ملخص
في معرض "دوكومنتا 5" الذي نظم في كاسل في ألمانيا عام 1972 فوجئ الحضور برجل في ثوب فضفاض من الحرير الأحمر يقف على سطح المبنى الرئيس لمقر العرض. كان الرجل يردد بأعلى صوته أسماء ألمانية شائعة عبر مكبر صوت ذهبي اللون. لم يكن هذا الرجل الذي أثارت هيئته فضول الجميع وقتها سوى جيمس لي بايرز، الذي ينظر إليه حتى اليوم كواحد من أكثر الشخصيات غموضاً وتميزاً في المشهد الفني العالمي خلال النصف الثاني من القرن الـ20.
ترك بايرز (1932 - 1997) إرثاً صاخباً وغنياً من الأفكار والمشاريع الفنية، وكان أحد أكثر المساهمين في رسم الملامح الأولى للمشهد الفني المعاصر. وخلال مسيرته الفنية التي امتدت لأكثر من أربعة عقود ترك الرجل بصمة خفيفة وأنيقة ولكنها لا تمحى على الفن المعاصر. تشمل أعماله التي قدمها عديداً من العناوين التي تتسم بالغرابة مثل "القبلة المثالية" و"الملاك الأحمر لمارسيليا" و"قبر جيمس لي بايرز".
قدم بايرز عديداً من الأعمال المبتكرة التي تميزت بالضخامة والألوان الصارخة، كما عرف بعروض الأداء المثيرة للجدل. وغالباً ما كان يظهر بهيئته اللافتة في الأماكن العامة كأنه يؤدي عملاً مسرحياً مستمراً، إذ كان طويل القامة، ذا مظهر أرستقراطي. وغالباً ما كان يرى مرتدياً إحدى بدلاته المميزة المصنوعة من الحرير الأحمر أو الأصفر والمطرزة بالذهب. حتى عندما كان يعرض تركيباته الفنية كان غالباً ما يضع نفسه داخل العرض، جالساً بلا حراك كأنه جزء من المنحوتة أو التركيب.
أمضى بايرز الجانب الأكبر من حياته المهنية في أوروبا، إذ كانت شهرته أعظم من شهرته في الولايات المتحدة، واعتمدت لغته البصرية والأدائية على شريحة واسعة من الوسائط، بداية من النحت والتركيب إلى الأداء والرسومات والنصوص السردية. من أواخر الخمسينيات وطوال الستينيات، عاش الفنان بين اليابان والولايات المتحدة، وكان شغفه بالثقافة اليابانية مؤثراً بصورة ملحوظة على عمله. وعلى مدار مسيرته المهنية جمع الفنان بين المعرفة العميقة بالفن والفلسفة، إلى جانب الزخارف والرموز المستلهمة من الحضارات القديمة، مما أكسبه رؤية فريدة للواقع. ويمكن وصف ممارسته الفنية بأنها انعكاس صوفي جمالي وجودي لأفكار الكمال وتجاوز الطبيعة المادية للعناصر والكائنات.
مسيرة فريدة
من أجل تسليط الضوء على مسيرة جيمس لي بايرز يستضيف متحف رينا صوفيا في مدريد جانباً من أهم التجارب الفنية التي أبدعها الفنان خلال مسيرته الإبداعية تحت عنوان "الكمال هو السؤال". ضم المعرض أعمالاً تتميز بالضخامة صنع بعضها من مواد ثمينة كالرخام والحرير وورق الذهب والكريستال. بين هذه الأعمال المعروضة يأتي عمله الأبرز "الملاك الأحمر لمارسيليا" الذي قدمه عام 1993، وهو تركيب مكون من ألف كرة زجاجية حمراء مرتبة على الأرض في هيئة زخرفية. أما عمله "باب البراءة" فهو عبارة عن منحوتة من الرخام على هيئة حلقة ترمز إلى العبور والتحول. وفي عمله "قبر جيمس لي بايرز" الذي قدمه في منتصف الثمانينيات يقدم الفنان تكويناً رمزياً يمثل جسده في هيئة كرة كبيرة من الحجر الرملي. كما يتجلى الخيط الطوطمي بصورة واضحة في عمله "البرج الذهبي ذو القمم المتغيرة"، وهو برج ذهبي يبلغ ارتفاعه أربعة أمتار تقريباً ويلخص رؤية الفنان حول الخلود والفناء.
من خلال طمس الحدود بين الممارسات الفنية المختلفة، أكد بايرز دائماً التناقض الداخلي الذي ينطوي عليه صنع الفن. في أعماله الأدائية غالباً ما كان بايرز يظهر بملابس لامعة، فيبدو كساحر بدائي يتحدث عن معانٍ غامضة وعوالم خافية. إنه يجبرنا على التفكير في أسئلة جدية حول العمل وحضوره، كما كان يضيف إلى أعماله دائماً عنصراً خفيف الظل من الدعابة. وفي النهاية، يخبرنا أن العمل الفني هو كائن حي لا يعرف كيف يموت، لذا فقد أمره بتعلم الموت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
اتسمت تجربة بايرز بتعدد وسائطها الإبداعية وتداخلها، إذ يتحول لديه الأداء إلى نحت والكتابة إلى رسم، كما يمكن أن يتحول العمل بسهولة إلى خلفية لطقوس غامضة. يمكن أيضاً لمجموعة من الرسائل أن تتحول إلى عمل فني، كما في مجموعة المنشورات الذهبية والأوراق الحمراء التي أرسلها على فترات إلى صديقه جوزيف بويز وجمعت لاحقاً في كتاب "رسائل إلى جوزيف بويز" الذي نشر بعد رحيله.
زار بايرز مصر في ربيع عام 1997، وفي الليلة التي كان من المقرر أن يغادر فيها، تلقى موظف الفندق الذي يقيم فيه، اتصالاً من غرفته ليسمع صوتاً واهناً لرجل يحتضر. نقل بايرز على الفور إلى مستشفى الأنغلو أميركان في حي الزمالك في القاهرة، لكنه في الصباح، كان قد فارق الحياة. رحل جيمس لي بايرز على نحو يليق به وبمسيرته الفنية المدهشة، إذ كان مشهد أهرام الجيزة هو آخر ما وقعت عليه عينه قبل وفاته المفاجئة.