بدا طرح المفكر والأكاديمي السعودي مرزوق بن تنباك حول "وأد البنات" في الجاهلية، مثيرا للجدل لدى طيف واسع من المسلمين، علمائهم وعامتهم، بعدما نفى وجود تلك الظاهرة في كتابه الذي أحدث ضجة كبرى عام 2004 ويقول المفكر إن بحثه استغرق سبع سنوات. وأعقب الأديب المخضرم بحثه بكتاب آخر، أظهر من خلاله رحابة صدره في تناول آراء معارضيه.
الأديب والمثقف الأكاديمي مرزوق بن تنباك، الذي كرمه وزراء الثقافة في مجلس التعاون الخليجي نظير عمره الذي أفناه في خدمة اللغة العربية وآدابها، اختير أيضاً في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1987 ممثلاً لبلاده ليكرم من لدن وزراء التربية في دول المجلس الخليجي بالبحرين.
منذ أن أطلق ابن تنباك العنان لكتابه ذائع الجدل والصيت "الوأد عند العرب، بين الوهم والحقيقة" ظل حتى اليوم لا ينفك عن سيرته، وهو الذي نال مع شهرته في الأدب شهرة التوغل بجرأة في النقد، حتى ولو كان معارضوه بعضهم لبعض ظهيراً، كما كان ذلك في مطلع القرن الـ21، حين جاءت "صيحة الوأد" في الوقت العاصف الذي كان للتراث الإسلامي خاصته الذين يفكرون ويفسرون نيابة عن البشر، وحدث هذا بالفعل، إذ واجه دعوات تحريض لمساءلته ومحاكمته، لكنه ووفقاً لصاحبه في "المواطنة والفكر" إبراهيم البليهي فإن "السلطة السياسية آنذاك أبقت بعقلانيتها الموضوع عند حدود النقاش العلمي الموضوعي"، وفي وصف آخر للمناخ العام في تلك الحقبة، يقول البليهي "لقد واجه ابن تنباك بكل جرأة وشجاعة طوفاناً من الرأي العام، وما أسوأ من أن تواجه العامة"، ذلك لأن لا أحد يجرؤ على نقد مرويات الدين وتراث السلف والأسلاف القدامى.
ربما هذه واحدة من محطات كثيرة قادتني لحوار رجل البادية الذي راح يجر خطام أحلامه نحو أشهر جامعات الأرض، الجامعة الضاربة في عتاقة التاريخ "أدنبرة". وهو الذي توج مسيرته الأكاديمية بأعلى درجاتها "البروفيسور" بعد 46 عاماً قضاها أستاذاً جامعياً بكلية الآداب، في رحاب الجامعة المصنفة الأولى عربياً، جامعة الملك سعود.
واستعاد "أبو راشد"، كما يحب أن يكنى في حواره مع "اندبندنت عربية"، شيئاً من مغامراته الفكرية، كما أطلق بجرأته آراء لا تقل شأناً عما أحدثته روايته البحثية "الوأد المشهور".
نوبل وغياب العرب
عن تكريمه، "امتن وشكر" وزارة الثقافة في بلاده، ووزراء الثقافة في الخليج، وهو التكريم الذي قادني لسؤاله عن "نوبل" التي غاب عنها أدباء العرب منذ عام 1998 حين منحت للروائي المصري نجيب محفوظ، ليرد قائلاً "أنا أعتذر للعرب لأنهم لم يحصلوا عليها، ذلك لأن ثقافتها وحضارتها ومضامينها تختلف عن ثقافة العرب وحضارتهم، ولعل هذا هو سبب غيابهم عنها، وهو غياب لا يضرهم بهذا الوقت الذي يشتد فيه التباعد بين حضارة الغرب المعاصرة وحضارة الشرق العميقة". واستدرك "لدى العرب جوائز مثل جائزة نوبل، وهي تتسق مع ثقافتهم وحضارتهم، كجائزة الملك فيصل، وجوائز عربية أخرى لم يغب العرب عنها وأخذوا نصيبهم منها".
الجاهلية والعرب براء من الوأد
وفي لمحة عما وراء مؤلف الوأد الشهير، الذي تهافت الفلاسفة وعلماء الدين للحديث عنه، نقداً وتفنيداً وإعجاباً، يقول ابن تنباك "مواجهة الناس بخلاف ما ترسخ في ثقافتهم من الصعب قبوله منهم، لكنني بعد البحث والتقصي وجدت أنها قصص إسلامية صنعها الناس في الإسلام ونقلها بعضهم عن بعض، وفي الكتاب تفصيل لكل ما اعتمد المؤلفون المسلمون عليه من روايات إسلامية وليست جاهلية، فالجاهلية والعرب الجاهليون براء من عمل الوأد، ورد الكتاب على كل استشكال تثيره بعض النصوص بعد نزول القرآن"، ويختتم متحدياً "ما زلت منذ أكثر من ربع قرن أتحدى إثبات عكسه، لكنهم لم يستطيعوا".
وللمفارقة أن ابن تنباك الذي جاء برواية تكذب روايات القرون الأولى، كان قبل مؤلفه المثير من المؤمنين بقصة "الوأد ودفن البنت عند عرب الجاهلية خشية الفقر والعار"، وكان في بادئ الأمر لا يريد من بحثه سوى التحقق من مسألة واحدة، هي "لماذا لم يستخدموا وسيلة أخرى غير الدفن؟"، لكنه وبعد بحث مضن سلك طريقاً لم يسلكه أحد من قبل، حين خلص إلى نتيجة "النفي المطلق"، وأن "لا وأد في الجاهلية وإنما اللغط جاء بعد الإسلام ومن تفسيرات المسلمين"، وهذا البحث كلفه سبع سنوات من العمر، قبل إصداره في 178 صفحة من الورق المطبوع.
وخلاصة ما كتب فيه، يقول "لم أجد في الجاهلية كلها، تاريخها وأمثالها وقصصها وأشعارها، حالة واحدة تثبت الوأد"، لكنه لما نزل القرآن "حرف المسلمون معنى الموؤودة في الآية (وإذا الموؤودة سئلت، بأي ذنب قتلت) من النفس وحرمة قتلها، إلى البنت المدفونة".
وفي موقف لرحابة صدر الخريج من الجامعة التي تأسست قبل أكثر من أربعة قرون، لم يحجب المفكر السعودي آراء مخالفيه، إذ نشر كتاباً أطلق عليه "الوأد بين رأيين"، وفيه أيضاً آراء لآخرين احتفوا بفكرة نقد الموروث وتصحيح مفاهيمه القديمة، ومن بين الأسماء الواردة في الكتاب الأستاذ في الأدب حسن الهويمل، والمفكر السعودي راشد المبارك، وحامل دكتوراه الفلسفة عبدالله المطيري، والشيخ صالح اللحيدان، وآخرين.
مع الوأد ما الذي تراه أيضاً أنه من أوهام تراث المسلمين؟ رد "تلبس الجن والسحر كلها أوهام"، وكان أطلق تحديه الشهير "اسحروني إن كنتم صادقين".
"النبي محمد طبق العلمانية تماماً"
وبعد وأد سؤال "الوأد" الذي أشبعته الصحافة وتلفازها طرحاً ونقداً وجرحاً وتعليلاً، سألته برأيك هل ثمة تماه بين العلمانية والإسلام؟ ليجيب قائلاً "الرسول طبق العلمانية تماماً في المدينة، حين قال ’نحن يا أهل المدينة يد على من سوانا‘، وكان الذين يعيشون في المدينة أربع فئات، مشركون ونصارى ويهود ومسلمون".
ويواصل مفنداً "العلمانية مصطلح جديد في الحضارة المعاصرة، أما ممارسة ومعنى فالعلمانية قديمة قدم الإنسان، وإذا أردت دليلاً على ذلك فاقرأ كتب السيرة، ومنها صحيفة المدينة أو موادعة أهل المدينة، التي كتبها النبي واتفق عليها أهل المدينة، ومنهم المسلمون والمشركون واليهود، ومن شهد القرآن بكفرهم، كل هؤلاء كانوا يداً واحدة على من هو خارج جماعتهم ومدينتهم بغض النظر عن دينه وجنسه، وهو ما تطبقه العلمانية اليوم، إذ تضمن سلامة أفراد المجتمع الواحد، وحفظ دمائهم وأموالهم وحقوقهم وأمنهم والعدل بينهم، وتسمح بحرية العبادة والاعتقاد لكل أفراد المجتمع، فهل هناك دولة لا تحقق هذا لسكانها في هذا الزمن، إذاً هذه العلمانية وكل دولة وجماعة تأخذ من العلمانية ما تحتاج إليه".
وأتم "قبل 300 عام، لم يكن هناك مسمى لمواطن ينتمي لدولة ما، لكنه لما قامت الدول المدنية، وأصبح هناك مسمى لكل دولة، كفرنسا وإيطاليا مثلاً، وأصبح لكل بلد جنسية ولكل مواطن حقوق وللدول أيضاً ضد بعضها حقوق، بدأ الناس بمختلف أديانهم، كاثولويك وبروتستانت ويهوداً ونصارى ومسلمين، ينضوون تحت لواء الدولة، وهم أبناء لها بغض النظر عن أديانهم، وكان لكل شخص منهم حرية دينه ومعتقده. ومن هنا نشأ مصطلح العلمانية الذي فسره المسلمون المحدثون بما يوحي بتشويهه، حين باتوا يرددون "نعوذ بالله كيف لنا فصل الدين عن الدولة!"، وهو مفهوم مغلوط وخاطئ.
والعلمانية هي من "تحافظ على كرامة الإنسان، وعلى شعائره، وحقه في الوجود"، وفقاً للضيف الذي سألته إلى أي الفريقين تنتمي أنت؟ ليجيب "أنا مراقب وناقد ولا أعتبر نفسي ليبرالياً ولا متديناً"، ويضيف "علمانية بريطانيا اليوم لم تمنع 1500 مسجد ومركز إسلامي، ولم تمنع أيضاً أكثر من 3 ملايين مسلم يعيشون فيها".
وليست العلمانية فحسب من شوهها بعض المسلمين في تفسيراتهم، وفقاً لابن تنباك، "فحتى الليبرالية والديمقراطية أيضاً سلب منها جوهرها، وفقدت قيمتها بعد تأويلات خاطئة".
المذاهب الأربعة
وعن الجدل الشائك حول مذاهب المسلمين الأربعة التي جاءت بعد قرن من وفاة النبي محمد، يقول ضيفنا "أرى أن الله أكمل للمسلمين دينهم يوم نزل قوله تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً)، والمذاهب الإسلامية عمل واجتهاد من العلماء وتفسير لمعالجة ما يجد في حياة الناس، وشؤونهم وليست ديناً فالدين قد تم واكتمل".
وحين كتب الروائي السعودي عبده خال منشوراً قال فيه "إن أحدهم كفرني لأني لا أؤمن بالمذاهب"، رد ابن تنباك "اسأل من كفرك على أي مذهب كان أبوبكر وعمر وعثمان وعلي والمبشرون بالجنة والصحابة أجمعين، وقل له أنا على مذهبهم".
الأديب الذي ولد عام 1951 في بلاد مسروح بميقات "آبار علي" بالمدينة المنورة أكمل دراسته المتوسطة والثانوية في حياة بدائية خالية من "الضوء والكهرباء"، لكنها كانت مضيئة بنهمه الشديد نحو العلم والعلماء، إذ درس في شبابه على يد كبار رجال الدين في المسجد النبوي، ومن بينهم محمد الأمين الشنقيطي وعبدالقادر شيبة الحمد وأبوبكر الجزائري.
اخترت ميلادي زماناً ومكاناً
ولولادته قصة، إذ كان ذلك الزمن توثيقه شفهياً، مما دفع البلاد إلى اعتماد الزمان والمكان وفقاً لروايات أصحابها، ويقول كتبت عن قصة ميلادي مقالة بعنوان "عن الكذب أحدثكم فصدقوني"، وفيه "كنا أنا وأبناء جيلي نمتلك حق الاختيار متى وأين، والخيار هذا لا أظن أن أحداً من العالمين يمتلكه"، ويضيف "قلت إنني من بلاد مسروح، وبلاد مسروح واسعة تشمل وادي الفرع الذي ولدت فيه، وتشمل المدينة، وتشمل أمكنة أخرى، لكن يوم ميلادي وحدته الحكومة لاحقاً ليكون 1/7، وهو يتزامن مع وقت الموازنة العامة للدولة، وهذا دليل لرعايتها"، ويتم ضاحكاً "لا يمكنكم فعل هذا كما كنا".
العرب.. من العروبة إلى الإسلام
ومن بوابة العلمانية عبرت أنا والضيف، الذي يحتسي قهوة العرب ويعتمر عمامتهم البيضاء، نحو قوميات العرب الفارطة وشعاراتهم وانكساراتهم وما خلفتها، وهي التي يرى أنها "مرحلة اجتماعية" مضت كغيرها، ولها ما بعدها.
يقول الأديب عن "القومية العربية" إنها جاءت بعد الحرب العالمية الثانية، حين تخلصت بعض الدول من الاستعمار وبدأت في حال من الانتشاء لفكرة العروبة ومضامينها، لكن أثرها لم يستمر حين بدأت فصول الهزائم القاسية التي تلقوها، الأولى في فلسطين عام 1948 حين احتلتها إسرائيل، والثانية وهي الأشد ضراوة والأكثر أثراً في تاريخ العالم العربي والإسلامي عام 1967، وهي التي جرها زعيم مصر جمال عبدالناصر، الذي نادى حينذاك بالخلاص العربي وبشعارات العروبة الرنانة.
بعد تلك الهزائم والانكسارات وتسلط الأنظمة الشمولية والديكتاتورية، بدأ العرب يبحثون عن طوق نجاة جديد ومسار آخر غير مسار العروبة وشعاراتها كرد فعل للنكسات، وكان الخيار هو الاتجاه نحو الثوابت الدينية، ورفعوا شعار "الإسلام هو الحل"، لكنه سرعان ما تحول لفشل ذريع، إذ نتج منه تطرف غير محمود العواقب كولادة "داعش" والقاعدة.
وكانت نهاية تلك الحقبة وفق قوله "بعد مقتل أنور السادات"، ومن هنا شعر بني يعرب أن ما يسمونه الإسلام هو الحل بات يشكل خطورة على الأنظمة العربية، وبدأوا يفكرون في تحول آخر، ليتجهوا بعد ذلك إلى الدولة المدنية التي تهتم في حدودها وفي مواطنها لا في شعارات العروبة، كما كان يدعو إليها جمال عبد الناصر، ولا شعارات الإسلاميين، كما يدعو لها المنظرون المسلمون، وإنما الدولة المدنية أو الدولة القطرية.
بنك إسلامي ويد إنسانية
نتيجة لهذا التدين الطارئ سألته ما انعكاساته على المجتمعات العربية؟ ليجيب "بدأت موجة مصطلحات الإسلام تشيع منذاك، فكل شيء بدأ يذيل اسمه بـ’إسلامي‘، مثل ’كيمياء إسلامية وجغرافية إسلامية‘"، يقول المفكر، الذي ألف كتاباً سماه "بدعة الأدب الإسلامي" وكان موجهاً وناقداً لمنظمات وجامعات تبنت فكرة ما يصفها بـ"البدعة" التي تمخضت عنها "رابطة الأدب الإسلامي"، متسائلاً كيف أن "كل هذه المصطلحات الإسلامية جاءت لأمة كل تعاليمها ودينها وحياتها إسلامية؟"، ويواصل القول "حتى من كان بينه وبين الإسلام مسافات بعيدة أصبح مقرباً بمصطلحات إسلامية، مثل بنك إسلامي وهيئة إسلامية وشرعية".
وفي رده مدافعاً عن الإسلام وعن إلصاق اسمه بكل شيء، يقول "شمول الإسلام يرفض أن تخصص أجزاء الحياة فيه"، ويتم "علقت ذات مرة على أحد المغرمين بهذه المصطلحات الإسلامية وقلت له: أيهما أجمل وأبلغ وأوجز أن نقول هذا إنسان كامل ونكتفي بذلك، أم نقول هذه يد إنسانية، وهذه رجل إنسانية، وهذه عين إنسانية، وهذا وجه إنساني؟ وكان الرد مضحكاً".
التشفي بموت نزار قباني
وكان التناقض متجلياً في موقف لأحد ممن نادى بـ"أسلمة" الشعر والأدب، حين تشفى بمقالة طويلة بموت الشاعر نزار قباني، يقول ضيفنا وله تعليق طويل في كتابه السالف ذكره "علقت عليه هل التشفي بموت رجل مسلم من أخلاق المسلمين؟".
بأية حال تعيش العرب اليوم
قلت إذاً رفع العرب في أربعينيات القرن الماضي شعارات العروبة، وبعد خيبة الستينيات تحولوا إلى التدين وشعارات الإسلام، وفشلوا بظهور "داعش" وأخواتها، ماذا عن حالهم اليوم؟ وأي شعار يحملون برأيك؟ أجاب أن "العربي الذي كان يردد بفخر ’نحن العرب من المحيط إلى الخليج‘ بات اليوم منفكئاً على ذاته، ويردد ليس لي علاقة بما يحدث في السودان ولا سوريا ولا فلسطين، وهذه المرحلة هي مرحلة الدولة المدنية أو القطرية".
كنت حاجباً للنبي وقارئاً لرسائله
ما هو لافت أن من بين مراحل حياة الرجل الذي طاف العالم من بيونس آيرس إلى أوكلاند محاضراً بلسانين، أعجمي وآخر عربي فصيح، أنه عمل في المسجد النبوي ثاني أهم المقدسات لدى المسلمين، وتحديداً بمقربة من "الحجرة النبوية" التي تضم أشهر قبور الأرض منذ 1435 عاماً، وهو قبر النبي محمد. سألته عن تلك التجربة التي لا يزال يتذكرها، ليرد قائلاً "نعم كنت مكلفاً بعمل إداري يتعلق بالغرفة وبالتربة الطاهرة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام وعلى آله وصحبه، ومثل الناس الذين يضخمون أعمالهم زعمت أنني حاجب للنبي عليه وعلى آله الصلاة والسلام، أما قراءة ما يصل إليه من رسائل فحقيقة وليست زعماً، وكنت أتطوع بقراءة بعض التوسلات التي ترسل إليه، ولعل ذلك التطوع يمنحني أملاً واطمئناناً على أن تكون لي شفاعته".
الرجل المتأنق بالبياض الذي يستأذن زوجته في الحل والترحال، ترجل العام الماضي عن العمل الأكاديمي بجامعة الملك سعود، بعد رحلة طويلة امتدت لـ46 عاماً، وكانت تلك بوابته نحو جامعة إدنبره، وهي التجربة التي يصفها أنها "أهم مرحلة في حياته". وكان له إسهامات في تأسيس أنشطة طلابية هناك، وصناديق دعم للطلاب المغتربين لا يزال يحظى بثمارها طلاب اليوم.
سألته: هل تتذكر أول يوم لك في الجامعة معيداً؟ ماذا قلت لطلابك؟ "نعم، كنت وحتى آخر يوم لي أردد للطلاب، وأقول كلامي يحتمل الخطأ، صححوا لي"، وكان يهدف من هذه الرسالة ألا يحجب آراء أطراف ألسنتهم.
فوارق الأجيال
46 عاماً، ما الذي لحظته بين أول جيل عام 1976 وآخره في 2023؟ "نعم، ثمة فوارق بينهما، كان الجيل الأول أكثر حفظاً وأكثر التزاماً، أما الجيل الجديد فأكثر ثقافة وأكثر وعياً، كان الجيل الأول حين يكون طلابي 40 أو 50 طالباً كنت أحدد صفاتهم وجهاتهم ولهجاتهم، أما بالنسبة إلى الجيل الأخير فباتت اللهجة واحدة، وهذه إشارة إلى التنوع في المجتمع الذي تحول من مرحلة الإقليمية إلى مرحلة الاندماج، وهي مرحلة طبيعية".
على ماذا ندمت بعد هذا العمر؟
سألته فأجاب "كل إنسان بطبيعته لديه شعور دائم أن لديه جزءاً مفقوداً، لكنني وبكل صراحة لم أشعر يوماً أنني فقدت شيئاً، أو ندمت على شيء لم يتحقق". بادرته بسؤال آخر، للتقاعد حياة خاصة، وكل لديه فلسفته نحو هذه المرحلة، كيف يتعامل المرء معه؟ يقول وكتبه تحيط به مع أحفاده وبنيه "على المرء ألا يشعر أنه تقاعد، عليه أن يبحث عن شغف جديد"، وواصل "بالنسبة إلي لم أشعر أنني تقاعدت، بل أشعر أنني تفرغت لما أحب، كتبي والكتابة والتأليف"، وعن مؤلفه القادم يقول "مجموعة من مقالات نشرتها في صحف سعودية وعربية، وسأعيد ما يصلح منها للنشر في كتاب".
ويستضيف ناد ثقافي في العاصمة الرياض في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري الأديب المغرم بالأدب وأشعاره في لقاء ثقافي، بعنوان "المتنبي والنقاد".
ثلاث جامعات لم تقبلني
وللمفارقة أن الرجل الذي سار في ردهات جامعة "أدنبرة" التي سار بها من قبله إلكسندر غراهام بيل وتشارلز داروين ووالتر سكوت، رفضته ثلاث جامعات في بداية حياته، اثنتان سعوديتان، وواحدة دمشقية. "الجامعة الإسلامية بالمدينة، وكلية الشريعة بمكة، والثالثة جامعة دمشق بسوريا". ولأسباب دائماً ما يرويها ضاحكاً في ندواته ومؤلفاته، يقول مؤلف موسوعة الأدب ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية "الأولى رفضني أحد مشايخها لأن علامات الورع المطلوبة ليست ظاهرة علي، ودعا لي بالهداية قبل وداعي، والثانية رد مسؤولها بالقول ليس لدينا مكان شاغر عد لمدينتك، أو اذهب إلى الرياض فجامعاتها تكفي كل الناس"، أما جامعة دمشق التي كان ذهابه لها عبر واسطة ووسيط وهو "دلال للبضائع"، فبعد سؤال ضيفنا في المقابلة الشخصية عمن تعرف من أبطال العرب؟ كان رده عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد، ليقاطعه المسؤول الأكاديمي أقصد من العصر الحاضر، فأجاب ابن باز، فما كان منه إلى أن قال لوسيطه الدلال، "دعه يذهب فمناهجنا لن تنظف رأسه من غبار الوهابية"، وحينها بدأت الرحلة من الرياض نحو اسكتلندا، التي كانت فارقة في حياة البروفيسور الذي يقول إن أربعة من بين مئات من مؤلفاته وأبحاثه هي الأقرب له، وهي "الغيور والصبور، وبدعة الأدب الإسلامي، والوأد عند العرب، والفصحى ونظرية الفكر العامي".
ومن بوابة فضول الصحافيين حاولت أن أجس نبض الأديب عمن يتابع في الفن والشعر والرياضة، قال "أما كرة القدم فلا عهد لي بها، ولم أحضر طوال عمري مباراة واحدة"، ومثلها الدراما التي لا يحرص كثيراً عليها. ولذائقة المحب للتراث شعراً وأدباً، نصيب من الاهتمام بالفن، سألته أيهما تحب أن تسمع من الأغاني؟ أجاب "كثيرون، ومنهم أم كلثوم وفيروز ومحمد عبدالوهاب وطلال مداح ومحمد عبده وغيرهم"، وعن سؤاله برأيك من الأفضل طلال أم محمد عبده؟ قال "أميل لطلال لأنه ابتعد عن مسألة مجاملة كتاب القصيدة".
المال لا يدخل شيئاً إلا أفسده
وبمعرفتي باهتماماته الشعرية وكتابته سألته عن مسابقاته، وقال "المال لا يدخل شيئاً إلا أفسده". وعن كيف يرى "شعر القلطة أو المحاورة"؟ ليجيب "الشعر العامي جزء من الثقافة العربية في كل فنونه ولحونه ومستوياته، ومنها فن القلطة والمحاورة والشعر، وما يردد فيها هو جزء من التراث الشعبي، وجدير بالدراسات اللغوية واللسانية، وهناك عشرات الدراسات لهذه الفنون حتى في المجال الأكاديمي، لأنها تعتمد اللغة المنطوقة والمشافهة".
لكن واقع اليوم في "شعر القلطة" وفق ابن تنباك "خال من طبيعته الأولى بعد أن دخل إليه المال، وبات يدفع للشاعر في مقابل الساعة التي يقف فيها شاعراً، وهو كسب لا ضير فيه، ولكن حين نعود للتاريخ كان من ’العيب‘ أن يدفع للشعراء مال في مقابل المحاورة الشعرية. إذ إن المال يفقد الشعر براعته وفطرته وإحساسه، لأن الشاعر حين يدفع له، وغيره حتى المؤلفين، فهم ينطلقون من منطلق تجاري، ومن منطلق التفكير في الجماهير والكسب".
ويضيف "المال يحول ملكة الفطرة إلى ملكة مكتسبة، فمثلاً لو طلبت مدحاً في شخص ما لن يكون المدح من الشاعر كما يكون حين ينطلق من ذاته وحبه وملكته، المدح المدفوع فيه برودة، وهذا جانب يشمل فنون المشافهة والمكتوبة".
بعض الروائيين يكتب لهم
هل الحال ينطبق على الروائيين؟ أجاب "كثير من الروايات يكتبها آخرون ليسوا من يضعون أسماءهم عليها"، والسبب؟ "حب الظهور لمن يريد أن يصبح بين عشية وضحاها أديباً وشاعراً"، وظاهرة الروايات المكتوبة عمرها خمس أو ست سنوات، وفق الأديب الذي يرفض أن يقال عنه أديباً وإنما قارئ.
يواصل "ضعف الروايات وكثرتها اليوم يدل أنها تستكتب وليست لأصحابها، فمثلاً حين تقرأ رواية للروائي عبده خال وغيره ممن نعرفهم لا تشك أبداً، لكن حين تجد 200 أو 300 رواية فجأة لنساء أو لأشخاص غير مشهورين، وفيها مفردات أجنبية ليست محلية، والمفردات لبنانية أو مصرية هنا تشك في صدقية مؤلفها"، بادرته و"شات جي بي تي"؟ ضحك وقال "آووه وشات جي بي تي قد يصنع لهم أشياء جميلة أيضاً".
هل يمكن للذكاء الاصطناعي أن يحل محل الأدب؟
وعن السؤال الذي يردده نحاتو الورق المتوجسون خيفة من فقدان وظائفهم، هل يمكن أن يحل الذكاء الاصطناعي محل الأدب؟ قال "لا ربما سيكون مساعداً، مثله مثل مترجم غوغل الذي يترجم لك حرفياً ويحتاج إلى من يعقب بعده".
كنت تنتقد البيروقراطية والواسطة في الوظائف، كيف تراها اليوم؟ يجيب "منذ أن تولى الملك سلمان وولي عهده زمام الحكم بات هناك نوع من العدالة، واختفت العصبية والواسطة وبات التوظيف بحسب الكفاءة".
أخيراً أبو راشد هل تشغلك فكرة الموت؟ "لا، لا تشغلني أبداً ولا أخافه ولا أفكر فيه، لأنه آت لا محالة، أنا أؤمن برحمة الله لا بعذابه، أن ربي رحيم غفور، وليس شديد العقاب".