ملخص
"البنية التحتية المناسبة، مثل قاعات المسرح والرسم والأنشطة الموسيقية، تعد ضرورية لتعليم الفنون بطريقة فعالة، وعلى رغم ذلك فإن عديداً من المدارس المغربية تفتقر إلى هذه المرافق، مما يعوق عملية تدريس المواد، ويجعل تجربة التعلم الفني ناقصة وغير مشجعة".
لا تحضر الفنون من رسم وفنون تشكيلية وموسيقى في المنظومة التعليمية بالمغرب بصورة كافية وناجعة، أمام هيمنة المواد العلمية والأدبية في المستويات الإعدادية والثانوية والجامعية أيضاً، باستثناء مواد "يتيمة" متفرقة تهتم بهذا الجانب، علاوة على مدارس عليا قليلة العدد تقوم بتدريس الفنون الجميلة في كل من الدار البيضاء وتطوان.
ويعزو متخصصون وتربويون ضعف مكانة الفنون المختلفة داخل المنظومة التعليمية بالمغرب إلى عوامل عديدة أبرزها حرص المدرسة على الاستجابة لمتطلبات سوق الشغل، لذلك يكون التركيز أكثر على التخصصات العلمية والتقنية، وأيضاً إلى "نقص المدرسين المتخصصين في الفنون"، وهو ضعف يفضي إلى ترد في قيم التفتح والمواطنة وملكات الإبداع.
محاولة سد الفراغ
منذ الموسم الدراسي لعام 2022 انطلق تدريس مادة جديدة في مستوى الابتدائي بالمدارس المغربية، بمسمى "التربية الفنية"، بعد أن كانت المادة تسمى خلال أعوام سابقة "التربية التشكيلية".
وتعنى هذه المادة بتدريس ثلاثة مكونات رئيسة هي، الفنون التشكيلية والموسيقى والأناشيد ثم المسرح، وذلك بهدف "ترسيخ قيم التربية الفنية والذوق الفني والجمالي لدى المتعلمين"، وفق وزارة التربية الوطنية.
يعلق على مكانة هذه المادة التي تعنى بالفنون في مقررات التعليم الابتدائي، أستاذ مادة التربية الفنية في التعليم الابتدائي عبدالله النجدي، بقوله إن "هذه التربية الفنية على رغم محاولتها سد الفراغ الكبير لمكانة الفنون في المنظومة التعليمية، غير أنها تظل غير كافية البتة".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأردف شارحاً أن "هذه المادة الدراسية لتلاميذ الابتدائي غير كافية من حيث الزمن، ومن حيث المضمون والجودة أيضاً، فمن حيث الزمن تبقى ساعة ونصف ساعة في الأسبوع وقتاً غير مجد، ولا يحقق النتائج المطلوبة من هذه المادة، فضلاً عن كونها مادة تعليمية جامدة لا تستنفر الذوق الفني للتلميذ".
وفي التعليم العالي توجد في المغرب مؤسستان تعنيان بالفنون، أولهما المدرسة العليا للفنون الجميلة بالدار البيضاء، وتضم ثلاثة تخصصات هي، الفنون التشكيلية، وفن التصميم الداخلي، وفن تصميم الإشهار، وثانيهما المعهد الوطني للفنون الجميلة بتطوان، ويعد أول مؤسسة في المغرب لتدريس الفنون التشكيلية.
وتضطلع وزارة الثقافة من جهتها بتدبير مجال الموسيقى من خلال إشرافها على 38 معهداً موسيقياً في عدد من المدن، تقوم بالتكوين في مجالات الموسيقى، والغناء، والفن الكوريغرافي، لكنها معاهد لا تدخل في إطار منظومة التعليم، ولا تتبع لوزارة التعليم.
سوق الشغل ونقص المدرسين
تقول في هذا الصدد حسنية حسيب، باحثة في سوسيولوجيا التربية، إن أحد الأسباب الرئيسة لضعف الاهتمام بتدريس المواد الفنية، هو حرص المدرسة على الاستجابة لمتطلبات سوق الشغل، لذلك تركز المؤسسات التعليمية في المغرب بصورة كبيرة على إعداد التلاميذ والطلبة ليكونوا مؤهلين مهنياً، مما جعل الشعب العلمية والتقنية، أكثر حضوراً في المناهج الدراسية مقارنة بالفنون.
وتابعت حسيب شارحة، "يتم تدريس المواد العلمية بطريقة مكثفة في المدارس المغربية، وتخصص لها حصص زمنية أسبوعية كبيرة، بينما تبقى حصص التربية الفنية إما محدودة كمادة مدرسة، أو تعد نشاطاً ضمن الأنشطة الموازية التي تفتقد الإلزام والتعميم والاستمرارية، ويتم النظر إلى المواد الفنية على أنها تخصص غير منتج، ولا يسهم في تأمين فرص الشغل".
ثاني الأسباب، وفق الباحثة عينها، يعود إلى نقص المدرسين المتخصصين في الفنون، وهو تحد كبير يواجه تدريس التربية الفنية في المغرب، خصوصاً في السلك الابتدائي، إذ تعد هذه الفترة العمرية أساساً لتنمية الذوق الفني والمهارات الإبداعية لدى الأطفال".
وأكملت حسيب أنه "في المغرب، لا يوجد أساتذة متخصصون في تدريس مادة التربية الفنية، إذ توكل إليهم جميع المواد الدراسية تحت مسمى (أستاذ مزدوج)، وفي التعليم الثانوي، يوجد عدد محدود لمدرسي التربية التشكيلية والتربية الموسيقية، وهم في طريق إلى الانقراض، مما يؤثر سلباً على اكتساب التلاميذ للمهارات الفنية، ويفقدهم فرص الإبداع في هذا المجال، مما ينعكس على جودة تعليم الفنون وتطوير الذوق الفني لديهم".
بنية تحتية وعوامل ثقافية
توضح الباحثة حسنية حسيب أن "البنية التحتية المناسبة، مثل قاعات المسرح والرسم والأنشطة الموسيقية، تعد ضرورية لتعليم الفنون بطريقة فعال، وعلى رغم ذلك، فإن عديداً من المدارس المغربية تفتقر إلى هذه المرافق، مما يعوق عملية تدريس هذه المواد، ويجعل تجربة التعلم الفني ناقصة وغير مشجعة" وفق تعبيرها.
وتضرب المتحدثة ذاتها المثل باليابان التي تتوفر مسارح مصغرة وورش عمل للفنون داخل المدارس، مما يتيح للتلاميذ ممارسة الفن بشكل عملي وتفاعلي، غير أنه في المقابل، يفتقر التلاميذ في المغرب لمثل هذه الفرص، مما يجعل الفنون تبدو جزءاً هامشياً من العملية التعليمية، كما أن عدم توفر هذه البنية يجعل تدريس الفنون غير مهم في أعين التلاميذ وأوليائهم، ويقلل من قيمة هذا المجال في المجتمع.
وعزت حسيب أيضاً ضعف مكانة الفنون في النظام التعليمي المغربي إلى عوامل ثقافية، حيث تسود نظرة مجتمعية تعد الفنون مجرد وسيلة للترفيه وتضييع الوقت، ولا تعترف بها كقيمة تربوية وتعليمية تسهم في تطوير الإنسان والمجتمع، موردة أن هذه النظرة تكرس تهميش الفنون وتؤثر سلباً في توجهات التلاميذ وأسرهم نحو هذا المجال، فينظر إلى الذين يتوجهون للفنون كأشخاص قد يعرضون أنفسهم للانحراف أو كأفراد يفتقرون للطموح مقارنة بمن يختارون التخصصات العلمية أو الاقتصادية، مما يقلل من الإقبال على الفنون ويضعف مكانتها في النظام التعليمي بالمغرب.
وخلصت حسيب إلى أن ضعف تدريس الفنون في المنظومة التعليمية المغربية يعود إلى مجموعة من العوامل المتداخلة، لهذا، هناك حاجة ملحة لإعادة النظر في مكانة الفنون داخل المنظومة التربوية، باعتبارها مدخلاً تربوياً أساسياً يسهم في تنمية الذوق، وتعزيز الحس الإنساني المشترك لدى المتعلمين والمتعلمات، مما يسهم في بناء مجتمع يتمتع بثقافة غنية ومتنوعة.
تداعيات تربوية واجتماعية
ويرصد المحجوب أدريوش، فاعل وباحث تربوي، تداعيات ضعف مكانة الفنون في المنظومة التعليمية بالمغرب، أبرزها "التسرب المدرسي" وضعف التفتح وقيم المواطنة والانفتاح، إذ لا يتجاوز عدد التلاميذ الذين يشاركون في الأنشطة الموازية تلميذاً واحداً من أصل أربعة تلاميذ.
وأردف أدريوش أنه "من بين الآثار الوخيمة الأخرى لضعف مكانة الفنون في المقررات الدراسية انتفاء البعد الجمالي لدى الأطفال والتلاميذ والطلبة، لأن إعطاءها الأهمية اللازمة يسهم في الارتقاء بالذوق وخلق التوافق والانسجام"، مبرزاً أن البعد الجمالي غاية مهمة من بين غايات التربية، وتربية الجمال تدخل في صلب التربية الأخلاقية.
وأكمل الباحث عينه أن غياب هذه الفنون يضعف البعد المهاراتي، من ثم ضعف ملكات الإبداع والابتكار والتخيل، وهي ملكات تحضر في هذا البعد انطلاقاً من اكتساب المتعلم أو عدمه لمجموعة من المهارات، لفظية وحسية وعقلية وحركية.
واسترسل أدريوش "انتفاء تدريس الفنون أو ضعف تدريسها يعطينا في المحصلة تلامذة جاهلين لذاكرة وطنهم وهويته وحضارته وتاريخه وكذا غير منفتحين على ثقافات وحضارات أخرى، ولهذا يعد تدريس الفنون "وسيلة ووسيط تواصل حضاري عالمي".
وأظهرت عديد من الدراسات، منها مثلاً دراسة مؤسسة الأبحاث الكندية "Hill Stratégies " نشرتها شركة الأبحاث الكندية، أن تدريس الفنون للتلاميذ والطلبة لا تنحصر مخرجاته في تحسين النتائج الأكاديمية لهم خصوصاً الأكثر حرماناً منهم فقط، بل يزيد من فرص نجاحهم المهني، كما يجعل منهم مواطنين أكثر انخراطاً في مجتمعهم، من ثم إذا ضعف تدريسها أو انتفى ضعفت هذه النتائج.