ملخص
في كتابه "فيكتور هوغو، الثورة الرومانسية للحرية" (غاليمار، 2024)، يعيد المفكر والأستاذ الجامعي المتخصص في العلوم السياسية فيليب راينو تتبع تطور الموقف السياسي لأحد أبرز الروائيين والشعراء الفرنسيين في القرن الـ19.
من المعروف أن فيكتور هوغو تحول عبر العقود، من داعم للملكية إلى رمز للجمهورية، وتأييده لنظام حكمها، هو الذي اشتهر بنشاطه السياسي والاجتماعي، وبنشره أعمالاً أدبية مست أهم القضايا الاجتماعية والسياسية في عصره، كإلغاء عقوبة الإعدام والعبودية ومعارضة الاستبداد، على رغم التزامه بالملكية في شبابه. هذا التغير السياسي الذي جعل من فيكتور هوغو (1802-1885) بطلاً قومياً مؤيداً لليبرالية في ظل ملكية يوليو (تموز)، وللجمهورية التي اختارته واحداً من نوابها وعضواً في مجلس شيوخها، سابحاً عكس التيار الذي يقضي بأن يكون الإنسان ثورياً في شبابه ومحافظاً في شيخوخته، شكل استثناءً لكل المسارات التقليدية في أوساط المثقفين الفرنسيين، ولعل هوغو قد أصبح أقرب إلى الاشتراكية في أواخر حياته.
في هذا الكتاب يستعرض فيليب راينو إذاً المسار السياسي لأديب يتوافق عليه اليمين واليسار الفرنسيين، محاولاً الإجابة عن سؤال الأسباب والدوافع التي حملت مفكراً وشاعراً وروائياً عظيماً على الانتقال من تيار سياسي إلى تيار آخر. فهل انقاد هوغو مع التيار الجمهوري بدافع الانتهازية؟ أم أنه تحرر من ثقل ماضيه الملكي مختاراً بحرية وعقلانية قيم الليبرالية والديمقراطية الجمهورية؟
يجيبنا راينو أن فيكتور هوغو صور بنفسه تطوره السياسي، حين كتب قائلاً "من بين جميع السلالم التي ترتقي من الظل إلى النور، فإن الأكثر استحقاقاً والأصعب تسلقاً هي هذه: أن تولد أرستقراطياً وملكياً لتصبح ديمقراطياً. الصعود من كوخ إلى قصر أمر نادر وجميل، ولكن الصعود من الخطأ إلى الحقيقة أكثر ندرة وجمالاً".
يعكس هذا القول بحسب الباحث ميل الأديب الواضح لقيم اليسار. ولعله يقدم لنا مفتاحاً لفهم إيمانه الثابت بالتقدم، أكان هذا التقدم في مجال السياسة أو في مجال الآداب والفنون. فالتقدم، بعرف هوغو هو انتقال من العفوية البدائية إلى الإبداع البشري الحر في ربط بين الطليعة السياسية والطليعة الأدبية.
السياق التاريخي
حتى نفهم هذا التحول السياسي في مسرى الأديب، يجدر بنا العودة قليلاً إلى حياته، منذ ولادته في كنف عائلة ميسورة ووضع الأحداث في سياقها التاريخي. فقبل سنوات قليلة من ولادة هوغو أطاحت الثورة الفرنسية بأسرة بوربون، وأعلن عن قيام الجمهورية الأولى التي سقطت بعد تنصيب نابليون بونابرت نفسه إمبراطوراً على فرنسا. كان فيكتور هوغو في الـ17 من عمره عندما استعاد نظام الملكية سلطته على البلاد، علماً أن والده كان ضابطاً رفيعاً في جيش نابليون الذي عينه أولاً حاكم مقاطعة قرب نابولي، ثم حاكم ثلاث مقاطعات إسبانية، بينما كانت والدته ملكية كاثوليكية تكره بونابرت. وبسبب عمل والده واضطراره إلى السفر، تنقلت العائلة كثيراً من مكان إلى آخر، لكن هذه الرحلات علمت هوغو كثيراً. فبعد استقراره مع والدته في باريس، تأثر الشاب بتدينها وولائها للملكية، وهذا بين في أعماله الشعرية المبكرة.
وإلى فيكتور هوغو في شبابه ملك فرنسا نابليون الثالث، وكان يتلقى منه راتباً شهرياً متمتعاً بحظوة في البلاط، وبين الأعوام 1819 و1822، كان كاثوليكياً رومانسياً مدافعاً عن الكنيسة والملكية، كاتباً في "الأناشيد والقصائد" إن "تاريخ البشر لا يحوي شعر إلا إذا نظر إليه من أعلى الأفكار الملكية والمعتقدات الدينية"، ناشراً عديداً من النصوص التي تعكس أفكاره السياسية المحافظة والموالية للنظام الملكي. غير أن هوغو فضل فيما بعد الانضمام إلى صفوف الجمهوريين المعادين للملك وطبقة النبلاء، صائراً من أنصار النظام الجمهوري الذي يدعو إلى المساواة بين المواطنين.
يفكك كتاب فيليب راينو الأسطورة التي صنعها هوغو عن أصوله العائلية، فيقول لنا إن هوغو لم ينل سر المعمودية، وإن نشأته كانت في بيئة بورجوازية تتغذى بروح فولتيرية. فقد رفض هوغو الإيمان بوجود الجحيم والخطيئة الأصلية، معتقداً أن الإنسان يولد صالحاً، وكانت فلسفته التاريخية بعيدة كل البعد من الكاثوليكية التقليدية. ففي عهد ملكية يوليو، كان الأديب الفرنسي ليبرالياً معتدلاً، على رغم محاولاته في أواخر حياته الإيحاء بأنه ميوله الاشتراكية مبكرة. فقد كانت ثورة 1848 الشرارة التي حملته على التمرد على تعليمه الملكي الكاثوليكي، مفضلاً التفكير الحر وقيم الجمهورية. سمحت هذه الثورة لهوغو اكتشاف أحوال العمال المزرية في شمال فرنسا. فهاله وضعهم، وكان انقلابه المفاجئ على أفكاره السابقة والتحاقه بالمعارضة السياسية، علماً أن تباشير ابتعاده عن المحافظين بدأت تلوح عند إلقائه خطابه الشهير في الجمعية الوطنية، الذي دعا فيه إلى إنهاء البؤس والفقر، والذي اتبعه بخطب دعت إلى الاقتراع العام والتعليم المجاني وإلغاء عقوبة الإعدام على مستوى العالم. كتب هوغو في دفتر مذكراته، "سأظل رجل الشعب والحقيقة. ولا طموح لديَّ لأكون وزيراً".
مكتسبات الثورة
في سنة 1851، قام الملك نابليون الثالث بإلغاء مكتسبات الثورة الفرنسية، ناشراً دستوراً مخالفاً لإرادة البرلمان. فما كان من هوغو إلا أن اتهمه بخيانة فرنسا. كان هذا الاتهام وراء ترك هوغو باريس واللجوء إلى بروكسل، التي خاطب منها الشعب الفرنسي بكتاب تضمن نقداً صريحاً للملكية الديكتاتورية، معترفاً بجرأة أن "لويس بونابرت شخص خارج عن القانون وعن البشرية"، واصفاً إياه بالمجرم الذي يتسلط على فرنسا، داعياً الشعب إلى التمرد على النظام. طلبت الحكومة الفرنسية من الحكومة البلجيكية طرد هوغو من أراضيها، فاضطرت بلجيكا للامتثال. وبدأت معاناة الأديب مع عذاب المنفى الذي استمر لفترة 20 عاماً. لكن أقامته في الجزر الإنجليزية النورماندية لم توقفه عن الدعوة إلى العصيان والتمرد على السلطة، ولو انتقد الشغب الذي رافق جنازة الجنرال جان ماكسيميليان لامارك، الضابط الذي اشتهر بمسيرته العسكرية في جيوش الثورة والإمبراطورية، لا سيما في الحروب الفاندية وفي إسبانيا، والتي شكلت فرصة لاندلاع انتفاضة جمهورية في 5 يونيو (حزيران) سنة 1832، خلدها هوغو في الكتاب الرابع من "البؤساء". فقد آمن هوغو بأن العنف غير مثمر، وطالب بالعفو العام عن مناضلي كومونة باريس، معتبراً أن الموقف العادل يقضي بمساندتهم، مخالفاً بذلك موقف الغالبية العظمى من أدباء فرنسا.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يخصص راينو صفحات مثيرة في كتابه للحديث عن "البؤساء"، مظهراً أن الرواية أكثر تعقيداً مما يبدو، على رغم الانتقادات اللاذعة التي طاولتها، والتي حملت توقيعات غوستاف فلوبير وجول باربي دوريفيلي. برأيه، خاطب هوغو من خلال هذه الرواية، النزوع الكامن والراسخ في البشر إلى العدالة، معبراً عن وعيه لأهمية خلق الثروة وتوزيعها، وقد ظهرت هذه الأفكار في نموذج شركة بطله جان فالجان، كما يدافع كتاب راينو عن أطروحة مفادها أن هوغو لم يكن يدعو إلى إدانة عامة للطبقات الحاكمة، بل إلى إصلاحات مثل الاقتراع العام والتعليم الإلزامي وتغيير المناهج التربوية والدفاع عن حقوق العمال ومساندة المرأة في نضالها من أجل التحرر والمساواة مع الرجل، محرضاً على انتهاج سياسة عادلة وإنسانية تجاه المحرومين والمقهورين، صائراً من أشد المدافعين عن النظام الجمهوري والعدالة الاجتماعية والمبادئ الديمقراطية والتقدم الصناعي. وكان تفاؤله بالتقدم، على ما تبين الدراسة، جزءاً من عصره، على رغم اهتمامه بـالمسألة الاجتماعية، وعدم معاداته للرأسمالية. ويتوقف الكتاب كذلك أمام عودة هوغو من المنفى سنة 1870، بعدما أصبح رمزاً للجمهورية.
توفي هوغو في الـ22 من مايو (أيار) 1885 عن عمر ناهز 83 سنة، وهو في قمة مجده الأدبي وعمله السياسي. فما من شاعر أو كاتب أسهم مثله في صنع فرنسا. ولئن عبرت أعماله عن الآمال والتحولات والانقسامات التي شهدها القرن الـ19، فإن موهبته اللامعة التي تزامنت في شبابه مع حماسة ملكية وجدت لها في مسرحيته الشعرية "هرناني" والمعركة التي أثارتها، وحدة غير قابلة للانفصال بين الحركة الرومانسية وقضية التقدم السياسي. فقد أصبح هذا الرجل رمزاً لعصره وأصبحت عالميته الشعرية والأدبية فرصة لاستعادة الانتماء للوطن. يخلص كتاب "فيكتور هوغو، الثورة الرومانسية للحرية" الجميل إلى القول إن هوغو تبنى في نزاعه ضد الديكتاتورية قضايا كانت على حجم شهرته وموهبته، جسدت صورته كأديب وطني كبير، وضع مجموعة من الروائع الأدبية كـ"أحدب نوتردام" و"أسطورة القرون" و"التأملات" و"البؤساء"، التي وصفها فيليب راينو بأنها "كتاب - عالم"، تتداخل فيه الأفكار والعواطف التي تهيمن على الروح الوطنية بدءاً من الدين، مروراً بالقضية الاجتماعية وصولاً إلى العلاقة المضطربة بين الثورة والديمقراطية وغيرها من العناوين المدافعة عن فلسفة سياسية تستمد ملامحها من الليبرالية والديمقراطية والإنسانية الاجتماعية.