ملخص
يسعى أردوغان إلى تكريس سلطته من خلال إقصاء أبرز منافسيه، مثل عمدة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، عبر أساليب قمعية مما يعزز استبداديته. ويستفيد الرئيس التركي من البيئة الدولية المتساهلة، لكنه يواجه تحديات اقتصادية متزايدة قد تضر مستقبله السياسي في تركيا.
قبل أيام قليلة من اختيار أكبر أحزاب المعارضة في تركيا لمرشحه الرئاسي المقبل، اعتقل أبرز المتنافسين على هذا الترشيح، وهو أكرم إمام أوغلو رئيس بلدية إسطنبول وزج به في السجن، مما أدى فعلياً إلى إبعاده من السباق. وباتخاذ هذا الإجراء الذي يعد قمعاً سياسياً سافراً، تكون الحكومة التركية خطت خطوة بالغة الأهمية نحو إرساء نظام استبدادي محض.
لقد كان مخطط إقصاء إمام أوغلو مدروساً ودقيقاً، فالثلاثاء الماضي ألغت جامعة إسطنبول التي درس فيها إمام أوغلو شهادته، علماً أن القانون يشترط أن يكون المرشحون للرئاسة في تركيا من حملة الشهادات الجامعية. وساقت مجموعة من الانتهاكات المزعومة للوائح مجلس التعليم العالي، كأدلة تبرر قرارها. وفي اليوم التالي، اعتقل إمام أوغلو بتهم الفساد والإرهاب، ولم تعرقل هذه الأحكام القضائية طموحاته الرئاسية فحسب، بل أدت عملياً إلى عزله أيضاً من منصبه كعمدة لأكبر مدن تركيا وأقواها اقتصادياً.
لقد دأب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان منذ أعوام على نزع القيود التي تكبح سلطته والتلاعب بمؤسسات الدولة من أجل منح حزبه أفضلية انتخابية، إلا أن المعارضة التركية تمكنت حتى الآن من طرح مرشحين قادرين على تحدي حكمه. وكانت جماعات المعارضة اعتقدت أنها وجدت في إمام أوغلو مرشحاً يستطيع أن يتغلب على أردوغان في سباق يخوضه الاثنان ضد بعضهما بعضاً. ومن خلال إجبار رئيس بلدية إسطنبول على الخروج من معترك السياسة، تجاوزت الحكومة الخط الفاصل بين النظام الاستبدادي التنافسي في تركيا والاستبداد كامل الأوصاف على الطراز الروسي، الذي يختار فيه الرئيس خصومه، وتكون الانتخابات مجرد استعراض.
الطريق نحو الاستبداد
عمد أردوغان على امتداد أكثر من عقدين من توليه السلطة، إلى تفكيك المؤسسات الديمقراطية في تركيا، مما أدى إلى تعزيز سيطرته ضمن نظام حكم الفرد الواحد. وبعد محاولة انقلاب فاشلة شنها ضباط عسكريون عام 2016، ربطها أردوغان وحزبه بحركة كان أعضاؤها يعملون في فروع أخرى من الحكومة والمؤسسات العامة، أخضع أردوغان القضاء لسلطته من خلال طرد آلاف القضاة واستبدال موالين له يصادقون على حملاته القمعية من دون سؤال أو جواب، بهم كُممت أفواه وسائل الإعلام، إذ إن أكثر من 90 في المئة من وسائل الإعلام التركية باتت مملوكة لشركات موالية للحكومة، ويجري إلقاء صحافيين مستقلين في السجن بصورة روتينية.
لا تزال البلاد تجري انتخابات إلا أن النظام مشوه للغاية. إنها حالة نموذجية لنظام استبدادي تنافسي، من نوع يحاكي النظام الديمقراطي بينما يرجح بصورة منهجية كفة ميزان العمل السياسي لمصلحة الحزب الحاكم. وتنشط أحزاب معارضة وهناك نقاشات عامة حقيقية تدور حول السياسة، ويخسر الذين يمسكون بالسلطة في بعض الأحيان. ومع ذلك، نظراً إلى سيطرة الحكومة على القضاء وخنق وسائل الإعلام المستقلة وتسليح مؤسسات الدولة لإضعاف خصومها، فإن المنافسة الانتخابية بعيدة كل البعد من أن تكون عادلة.
وعلى رغم ذلك، فإن حكم أردوغان يبقى ضعيفاً ما دام بوسع مرشحي المعارضة أن يخوضوا الانتخابات، وعادة ما يكون هامش فوزه ضئيلاً نسبياً. فمثلاً فاز أردوغان في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية لعام 2023 بنسبة 52 في المئة من الأصوات. وقد لجأ أحياناً إلى إجراءات أكثر تطرفاً لضمان بقائه هو وحزبه في الصدارة. فخلال الانتخابات البلدية لعام 2019 في إسطنبول، عندما هزم إمام أوغلو مرشح حزب أردوغان، عمدت السلطات إلى إلغاء النتيجة وأجبرت الجهات المعنية على إعادة الانتخابات، التي تمخضت من جديد عن فوز إمام أوغلو بهامش أوسع، غير أن أخطر تكتيك اتبعه أردوغان هو سجن أقوى منافسيه. وهكذا فإن صلاح الدين دميرتاش السياسي الكردي الكاريزمي الذي تحدى أردوغان خلال السباقين الرئاسيين لعامي 2014 و2018، يقبع خلف القضبان منذ عام 2016 (أدار حملته الثانية من السجن) بتهم إرهابية مشكوك في صحتها. وحُكم على إمام أوغلو بالسجن عام 2022 بتهمة إهانة موظف عام. لكن بما أن القضية لم يجر بتها بعد بانتظار نتيجة الاستئناف، فإن ذلك الحكم لم يمنعه من الترشح لمنصب رسمي مرة أخرى.
لا يريد أردوغان حماية رئاسته فقط بل استعادة إسطنبول أيضاً
خلال العام الماضي، أقال أردوغان عددًا من رؤساء البلديات المنتخبين ممن ينتمون إلى أحزاب المعارضة واستبدل بهم آخرين معينين من قبل الحكومة. واستُهدف الصحافيون والسياسيون وناشطو حقوق الإنسان وحتى أكبر مجموعة أعمال في البلاد بدعاوى قضائية وهمية، إلا أن اعتقال إمام أوغلو هذا الأسبوع يمثل تصعيداً كبيراً. إن تهم الإرهاب والفساد أخطر بكثير، من ثم تكون عواقبها أكبر بصورة ملحوظة من التهم الموجهة إليه في القضية التي لم تحسم بعد لعام 2022. وبخلاف دميرتاش، الذي حظي بقدر من الشعبية لكنه لم يشكل تهديداً حقيقياً، فإن إمام أوغلو يمثل خطراً مباشراً على رئاسة أردوغان. ومن خلال إبعاد هذا المنافس من الساحة، أظهر أردوغان أنه غير مهتم بالحفاظ على مظهر الانتخابات التنافسية المزعوم، وبدلاً من ذلك يسعى إلى تحقيق نظام استبدادي من النوع الذي لدى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، أي من دون معارضة حقيقية أو مفاجآت انتخابية.
إن أردوغان الآن يقترب بصورة خطرة من الوصول إلى ما يريده، وهو يتبع مساراً مشابهاً لذاك الذي سلكه بوتين في روسيا. ولم تكن روسيا دولة استبدادية قبل عقدين من الزمن، كما هي اليوم، وكان اقتصاد البلاد مزدهراً وكان بوتين يتمتع بشعبية حقيقية، لذلك تسامح مع بعض المعارضة وترك أجزاء من النظام الديمقراطي سليمة. ولكن بعد الأزمة المالية عام 2008، ومع توقف النمو الاقتصادي واندلاع الاحتجاجات المناهضة للحكومة، رد بوتين بالقمع. وعام 2020، عزز حكمه بالكامل كحاكم مستبد لا ينافسه أحد على السلطة، ومُررت تعديلات دستورية تسمح لبوتين بالبقاء في السلطة حتى عام 2036. وسارع نظامه إلى اعتقال أو نفي أو إسكات حتى أكثر منتقديه هامشية. وخلال أغسطس (آب) 2020، قام عملاء الكرملين بدس السم للناشط أليكسي نافالني أشد معارضي بوتين، في محاولة لقتله (وقد توفي نافالني لاحقاً داخل سجن روسي عام 2024). واليوم، أصبحت الانتخابات الروسية مجرد إجراء صوري، يُحظر المنافسون الحقيقيون بينما يختار بوتين عدداً قليلاً من المعارضين الرمزيين لخلق وهم المنافسة. والنتيجة محسومة سلفاً دائماً.
وأمعن أردوغان في الاعتماد على القمع مع تراجع شعبيته، تماماً كما فعل بوتين، وتتزايد خيبة أمل فئات الناخبين الرئيسة، بمن في ذلك شباب تركيا. وبسبب إحباطهم من سياسات أردوغان الاستبدادية المتزايدة ونقص الفرص الاقتصادية، يفكر عدد من الشباب الأتراك في الهجرة، ويتنامى رد الفعل القومي ضد سياسات الحكومة التي تسمح لملايين اللاجئين السوريين بالعيش في تركيا.
إن الاقتصاد المتعثر هو سبب الصداع الأكبر بالنسبة إلى أردوغان، فتركيا تكافح منذ عام 2018 التضخم فضلاً عن التراجع الاقتصادي. وبعد أعوام من تبني أردوغان السياسات غير التقليدية التي جادل عدد من الاقتصاديين بأنها تؤدي إلى تفاقم الأزمة، تخلى وزير المالية الجديد عن النهج القديم، بيد أنه لم يتمكن حتى الآن من تغيير مسار الاقتصاد والمضي به على طريق النجاح. وانتقدت مجموعة الأعمال الرائدة في البلاد، وهي جمعية الصناعة والأعمال التركية، البرنامج الاقتصادي الجديد علناً. ورداً على ذلك، اتهم أردوغان المجموعة بإضعاف سلطة الحكومة. وفي غضون ذلك، لحق الضرر بشعبية أردوغان، ففي الانتخابات البلدية لعام 2024 وعلى رغم أنه استغل كل الصلاحيات التي يتمتع بها كرئيس للدولة من أجل مساعدة حزبه على الفوز، فإن الحزب الحاكم تعرض إلى أكبر هزيمة له على الإطلاق.
وكانت حملة أردوغان المتصاعدة على المعارضة خلال العام الماضي محاولة لإخماد زخمها المتنامي، أي إجبار إمام أوغلو على التوقف، فالأخير الذي كان يعد دخيلاً على الساحة السياسية قبل دخوله سباق رئاسة البلدية عام 2019، صدم المؤسسة بإنهاء سيطرة الحزب الحاكم التي استمرت 25 عاماً على إسطنبول، وهي المدينة التي شهدت نجاحات أردوغان الأولى وأطلق منها مسيرته المهنية. وعلى رغم جهود الرئيس الحثيثة الرامية لإزاحة إمام أوغلو، فقد فاز بسهولة في انتخابات الإعادة العام الماضي، مما يثبت أنه يتمتع بجاذبية واسعة خارج القاعدة العلمانية التقليدية لحزبه. ونظراً إلى أن حزبه يستعد لدعم ترشحه للرئاسة، وذلك في الانتخابات المقبلة المقرر إجراؤها عام 2028 ولكن قد تتم الدعوة إليها خلال وقت أقرب، فقد أصبح إمام أوغلو منافساً قوياً لحكم أردوغان.
إذا بقيت الإجراءات التي اتخذت هذا الأسبوع سارية، فإنها ستعوق مسيرة إمام أوغلو بشدة. وإن إلغاء شهادته يمنعه من الترشح للرئاسة، كما أن تهمة الإرهاب تجعله غير جدير بتبوؤ منصب رئيس البلدية. وأردوغان لا يريد حماية رئاسته فحسب، بل هو يرغب أيضاً في استعادة إسطنبول. فخسارة المدينة أمام المعارضة عام 2019 لم تكن مجرد انتكاسة سياسية فحسب، بل كانت كذلك ضربة مالية حرمت أردوغان من القدرة على التحكم بموارد المدينة الهائلة، التي غذت شبكة محسوبياته لعقود. ومن الممكن أن السيطرة على إسطنبول من جديد قد تساعد في الحفاظ على عمل آلته السياسية خلال وقت يعاني فيه صعوبات اقتصادية. وإقالة رئيس البلدية تتيح لأردوغان تعيين حاكم جديد لإسطنبول يضمن ولاءه.
مغامر لا يخشى المجازفة
يلعب أردوغان لعبة تنطوي على قدر كبير من المجازفة ذات المردود العالي. إذا نجح، سيخوض الانتخابات المقبلة ضد خصم اختاره بنفسه، وبذلك ضمن بقاءه في الحكم مدى الحياة. إن التشبث بالسلطة على هذا النحو يوحي باعتقاده أنه يستطيع فعل ما يشاء من دون عقاب. وقد يكون محقاً، فأحزاب المعارضة والمؤسسات السياسية في البلاد تفتقر إلى الوسائل اللازمة لتقييد صلاحياته. وعلى رغم أن كثراً في تركيا غاضبون فإن الجمهور أيضاً يشعر بأنه لا يملك سوى قليل من الموارد التي لا تكفي للتصدي للرئيس. وكانت آخر مرة واجه فيها أردوغان احتجاجات جماهيرية عام 2013 وردت عليها الدولة بوحشية، إذ قتلت قوات الأمن عدة أشخاص وأوقعت آلاف المصابين ونفذت اعتقالات جماعية. ومنذ ذلك الحين، ضيق أردوغان الخناق على التجمعات العامة لضمان عدم وصول التظاهرات إلى المستوى نفسه مرة أخرى.
ويستغل الزعيم التركي أيضاً بيئة دولية متساهلة بصورة استثنائية. وشجعت عودة الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى البيت الأبيض أردوغان على التمادي في مغامراته، إذ لم يعد يخشى أي رد فعل من الولايات المتحدة خلال وقت يمضي فيه ترمب بتقويض الديمقراطية الأميركية ولا يظهر أي اهتمام بمحاسبة المستبدين الأجانب على القمع الذي يمارسونه. وأثارت محاولات ترمب للتقرب من بوتين قلق القادة الأوروبيين، مما أجبرهم على إعادة التواصل مع تركيا على أمل تعزيز دفاعاتهم ضد العدوان الروسي وهم على الأرجح على استعداد لتجاهل استبداد أردوغان المستشري، إذا كان ذلك يعني ضمان دعم أنقرة لجهودهم.
إلا أن ثقة أردوغان في موقفه على المستوى المحلي قد تكون في غير محلها، ففي المرة الأخيرة التي حاول فيها تهميش إمام أوغلو، جاءت النتائج معاكسة بصورة مذهلة. وإن إعادة الانتخابات البلدية لعام 2019 في إسطنبول، والتي فاز بها أول الأمر إمام أوغلو بفارق ضئيل، أججت غضب عدد من الناخبين، الذين عدوها ناجمة عن تدخل غير مبرر من قبل الحكومة. وفي التصويت الثاني، انتصر إمام أوغلو بهامش أوسع وهو الأكبر الذي يحققه رئيس بلدية إسطنبول منذ عقود.
الأهم من ذلك، قد يطمح أردوغان إلى أن يكون مثل بوتين، لكن تركيا ليست روسيا. فخلافاً لروسيا، التي تزدهر بفضل ثرواتها الطبيعية، يعتمد الاقتصاد التركي بصورة كبيرة على الاستثمارات الأجنبية. وبدأ المستثمرون بالفعل في الفرار مع تزايد النزعة السلطوية داخل البلاد، والانزلاق نحو الحكم الاستبدادي الكامل لن يعيدهم بالتأكيد. وسيبقى الاقتصاد التركي غارقاً في الأزمة، وحتى الحاكم المستبد يحتاج إلى تحقيق نتائج ملموسة ليحافظ على قبضته على السلطة.
غونول تول مديرة الدراسات التركية في "معهد الشرق الأوسط" للبحوث ومؤلفة كتاب "حرب أردوغان: صراع الرجل القوي في الداخل وفي سوريا"
مترجم عن "فورين أفيرز"، الـ21 من مارس (آذار) 2025