Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

أطياف الذاكرة اللونية تطل في معرض "شفافيات"

التشكيلي المغربي عبدالله الهيطوط يحتفي بالطفولة ويفتح مساحات كبيرة للتأويل

لوحة من معرض الرسام عبدالله الهيطوط (خدمة المعرض)

ملخص

من يتابع الأعمال الفنية للتشكيلي المغربي عبدالله الهيطوط يستوقفه هذا الحضور الطيفي للألوان والأشكال في لوحاته، خصوصاً تلك التي قدمها في معرضه الجديد في المعهد الفرنسي - الرباط تحت عنوان "شفافيات".

تبدو الألوان والأشكال في لوحات عبدالله الهيطوط بمثابة دلاء تمتد عبر حبال طويلة إلى البدايات، قصد استعادتها. وما الحضور السديمي في لوحات الفنان سوى إشارة إلى الجهد الذي تبذله الذاكرة من أجل طي الزمن، والقبض بالتالي على لحظات متفرقة وقابلة للانفلات. قد يكون الضباب، بما هو عائق للرؤية، هو المقابل الدلالي للذاكرة. فما يستحضره الفنان في اللحظة الراهنة قد لا يكون بالوضوح ذاته الذي كان عليه في فترة ماضية. ومن ثم فالشفافية ستكون رهاناً صعباً، لا يترجم واقع العمل الفني، بل ينقل إلينا ما يحلم به الفنان، أي أن يرى في زمن لاحق الأشياء ذاتها بالشكل ذاته الذي كانت عليه في زمن سابق.

هل يستطيع الفنان أن يتخلص من الإرث الاجتماعي والنفسي والثقافي؟ الجواب سيكون قطعاً بالنفي. ثم إن محو الماضي في كل الأحوال سينتج منه خلل في البنية الزمنية، أو في التوازن الزمني. تقول الشاعرة والروائية البريطانية جورج إليوت في هذا الصدد، "لا أريد مستقبلاً يفصلني عن الماضي". وسواء قصد الفنان استعادة ماضيه أو لم يقصد فهو حاضر في الضرورة بصور مختلفة. إن "الماضي يستعيد شبحيته، ويتحول إلى حاضر مستمر"، وفق تعبير الشاعر الفرنسي شارل بودلير.

وفي سياق إسقاطي يمكن القول، إن الماضي يتخلق ويتشكل في لوحات عبدالله الهيطوط على هيئة أشباح. لكنها أشباح تتمتع بالحرية، ومن ثَم القدرة على الحضور داخل الإطار بتجليات متباينة. يقول الناقد الفني أولفييه راشيه عن هذه التجربة، "تتميز أعمال عبدالله الهيطوط بحرية تعبيرية أصبحت مع مرور السنين أكثر هدوءاً واستبطاناً للذاكرة، من خلال تفاعل تأثيرات التراكب والشفافية. وهي أعمال على القماش أو الورق تتضمن اقتراحاً تعبيرياً يسمح لأشياء أو عناصر مختلفة من الطبيعة بالظهور على حوامل يتم الكشف عنها مثل صورة فوتوغرافية سلبية".

ألوان قابلة للاختراق

يقف المتلقي أمام لوحات المعرض متعقباً الشفافية التي ينشدها الفنان عبر طبقات اللون ومساحاته، ذلك أن الهيطوط اختار أن يشتغل سواء على الورق أو القماش بالألوان المستوحاة من عناصر الطبيعة القابلة للاختراق: الأبيض الفاتح أو المتدرج إلى الرمادي (لون الغيوم)، الأزرق (لون السماء والبحر)، الأصفر (لون الضوء)، فضلاً عن الوردي والبرتقالي والأرجواني والبنفسجي، وهي مستمدة في الغالب من ألوان الشفق بمختلف أنواعه. لا يقع هذا الاختيار عند الفنان موقعاً اعتباطياً، فهو يتماهى مع التيمة الكبرى لمعرضه الجديد، مما يخدم فكرة تقاطع منحنيات مادة شفافة مع منحنيات السطح الذي خلفها، أي ما يتيح للمتلقي الوصول إلى المستوى الثاني للوحة.

بين الفلسفة والطفولة

في "شفافيات" يراهن الهيطوط على الإضاءة واللون لتوفير ممرات بصرية إلى عناصر مختلفة تتوارى خلف الطبقة السديمية، وهو بذلك يفتح أمام المتلقي مساحات شاسعة للتأويل. ذلك أن العمل الفني المركب يشكل اختباراً للمخيال البصري. إن الفنان يستند إلى تكوينه الفكري لإضفاء لمسة فلسفية على لوحاته، ومن ثم لتمهيد طريق الأسئلة التي تنعكس مع الضوء إلى عين المتلقي. فالتشكيل قد يكون الوعاء الأقدر على احتواء أسئلة الفلسفة، ويشفع له في ذلك عامل السابقية. فإذا كان الإنسان قد وصل إلى أرض الفلسفة قبل 3 آلاف عام، فإنه في المقابل قد اهتدى إلى الرسم قبل 17 ألف عام، كما شهدت على ذلك لوحات الجص في كهوف لاسكو وماجو وتاميرا. ثم إن الأشكال التفاعلية للرسم مع هذه الأسئلة غير محصورة بالشرط اللغوي.

إنه يستعير هذه الألوان باعتبارها موادَّ يتخلق بها محتوى يستند إلى الذاكرة البصرية للفنان، لكنها ذاكرة تستعيد الواقعي وتقدمه للمتلقي في صيغ تجريدية. فالمادة الشفافة عند الهيطوط ليست في الضرورة عنصرا محايدا يكشف عما يتوارى خلفه، بل هي عنصر فاعل قادر على التأثير في عناصر أخرى تصل إلينا وقد تغير شكلها. وفي سعيه إلى أن ينقل إلينا تفاصيل من الماضي، قد تكون هذه المادة الشفافة رمزا للزمن، وقد ترك أثره الكبير على تلك التفاصيل. إن ذاكرة الفنان في كل الأحوال لا تحصر مهامها في التوثيق والحفظ والتسجيل، بل هي ذاكرة منفتحة على التخييل أيضا ومتأهبة للانزياح، فثمة رغبة دائمة لدى الفنان في أن يعيد تشكيل الماضي حين يستعيده.

شارك الهيطوط في عدد من المعارض الوطنية والدولية متنقلاً بلوحاته بين المغرب وسلطنة عمان والكويت وتونس وقطر وكندا وبلجيكا وألمانيا وغيرها. وبمعرضه الجديد في المعهد الفرنسي بالرباط يواصل مقترحاته الجمالية في حقل التشكيل، مؤمناً بأن الرسم يتجاوز اللغة المنطوقة و"يطفئ حطام الكلام" وفق تعبيره، ومؤمناً أيضاً بأن التشكيل هو "الإجابة البصرية الدؤوبة على قضايا الراهن"، وهو في الآن ذاته "المغامرة التي تقتضي التقصي الدائم والذهاب عميقاً إلى ما وراء الأشياء".

اقرأ المزيد

في تجربته الفنية يستند الهيطوط إلى دراسته الأكاديمية، لكنه يغترف على الدوام من حقول مجاورة أبرزها الفلسفة التي درسها أيضاً في المرحلة الجامعية متخصصاً في علم النفس، كما أنه ينهل من عوالم الشعر بحكم قراءاته واهتماماته وصداقاته لمجايليه من الشعراء. غير أن رافداً أساسياً يؤثر في أعماله الفنية هو الطفولة، بحكم اشتغاله في تجارب عديدة مع الأطفال ضمن ورشات ودورات تدريبية، لذلك تبدو الطفولة عنصراً موجهاً لمعرضه الأخيرة "شفافيات"، إنها ذاتها الحقل الأكثر شفافية، والمتشكل من منحدرات الدهشة والحنين.

المزيد من ثقافة