Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"السقوط من الأرض" رواية تركية عن قتل الاب

غايا بورالي أوغلو تعتمد أصواتا ذكورية لسرد الصراعات الأسرية

لوحة للرسام المصري فتحي عقيقي (صفحة الفنان - فيسبوك)

ملخص

صدرت ترجمة عربية  لرواية "السقوط من الأرض" للكاتبة التركية غايا بورالي أوغلو، وهي تتناول العلاقة الشائكة بين الأب والابن من خلال الرؤى الفلسفية والاجتماعية التي تقارب هذه العلاقة التي ما برحت تشغل الكتاب والروائيين والفلاسفة عبر العصور.

شغلت العلاقة بين الأب والابن كثيراً من الفلاسفة وعلماء الاجتماع مثل سيغموند فرويد في نظريته عن عقدة أوديب التي تركز على الصراع بين الابن والأب كجزء من التطور النفسي للفرد. كذلك، تناولها فريدريك نيتشه من منظور صراع الأجيال، فدعا إلى تجاوز القيم الأبوية التقليدية. وفي الفلسفة الوجودية لجان بول سارتر، تظهر النزعة إلى استقلال الابن عن الأب، بينما قدَّم جاك لاكان تفسيراً نفسياً للعلاقة من خلال مفهوم "اسم الأب" الذي يمثل النظام الاجتماعي. أما هيغل، ففسّر العلاقة من منظور تاريخي وفلسفي كنوع من الصراع والتطور المستمر، معتقداً بأن التفاعل بين الأب والابن هو جزء من حركة التاريخ، إذ يتم تجاوز القيم القديمة وإحلال قيم جديدة. وتناول إيمانويل ليفيناس هذا الموضوع في إطار فلسفته عن "الآخر"، فاعتبر الأب رمزاً للعلاقة مع الأجيال السابقة. وهذه الرؤى الفلسفية والاجتماعية حول العلاقة المتوترة بين الأب والابن تتجلى بعمق في رواية "السقوط من الأرض" للكاتبة التركية غايا بورالي أوغلو، المترجمة حديثاً إلى العربية بتوقيع راشدة رجب (دار المرايا).

تظهر قضية الصراع بين الابن والأب منذ العتبات الأولى للرواية، بالاقتباس الذي تصدر به المؤلفة عملها نقلاً من الكاتب التركي أوزغ ديدبك، "الأب أو غيابه هو الذي يدمر الطفل بالتدريج". وتتبلور هذه الفكرة بصورة أوضح بتتابع الأحداث التي تدور حول العلاقة المعقدة بين ثلاثة أجيال. تتمثل في كراهية "حلمي أيدين" لوالده المتوفي "سليم"، إذ يحمّله المسؤولية عن كل المشكلات التي يواجهها من ضياع وفقدان للهوية، إلى عدم القدرة على الاعتماد على النفس. ويسعى إلى الانتقام منه حتى بعد موته، وينتقل جين هذه الكراهية إلى الحفيد "علي سيمال أيدين" الذي يعيد الكرة لكن بكراهية مباشرة لوالده، يعبر عنها عبر كتابة رواية يفضح فيها تناقض والده وعدم إنصافه في كراهية جده العصامي الذي ضحى بكل شيء من أجل رفاهية أسرته. ويرى الحفيد أن والده يتسم بأنانية مفرطة ويحمّله مسؤولية المصاعب التي يعانيها "كانت مشكلتي الرئيسية، علامة الاستفهام الجاثمة فوق روحي، السبب شبه المؤكد في مرض ليس له اسم، المسؤول عن فجوة كبيرة في قلبي لم أستطِع ببساطة أن أملأها" (صفحة 343).  

ثلاثة أجيال

تقدم أوغلو هذا العالم المضطرب عبر لعبة سردية محكمة، تسمح بتعدد الأصوات وتتيح لكل طرف تقديم رؤيته الخاصة، بمن في ذلك الجد "سليم" عبر مخطوطة عثر عليها "حلمي" أثناء تجديد أثاث المطعم الذي ورثه عن أبيه. تضم المخطوطة أسرار وصفات الطعام الفريدة التي لطالما جذبت المشاهير من الفنانين والكتّاب. ويرصد فيها الجد علاقته المتوترة مع ابنه، كاشفاً عن الحقيقة من منظور مغاير، يفند الشهادة التي قدمها "حلمي" عنه. ويتحول فيها الابن من صورة المجني عليه الذي يعاني صدمات الطفولة بسبب قسوة الأب، إلى عاق لأبيه الذي سعى إلى تعلميه في أرقى المدارس، لكن الابن فضل ترك التعليم نكاية في الأب. ورفض كذلك أن يعمل معه في المطعم ليحفظ أسراره، بل إنه تعدى عليه أمام العمال، وعاد في المساء وسرق خزنة مال المطعم، ثم عمد لاحقاً إلى سرقة وصفات الأطعمة الموجودة في المخطوطة ونسبها إلى نفسه.

تأتي وجهة النظر الثالثة للحفيد عبر الراوي الذي يتدخل في الأحداث ويعلق عليها من دون أن يكشف عن هويته إلا في نهاية الرواية لنكتشف أنه ابن حلمي وليس راوياً حيادياً "الآن مع كل الاحترام لبطل هذه القصة، أعتقد بأن الوقت قد حان لأعترف بشخصيتي الحقيقية. أنا لست سوى علي سيمال أيدين، ابن حلمي أيدين، وحفيد سليم أيدين" (صفحة 331). ويأتي هذا الاعتراف بعيداً من جسد الرواية في صورة خطاب تمنى "علي سيمال" أن يرسله إلى والده، لكنه لم يجد الشجاعة الكافية ليفعل ذلك. يكتشف القارئ أن شخصية "علي سيمال" تأتي داخل المتن الروائي الممتد على ثلاثة أجزاء، على أنها الأخ لزوجة "حلمي" المدعوة نيهان"، لا على أنه ابن "حلمي" و"نيهان". لكن تظل العلاقة متوترة بين الصهر ونسيبه أيضاً، مما يضطر الأخ إلى إطلاق النار على صهره بسبب مضايقاته الشديدة لأخته بعد انفصالها عنه ومطاردته إياها.

قتل الأب

يكره "حلمي"، "علي سيمال" بسبب أنه يرى زوجته تحبه وتفضله عليه، وتشعر بالفخر حيال ما يقوم به وتدعم موهبته الشعرية التي أهّلته للفوز بإحدى الجوائز الأدبية المهمة عن ديوانه الأول، ويراه "حلمي" عقبة في سبيل تحسين علاقته مع زوجته. وإذا ما أعدنا رسم هذه العلاقة في ضوء الأب والابن لا الصهر وصهره، كما يظهر في نهاية الرواية، سيتضح فيها الجانب الفرويدي في علاقة الأب بالابن ورغبته في قتله، وهو ما يعبر عنه صراحةً، "بدأ الأمر برمّته كلعبة، تخيلت أني أطلق الرصاص على رأسك تحت مصباح في الشارع" (صفحة 331). وهو الحدث الذي تبدأ به الرواية أصلاً على لسان الأب، "... بينما أرقد تحت هذه الصفصافة الضخمة التي تنحني فروعها وكأنها تحميني، ثقب رصاصة في منتصف جبهتي، أنا حلمي أيدين، أنا جريح، وهذه المرة الأمر حقيقي" (صفحة 9)، مع ملاحظة أن القاتل في المتن الروائي/ اللعبة هو أخو الزوجة ولكن في الحقيقة التي تكشف عنها الرواية في النهاية هو الابن وفي الخلفية صراع مشتعل بينهما حول الأم/ الزوجة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويمتلك "علي سيمال"، بخلاف صوته كصهر لـ"حلمي"، صوتاً آخر داخل الرواية، يتمثل في "الراوي" الذي يشعر القارئ بأنه يقف بالمرصاد لأبيه، فيفنّد أقواله وأفعاله ويعيد رواية المشهد الذي حكاه الأب من زاوية أخرى، موضحاً مواطن كذبه وما أضافه وحذفه. يتكرر حضور صوت الراوي بما يشبه كسر الجدار الرابع في المسرح، حيث يوجه حديثه إلى القارئ كأن يقول "مرة أخرى لم يترك لنا بطلنا، يعني حلمي، خياراً سوى التدخل. كنت أنوي أن أترك الفصل الأخير له، ولكن الأكاذيب الفظيعة بدأت أخيراً تضايقني، نيهان بالتأكيد لم تتصل به..." (ص 322).

ويقوم صوت الراوي أيضاً بتحليل نفسي عميق لكل تصرفات "حلمي"، كما هي الحال في الفصل المسمى "فقط الذين لديهم قوة التعبير يمكنهم التعامل مع أنفسهم"، فيضع فيه سلوك "حلمي" تحت المجهر، مفسراً أسباب الهواجس التي تدور في عقله ولماذا يقوم بتصرفات غير منطقية دائماً ولماذا يُلقي باللوم على الآخرين كلما تعرض للفشل. ويعمل هذا التحليل كمرآة تعكس صراعات "حلمي" الداخلية، مما يساعد القارئ على فهم دوافعه بصورة عميقة.

ومن اللافت في هذه الرواية قدرة المؤلفة على الولوج إلى العالم النفسي للرجال وفهمه، وقدرتها على التعبير عنه بدقة، خصوصاً أن معظم السرد جاء "ذكورياً"، بينما كان صوت المرأة هامشياً. ويشير "الراوي" إلى ذلك الجانب في نهاية الرواية، قائلاً "لكن شيئاً واحداً ما زال يشعرني بعدم الراحة، إذا قرأت أمي هذا العمل في الغالب، أنها من دون شك ستلاحظ أنها في الظل بشكل كبير. ذلك صحيح، لم أعطِها مكاناً في القصة. هي محقة، لكني أتمنى أن تقرأ بين السطور وتفهم المحنة التي تشاركنا فيها، ولكن موضوع الكتاب هو أنت يا أبي، كنتَ مشكلتي الرئيسية" (ص334). وحتى حين دخلت المؤلفة إلى عالم الطعام والمطبخ النسائي، تناولته من جانب ذكوري، وابتدعت حيلة ذكية لتضفر حديثها عنه من خلال جعل الجد والأب يعملان في مطعم.

فعالم الطعام يشغل حيزاً كبيراً من أحداث الرواية، سواء من خلال طبخ "نيهان" في المنزل، أو الوصفات التي يقدمها الجد الذي يستلهم من المطبخ البيزنطي والقصور العثمانية والأطباق الأرمينية واليهودية والمزَّات اليونانية، مما يشكل بحثاً كاملاً في المطابخ الثقافية التي مرت على إسطنبول كلها، وصفات التراث الغني والمختلط للمدينة، مما يضيف عمقاً إضافياً إلى الرواية.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة