Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

أولئك المشاؤون الذين كتبوا تاريخ الحضارة البشرية

الأميركية ربيكا سولنيت تستعيد أبرز ما كتب عن المشي في حقول عدة

المشاء المستوحد بريشة أندريه بيار لوبياك (صفحة الرسام - فيسبوك)

ملخص

"شهوة التجوال... تاريخ للمشي"، كتاب للباحثة الأميركية ربيكا سولنيت صدر حديثاً عن منشورات "تكوين"، ترجمة الشاعرة الأردنية نوال العلي. تستعرض الكاتبة أبرز محطات المشي، تاريخياً وأدبياً وفلسفياً واجتماعياً.

"أليس غريباً أن الإنسان، منذ خطى خطوته الأولى، لم يسأل نفسه لماذا يمشي، وكيف يمشي، وما إذا كان قد مشى من قبل، وما إذا كان بإمكانه أن يمشي في شكل أفضل، وما الذي يحققه في المشي؟ أسئلة مرتبطة بالأنظمة الفلسفية والسيكولوجية والسياسية التي تشغل العالم".

طرح الروائي أونوريه دو بلزاك أسئلته هذه قبل قرنين تقريباً في كتابه "نظرية المشي"، بينما كان البشر في أرجاء العالم يذرعون الطرق من مكان إلى آخر، بحثاً عن لقمة العيش أو حاجتهم للطعام في الأسواق، أو يقصدون المزارات بحثاً عن أجوبة عن أسئلة روحية تشغلهم أو يتسكعون بلا هدف.

لكن ربيكا سولنيت الناشطة والكاتبة الأميركية قررت على ما يبدو أن تقوم بمهمة الإجابة عما طرحه بلزاك، لتقدم كتابها عن تاريخ المشي بعنوان "شهوة التجوال... تاريخ للمشي" الذي صدر حديثاً بترجمة الشاعرة المترجمة نوال العلي عن منشورات "تكوين" في الكويت.

مسيرة طويلة

يأتي كتاب "شهوة التجوال... تاريخ للمشي" ليقدم تأريخاً لهذه المسيرة الطويلة للمشي، بداية من اللحظة التي نصب فيها الإنسان القديم جسده ليقف على قدمين ويبدأ رحلة المشي، وصولاً إلى مسيرات النشطاء التي كانت سبباً في تغيرات سياسية أو اجتماعية اتخذت شكل حركات احتجاجية أو انتفاضات شعبية، تطورت إلى ثورات أو إلى معارك دموية بين الجمهور والسلطة. وكذلك "المارشات العسكرية" للجنود التي قامت عليها مخططات استراتيجية عسكرية غيرت خرائط الحدود، ثم ماراثونات المشي التي تجمع بين التريض والحفاظ على مستوى اللياقة والصحة العامة في المجتمعات الحديثة.

يبدأ الكتاب في تأمل فكرة المشي نفسها وحركة القدمين في علاقتها بالساقين والمفاصل والعضلات، لتكشف البذور الأولى لفكرة المشي، على اعتبار أن الكائن البشري تمكن من الوقوف على ساقين، ليرى العالم في شكل مختلف للمرة الأولى، في رحلته نحو التطور العقلي. تحاول سولنيت إيجاد علاقة بين إيقاع المشي والتفكير، خصوصاً مع مرحلة ظهور الفلاسفة المشائين والرواقيين الذين عرف عنهم قيامهم بالجدل والبحث والنقاش والتفكير خلال عملية المشي.

عمارة المشاء

 لكن المؤلفة ترى أن هذه الظاهرة في أساسها ترتبط بالعمارة التي صممت المساحة الرواقية التي جعلت من تجربة المشائين فكرة ممكنة، "نشأ هذا الاعتقاد من صدفة العمارة واللغة. عندما كان أرسطو مستعداً لإنشاء مدرسة في أثينا منحته المدينة قطعة أرض. فيها، كما يشرح فيليكس غراييف تاريخ هذه المدرسة، معبد لأبولو والحوريات، وربما مبان أخرى أصغر. وهناك ممشى مسقوف بأعمدة من الجانبين يقود إلى معبد أبولو، أو قد يربط المعبد بمزار الحوريات. منح هذا الممشى Peripatos المدرسة اسمها. هنا كانوا يذرعون الممشى إياباً وذهاباً، ولهذا قيل لاحقاً إن أرسطو نفسه كان يحاضر ويدرس بينما يمشي صاعداً نازلاً. وأطلق على الفلاسفة الذين أتوا من هذه المدرسة المشاؤون أو المدرسة المشائية". تقول سولنيت، "يعود تاريخ المشي إلى ما هو أبعد من تاريخ البشر، لكن تاريخ المشي كعمل ثقافي واع وليس كوسيلة لتحقيق غاية لا يتجاوز عمره بضعة قرون، في أوروبا، وفي بدايته يقف روسو".

في اعترافات جان جاك روسو قال، "لا يمكنني التأمل إلا عندما أمشي. عندما أتوقف، أتوقف عن التفكير، عقلي يعمل مع ساقي فقط". ويضيف، "لم أفكر أبداً بهذا القدر، ولم أجد هذه الحيوية، لم أجرب كثيراً، ولم أكن نفسي كثيراً، إن كان في إمكاني استخدام هذا التعبير، كما حدث في الرحلات التي قمت بها بمفردي على قدمي. ثمة شيء في المشي يحرض تفكيري ويحييه".

 وتتنقل مع روسو في انطباعاته عن علاقة المشي بالناس، وبأفكاره من جهة أخرى وصولاً إلى كتابه "هواجس المتنزه المنفرد بنفسه" (1782)، الذي يسمي كل فصل من فصوله نزهة، وفي النزهة الثانية يوضح فرضيته "أما وقد عزمت على أن أصف مألوف حالتي الذهنية في أغرب موقف يمكن إنساناً أن يجد نفسه فيه، فلم أرَ طريقة أبسط وأضمن لإتمام هذا المشروع إلا أن أضع سجلاً أميناً أثبت فيه نزهاتي المنفردة والهواجس التي تملؤها". وتصف هذا الكتاب انطلاقة ما يمكن تسميته أدب المشي الفلسفي.

تنتقل من روسو إلى الفيلسوف الدنماركي سورين كيركيغارد، الذي ولد بعد قرن من ولادة روسو، الذي كتب يوميات لها علاقة بالتأمل خلال المشي في كوبنهاغن التي ضمنها يومياته.

تيار الوعي

ترى ربيكا أن هذا المسار الذي بدأ في الفلسفة انتقل إلى الأدب بعد قرن ونيف، مع جيمس جويس وفرجينيا وولف في محاولة لوصف أعمال الذهن عبر الأسلوب المسمى "تيار الوعي"، إذ تتضح في رواياتهما "يوليسيس" و"السيدة دولاواي" أفكار أبطالهما وذكرياتهم في شكل أفضل أثناء المشي.

يقدم الكتاب جولة موسوعية في أدبيات المشي، فتتنقل الكاتبة بين أعمال أدبية سردية لعب المشي فيها دوراً محورياً، من مثل روايات جين أوستين وغيرها. وتتوقف عند مذكرات مشائين دونوا يوميات جولاتهم الواسعة، موضحين خلالها التأثير الحيوي للمشي على أفكارهم، وتأملاتهم في علاقة الإنسان بالطبيعة من حوله خلال المشي، وبجسده أيضاً باعتبار أن تاريخ المشاء الشخصي يرتبط بصحته العامة وقوة ساقيه.

تتوقف مطولاً عند ويليام وردزوورث وشقيقته دوروثي اللذين قطعا آلاف الأميال مشياً على الأقدام في ريف إنجلترا، في نهايات القرن الـ18 (ولد ويليام عام 1770). تقول "كتب كريستوفر مورلي عام 1917، "كثيراً ما تصورت أن المشي كفن رفيع لم يمارس كثيراً قبل القرن الـ18(...)، وعموماً فإن المشي عبر الريف من أجل البهجة الخالصة المتمثلة في إيقاعية وضع قدم قبل الأخرى، كان نادراً قبل وردزوورث. دائماً أفكر فيه كواحد من أول من وظف ساقيه كأداة للفلسفة".

كتب وردزوورث كثيراً عن جولات المشي التي تقدر بـنحو 175 ألف ميل، لكنه أيضاً كان سبيله إلى تأليف الشعر، فقد ألف معظم قصائده أثناء سيره وتحدثه بصوت عال إلى رفيق، أو إلى نفسه.

 ترى ربيكا سولنيت في صعود الجبال أو تسلقها، جانباً من سيرة المشي العمودي، أو المشي صعوداً إلى قمة الجبال، كاشفة جانباً آخر من جوانب الطموح البشري في الاكتشاف والتحدي. وتبين الاختلاف بين مشاهدات المشاء في المساحات الأفقية، ومشاهدات متسلق الجبال الذي يواجه الصخور أمامه وتنوعاتها. التسلق الذي يضع المرء وجهاً لوجه مع صخرة في تشكيل علاقة جديدة، بين الإنسان والطبيعة. فقد كان "ينظر إلى الجبال في مختلف الثقافات باعتبارها عتبات بين هذا العالم والعالم الآخر، وأماكن يدنو فيها عالم الأرواح".

جغرافيا روحية

تتعرض المؤلفة لفكرة الحج، خصوصاً أن المشي كان الوسيلة الوحيدة لأداء شعائر الحج في ديانات عديدة، طوال قرون، بل وكانت أحياناً ضرورة لبذل الجهد والمشقة المطلوبة لبلوغ الأهداف الروحية من ممارسة عملية لها طابع تعبدي لبلوغ الأماكن المقدسة. وتقدم تأملات في علاقة المشي بفلسفة الحج، "هناك علاقة بين الرحلة والوصول في الحج المسيحي كما الحال في رياضة تسلق الجبال. أن تسافر من دون أن تصل سيكون السفر فعلاً ناقصاً، بقدر ما أن تصل من دون أن تكون سافرت. المشي إلى هناك يعني الكد لاستحقاق ذلك من خلال الكدح ومن خلال التحول الذي يحدث أثناء الرحلة. يتيح الحج إمكان التحرك مادياً، عبر إجهاد المرء جسده، خطوة بخطوة نحو تلك الأهداف الروحية اللاملموسة التي يشق إدراكها بأي طريقة أخرى. إننا في حيرة أبدية في شأن كيفية التحرك نحو الغفران أو التعافي أو الحقيقة، غير أننا نعرف كيف نمشي من هنا إلى هناك، مهما بلغت الرحلة من عسر. نميل أيضاً إلى تخيل الحياة رحلة، والخروج في رحلة استكشافية فعلية يقبض على هذا التصور ويحيله إلى شيء ملموس، ويؤديه عبر الجسد والخيال في عالم تروحنت جغرافياه".

اقرأ المزيد

الكتاب موسوعي عملي، فهو يتضمن أيضاً تاريخ تأسيس نوادي المشي، ودورها في تنظيم رحلات المشي الجماعي، وفي مطالبات حقوق المشاة التي كانت تعترضها تملك الإقطاعيين للأراضي الصالحة للمشي، وتأسيس جماعات الكشافة الجوالة، وعلاقة جمعيات بيوت الشباب التي توفر السكن للشباب في أرجاء العالم للمسافرين والتي انبثقت عن نوادي المشاة عام 1930.

المتسكعون

تنتقل المؤلفة إلى الشوارع التي ترتبط بالمشي في المدينة، أي خارج الريف، وهذا يفتح آفاقاً لتأمل كثير من الظروف الاجتماعية والطبقية. فالمشي في المدينة لا يعني التنزه فقط في المساحات المتاحة للمشي، أو المشي الرياضي، بل يشمل أيضاً حياة أولاد الشوارع، أي سكان الشارع من الفقراء واللقطاء والمشردين، من تشارلز ديكنز نفسه إلى أولاد شوارع اللحظة الراهنة. تخصص المؤلفة فصولاً عن التسكع في نيويورك وسان فرانسيسكو، ثم تنتقل إلى باريس التي تعد مدينة المتسكعين والمشاة من كافة الأجناس والطبقات، وبينهم عشرات الكتاب الذين تستشهد بهم وتقتطف مقاطع من مشاهداتهم الباريسية.

يضم الكتاب قصصاً عن الاحتجاج والثورة وصراعات العمال وتغيرات المدن والفن المعاصر. عطفاً على أسئلة جوهرية عن تاريخ النساء والشوارع. وعلاقة وضع المرأة بوجودها في الشارع، واقتصار هذا الوجود لفترة على من سمين "فتيات الليل". وتتوقف عند فرجينيا وولف لتصل إلى روايات "الطريق" وجاك كرواك ورفاقه ثم إلى شبح فالتر بنيامين الذي خيم بفهمه للتسكع على رحلة الكتاب إلى أن تتقاطع مع جيل شعراء "البيت".

لا تكتب سولنيت عملاً أكاديمياً، رغم موسوعية الكتاب، بل تكتب بحرية من تتمشى متجولة تاركة نفسها للطريق، كما يفعل المتسكعون.

 ربيكا سولنيت كاتبة ومؤرخة وناشطة أميركية معروفة بأعمالها حول النسوية، والسياسة، والبيئة، والتغيير الاجتماعي. من أشهر كتبها: "رجال يشرحون لي الأشياء" (2014)، "جنة بنيت في الجحيم" (2009) "الأمل في الظلام" (2004) وغيرها.

المزيد من ثقافة