداد المستفيدين أو عدد السلع المتاحة ونسبة الدعم المقررة عليها. تنقيح البطاقات وإلغاء المتوفين وغير المستحقين، وإدخال تعديلات عدة على كميات السلع المصروفة بهدف "التأكد من كفاءة التوزيع، وعدم إهدار موارد الدولة"، جميعها أدى خلال الأعوام الماضية إلى قلة كميات السلع الغذائية التي كانت تصرف بوفرة مفرطة، وكان جانب غير قليل منها ينتهي به الحال في غرف الخزين أو خزائنه.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

صياغة جديدة

الطريف أنه بينما يظن كثر أن "خزين المصريين" أصبح "دقة قديمة" أي عادة انتهى وقتها أمام طوفان الحداثة، يعيد المصريون صياغة مفهوم الخزين هذه الأيام بحسب قواعد هذه الحداثة، وفي ضوء خبراتهم المكتسبة ومهاراتهم المولودة من رحم الأزمات.

كثر يرسخون هذه الأيام قاعدة تخزين السجائر في مخابئ آمنة في بيوتهم. أسعار السجائر الأكثر تدخيناً من قبل المصريين زادت ثلاث مرات في الستة أشهر الأولى من العام الحالي، وبقية الأنواع زادت هي الأخرى بنسب مئوية وصل بعضها أكثر من 60 في المئة في أقل من 10أعوام. فمثلاً أحد الأنواع غير الشعبية وضمن الأكثر مبيعاً زاد من 27 جنيهاً عام 2016 إلى 84 جنيهاً. هذه الزيادات تشجع مدخنين على شراء علبة إضافية أو اثنتين كلما سنحت الظروف، وتخزينها في البيت لوقت الحاجة.

أما الخزين التقليدي فلا تزال أسسه موجودة باعتباره عادة وتقليداً، وإن غابت القدرة على توفيره بالكميات نفسها التي كان متعارفاً عليه. كما أن عوامل القلق والشعور بعدم الأمان لم تتبخر في هواء الاستقرار. شبح الحروب وما ينجم عنها من أزمات غذائية يلوح في الأفق، وعافية الجنيه المعتلة لا تزال تهدد بصدمات جديدة، وظروف الإقليم المشتعلة تعني أن السلع الغذائية الاستراتيجية معرضة للتأثر بين لحظة وأخرى، وقواعد استيراد السلع التي لا غنى عنها، مثل القمح، التي تؤثر فيها حروب وصراعات دولية لا يمكن التحكم فيها، وأزمات وزارة التموين وجشع التجار وتقلبات الأسواق جميعها يدفع البيوت المصرية دفعاً نحو الإمساك بتلابيب عادة التخزين، إن لم يكن لعام أو عامين فلشهر أو شهرين.

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات