ملخص
لا يمكن الحديث عن العدالة بكل صورها ومنها العدالة الاجتماعية في ظل استمرار النزاعات العسكرية والسياسية والظروف الصعبة التي تؤدي إليها. ففي ظل الحروب، يصبح البحث عن الأمن والغذاء والدواء أولويات قصوى تسبق العدالة الاجتماعية بمراحل، وفي مناطق النزاع يحرم العمال من حقوقهم وتهدر كرامتهم، ويتحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب يستنزف الموارد، تاركاً الطبقات العاملة في مواجهة أعباء لا قبل لها بها.
تعد العدالة الاجتماعية من أكثر المفاهيم شعبية بين سكان الأرض، لكنها في الوقت نفسه من أكثرها بحثاً عن تعريف موحد أو مفهوم تتفق عليه الغالبية. ولأن "العدالة" كلمة محببة للنفوس، و"الاجتماعية" اسم على مسمى إذ تتصل بالمجتمع، أي مجتمع يعيش فيه البشر، فإن الجميع اتفق على شيء واحد ألا وهو محبة المسمى واحترام المعنى أياً كان.
التعريف الأكثر شيوعاً واتفاقاً أن العدالة الاجتماعية ترتكز على قيم الإنصاف والمساواة واحترام التنوع، والحصول على الحماية الاجتماعية وتطبيق حقوق الإنسان في جميع مجالات الحياة، بما في ذلك مكان العمل.
عربياً، مطلب العدالة الاجتماعية كان في القلب من الرياح المسماة "الربيع العربي" التي ضربت دولاً عدة في المنطقة عام 2011. وغالب الإدارات والحكومات في الدول العربية تقول إنها عملت أو تعمل، وإنها كثفت جهودها أو بصدد التكثيف لتحسين العدالة الاجتماعية في دولها. والمنظمات الأممية تعمل بلا كلل أو ملل، وأيضاً بلا نتائج ملموسة من أجل رصد تطور مفهوم العدالة الاجتماعية وتقييم مستوياتها، ودعم الخبرات الوطنية من أجل تحقيق مزيد منها.
أما الشعوب فتراوح مواقفها ومفاهيمها في ما يختص بهذه العدالة، وذلك بين راض إلى راض إلى حد ما إلى ناقم، وصولاً إلى ناقم جداً. والثقافة والاقتصاد وترتيب الأولويات والظروف السياسية والموارد الاقتصادية، وحتى العادات والتقاليد تؤثر في مفهوم العدالة الاجتماعية وتتأثر بها.
اللافت أن كثراً باتوا يتفادون أو يتجاهلون أو يمعنون في عدم التطرق إلى العدالة لا سيما الاجتماعية، في ظل أوضاع عامة تقف على الضفة المقابلة والمناقضة لمفهوم العدالة في أبسط صورها.
وفي اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية الذي يحتفي به العالم خلال الـ20 من فبراير (شباط) من كل عام تحرص المنظمات الأممية على تذكير سكان الكوكب، لا سيما قادتها على بناء عالم أكثر عدالة وإنصافاً، وحث جهود الجميع لمكافحة البطالة والإقصاء الاجتماعي والفقر.
هذا العام، تقف العدالة الاجتماعية نفسها في حيرة من أمرها، ويلوح بعض بأنها تشعر بقدر من الخجل وهي تطالب العالم بالاحتفاء بها، بينما مبدأ العدالة بصورة عامة والحق في البقاء على قيد الحياة والحق في وطن، مهددة بالغياب بصورة دائمة. ويشعر آخرون بأن الحديث عن العدالة الاجتماعية يبدو هذه الآونة وكأنه رفاهية لا يصح المجاهرة بها في ظل أوضاع معيشية مهددة بالانهيار بتفجر صراع أو استمرار حرب أو إجبار على تهجير، أو الإبقاء على شعوب حبيسة دائرة الفقر أو مربع العوز أو سوء الإدارة.
والعام الحالي، تتحدث منظمة الأمم المتحدة عن تعزيز التحول العادل نحو مستقبل مستدام عبر اقتصادات منخفضة الكربون، ودمج الاستدامة البيئية مع مفهوم العدالة الاجتماعية، بصورة تضمن حصول العمال والمجتمعات المهمشة على الدعم الذي يحتاجون إليه. وإذا كان الاحتفال الأممي هذا العام يركز على جهود إزالة الكربون والتحول الاقتصادي العادل، فإنه يؤكد أيضاً ضرورة السير في هذا النهج جنباً إلى جنب مع سياسات محاربة الفقر وتقليص التفاوت وإتاحة الفرص للجميع.
بحسب منظمة العمل الدولية، يتجلى مفهوم العدالة الاجتماعية في تطلع مفاده أن للجميع، أياً كان عرقهم أو معتقدهم أو جنسهم، الحق في العمل من أجل رفاهيتهم المادية، وتقدمهم الروحي في ظروف توفر لهم الحرية والكرامة والأمن الاقتصادي وتكافؤ الفرص مع الوضع في الاعتبار أن العمل ليس سلعة، وأن كرامة الإنسان قيمة جوهرية.
مصر... سيرة العدالة على كل لسان
في مصر، وباستثناء الأوراق البحثية وبعض مما يقال في برامج تلفزيونية واجتماعات وزارية، قلما تذكر عبارة "العدالة الاجتماعية" في الشارع، وإن كانت سيرتها على كل لسان. التضرر من غياب فرصة عمل مناسبة والتبرم من الفجوة الكبيرة بين ما يطلبه السوق وما حصل عليه الباحث عن العمل من تعليم وتدريب، والشكوى من ضيق ذات اليد والحسرة بسبب شيوع الوساطة وانتشار الرشوة شرط إنجاز بعض المعاملات الحكومية بين وقت وآخر، والقلق المستمر من ارتفاع الأسعار لا سيما الغذائية مع تغيرات عدة تطرأ على منظومة الدعم العيني وغيرها أحاديث ينضح بها الشارع، لكن دون التفوه بعبارة "العدالة الاجتماعية".
نبض الشارع يقول كثيراً عن التمني أو المطالبة بقدر أوفر من العدالة الاجتماعية، حتى محتوى الدعاء الذي تتمتم به الشفاه وترتفع به الأيدي في اتجاه السماء، فإنه عامر بالاشتهاء والاشتياق لمزيد من العدالة الاجتماعية.
يبدو هذا غريباً في مصر، وهي التي اعتنقت شعار وصياح وهتاف "عيش، حرية، عدالة اجتماعية" قبل أعوام، وتحديداً أثناء أحداث يناير (كانون الثاني) عام 2011، لكن ذكاء المصريين الفطري العابر للشهادات التعليمية والمتخطي القيود الثقافية والحدود التطبيقية ربما ربط بين ما آلت إليه أمور الأحداث خلال ذلك العام وما يتصل بها من هتافات وشعارات من جهة، ومطالبهم الحقيقية القائمة على أوجاعهم الفعلية.
تسألهم في الشارع اليوم عن رأيهم في العدالة الاجتماعية الحالية، فتأتيك الإجابات مذهلة. "تمام التمام" و"عال العال" و"زي الفل" و"رضا، والحمد لله". وتسأل عن درجة الرضا عن مستوى المعيشة وفرصة العمل ومجالات الترقي، فتباغتك عبارات تعكس غضباً وتفاصيل لا تشي إلا بكمد. وتعاود الكرَّة وتسأل "ما العدالة الاجتماعية؟" فتأتي الإجابات مختلفة بين تقسيم الثروات والموارد بالحق والمستحق بين الجميع، وتضييق الخناق على الفقر وأسبابه، وفتح باب التعيينات في المصالح الحكومية دون وساطة أو محسوبية، ومصادرة أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء، وقائمة مكونات العدالة الاجتماعية الشعبية لا تنتهي.
ضبابية التعريف تجعل بعضاً يعتقد أن العدالة الاجتماعية تتحقق وتتألق وتكتمل بالضمان الاجتماعي. وعلى رغم أن المسؤولين أنفسهم لا يدعون ذلك، لكن يحلو لبعض أن يروج لذلك ربما أملاً في إغلاق باب الحديث عن العدالة الاجتماعية.
وقبل أيام، قال نائب رئيس مجلس الوزراء ووزير الصحة والسكان خالد عبدالغفار إن مصر تولي أهمية كبيرة للتنمية المستدامة، وأن الضمان الاجتماعي عنصر محوري لتحقيق العدالة الاجتماعية، وذلك في إطار حديثه عن النظام الاجتماعي المتكامل الذي تعمل الحكومة المصرية على بنائه.
وتطرق عبدالغفار إلى التزام مصر منذ عام 2014، الذي تولى فيه الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مهام الرئاسة، بالتوسع في برامج الحماية الاجتماعية والتأمينات، لا سيما لفئات العمالة غير المنتظمة. مشيراً إلى أن عدد المستفيدين بلغ ما يزيد على 22 مليون مصري. وتطرق كذلك إلى منظومة التأمين الصحي الشامل التي بدأت عام 2019، باعتبارها إحدى صور الضمان الاجتماعي.
برامج الضمان الاجتماعي وأنظمة التأمين الصحي تعضد تحقيق العدالة الاجتماعية، لكن المفهوم لا ينتهي هناك بل يبدأ. يبدأ، وأحياناً يختفي أو يتوارى ثم يعود ليفرض نفسه عبر مطالبات من المصريين، وأيضاً إنجازات وقرارات تفعلها الدولة.
وخلال الأشهر القليلة بعد أحداث يناير عام 2011 التي عرفت أيضاً بأحداث "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية"، قبل أن يستغلها المستغلون أو ربما تتكشف جوانب مخفية فيها، كان بعض يشير إلى العدالة الاجتماعية باعتبارها "الفريضة الغائبة" في المجتمع المصري على مدار ما يزيد على نصف قرن.
واليوم، تقع العدالة الاجتماعية في حيرة من أمرها في مصر. وأحياناً، يبدو وكأن المصريين قطعوا شوطاً لا بأس به في تحقيق مبادئ العدالة الاجتماعية من أنظمة ضمان وتأمين صحي وقضاء على العشوائيات السكنية ومحاولات عتيدة ومتعثرة للارتقاء بجودة التعليم وغيرها. وفي أحيان أخرى، يبدو وكأن السبل تقطعت بهم، فتطل أزمات اقتصادية قاسية ومتلاحقة برأسها لتهز ثقة كثر في ما تحقق وما هو آت.
قبل نحو سبعة أعوام، وضع "المركز المصري لبحوث الرأي العام" (بصيرة) لقياس العدالة الاجتماعية في مصر. وبدت الفكرة رائعة، لا سيما أن مفهوم العدالة الاجتماعية ومؤشرات قياسه تخضع لاعتبارات ثقافية واجتماعية واقتصادية عديدة تختلف من دولة إلى أخرى. واعتمد المؤشر إلى عاملين رئيسين هما رأس المال البشري ويحوي مؤشرات فرعية مثل التعليم والصحة والثقافة والتشغيل والحصول على المعلومات، والثاني رأس المال الاجتماعي ويضم العدالة والمشاركة والرضا والثقة والأمان. وجرى تقسيم نقاط المؤشر من واحد إلى 10 تصاعدياً، إذ واحد قليل جداً و10 جيد جداً. ووقتها، كان مؤشر العدالة الاجتماعية في مصر 2.28.
علل مدير المركز ماجد عثمان ذلك بكثرة الفجوات في مصر، من فجوة في الثروة والنوع الاجتماعي ومكان الإقامة وبين الأجيال وغيرها. وقال إن هذه الفجوات تؤدي إلى اختلالات كبيرة بين المصريين، مثل فرص الالتحاق بالجامعات وذلك على حسب القدرات المادية. وأشار إلى "فقه الأولويات" في حينها، مثل دعم الدولة للفقراء خلال شهر رمضان في ذلك العام بمبلغ 500 مليون جنيه كانت تكفي لسداد رسوم رياض الأطفال لـ250 ألف طفل، واستيراد ياميش رمضان بما يزيد على 500 مليون جنيه كانت تكفي لبناء آلاف الفصول الدراسية، وهو ما يعني أن إنجاز مزيد في ملف العدالة الاجتماعية مسألة اختيار أولويات.
واليوم، يصعب قياس المؤشر في مصر لأسباب عدة، بينها التقلبات الإقليمية الحادة التي أثرت مباشرة في المجتمع المصري اجتماعياً واقتصادياً، وألقت بظلال ثقيلة على أولويات البناء والتنمية والعدالة الاجتماعية، إضافة إلى عدم وجود أدوات قياس الأداء.
وقبل أسابيع قليلة، احتفت مصر بانضمامها إلى "التحالف العالمي من أجل العدالة الاجتماعية"، الذي أطلقته منظمة العمل الدولية لتحقيق قدر أكبر من التواؤم بين الاقتصاد والبيئة والمجتمع وتحقيق السلام ورفع مستويات المعيشة.
وقطعت مصر أشواطاً في ملف العدالة الاجتماعية على مدار العقد الماضي، لكن ضبابية تعريف المقصود بالعدالة مع تقلبات الإقليم مضافاً إليهما تقلص هامش التعبير وتعددية النقاش مع غياب مؤشرات القياس، تعرض ما تحقق لخطر الإنكار أو الدمج الظالم ضمن أزمة الاقتصاد.
الأردن... العدالة تسقط داخل الأزمات
خلطة مشابهة تعوق تقييم العدالة الاجتماعية من جهة، والمضي قدماً نحو تحقيق مزيد منها من جهة أخرى يشهدها الأردن. ووسط تسارع الأحداث العالمية ووقوع المملكة في محيط ملتهب، تتداخل الأزمات السياسية والاقتصادية على حساب حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية التي بات يراها مراقبون مجرد ترف في زمن تطغى فيه الشعارات والأولويات على الإصلاحات، وتتزاحم فيه الأولويات بين متطلبات الاستقرار من جهة والعدالة من جهة أخرى.
وكثيراً ما ردد الأردنيون مقولة "الأمن والأمان" في إشارة إلى اعتبارها الركيزة الأساس التي يقوم عليها الأردن، لكن كثراً يرون أن هذه السردية تضخمت على حساب قيم أخرى أهمها العدالة الاجتماعية، مما يؤدي إلى فجوة متزايدة بين السلطة والمواطن.
وفي بلد كالأردن تتزايد فيه الفوارق الاجتماعية يوماً بعد آخر، تشير البيانات إلى أن 40 في المئة من الأردنيين الأقل دخلاً لا يحصلون إلا على 15 في المئة فقط من الدخل القومي. وتتركز الثروة والاستثمارات في الناحية الغربية من العاصمة عمان التي تعد مسكن الأثرياء، بينما تعاني المحافظات الأخرى ارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وتصل نسبة الفقر في بعض المناطق الجنوبية للبلاد إلى أكثر من 25 في المئة. أما البطالة ووفق الأرقام الرسمية يتجاوز معدلها 22 في المئة بين الشباب، وتبلغ أقصاها بين الجامعيين وهو ما ينعكس سلباً على تكافؤ الفرص، إضافة إلى غياب سياسات التشغيل الفعالة.
أما العمالة غير المنظمة فتشكل نحو نصف إجمال القوى العاملة، وهو ما يعني أن شريحة واسعة من العمال محرومة من مظلة الحماية الاجتماعية، فضلاً عن تفاوت الفرص التعليمية الذي يخلق فجوة بين الطبقات الاجتماعية في الوصول إلى التعليم العالي.
وفي السياق السياسي، فإن الحديث عن العدالة الاجتماعية كثيراً ما يتراجع لمصلحة الخطاب الأمني، إذ تقدم أولوية الاستقرار على أي مطالب اجتماعية أو اقتصادية، وينظر إلى المطالبة بالحقوق باعتبارها "إثارة للفوضى". ويعرف المدير التنفيذي لـ"جمعية معهد تضامن النساء الأردني" منير دعبيس العدالة الاجتماعية بأنها "انتفاء أي ظلم أو قهر أو استغلال أو حرمان من الثروة أو السلطة أو أي مورد من موارد الحياة"، مؤكداً أن تحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب تطوير التشريعات والسياسات والممارسات والخطط والبرامج الحكومية، لتوفير الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بصورة متساوية ومن دون تمييز بين الجنسين.
ويعتقد مراقبون أن إتاحة الفرص العادلة للتعليم والتدريب أحد أسس العدالة الاجتماعية، لكنه أصبح أكثر صعوبة بحيث يستطيع المقتدرون فقط تأمين مستقبلهم الوظيفي، بينما تتقلص فرص أبناء الطبقات الأقل دخلاً. وتقول مفوضة الحماية في المركز الوطني لحقوق الإنسان نهلة المومني إن تحقيق العدالة الاجتماعية في الأردن يستوجب التركيز على ثلاثة محاور رئيسة، الأول يتعلق بتطوير منظومة تشريعية متكاملة تأخذ في الاعتبار مبدأ العدالة الاجتماعية، بحيث تكون واضحة الأهداف وشاملة لمختلف فئات المجتمع، مع مراعاة الفروق والحاجات الخاصة لكبار السن والنساء والأطفال وذوي الإعاقة.
ويرتبط المحور الثاني بوضع سياسات وطنية تحول العدالة الاجتماعية إلى نهج عملي من خلال برامج فعلية، مؤكدة أن أية سياسة عادلة ينبغي أن تستند إلى دراسات معمقة وتعتمد على توزيع منصف للموارد جغرافياً، لضمان بناء مجتمعات متماسكة وخالية من التهميش، والثالث يتمثل في ترسيخ سيادة القانون وضمان تكافؤ الفرص إلى جانب مكافحة الفساد والرشوة، باعتبارها عناصر أساس لتحقيق العدالة الاجتماعية بصورة فعالة.
ويؤكد المرصد العمالي الأردني أن ثمة فجوات في منظومة الحماية الاجتماعية داخل الأردن أثرت في العدالة الاجتماعية التي تراجعت بصورة ملموسة خلال العقود الماضية. ويرى المرصد أن السياسات الحكومية المنظمة للحماية الاجتماعية تقوم على توفير دخول منخفضة جداً للفقراء، لكن لا تعمل على الحيلولة دون وقوع مزيد من المواطنين في دائرة الفقر. ويعدد المرصد مظاهر ضعف العدالة الاجتماعية في الأردن، وفرص الوصول إلى الموارد التي تمكن أفراد المجتمع كافة من العيش بكرامة، مؤكداً أنها تتراجع عاماً بعد عام.
ويشار إلى أن معدلات البطالة العالية، لا سيما بين الشباب، ومعدلات الفقر المرتفعة ومستويات الأجور المتدنية، مقابل ارتفاع مستويات أسعار مختلف السلع والخدمات، وعدم فاعلية سياسات العمل بعامة والتشغيل بخاصة، إلى جانب ضعف جودة التعليم والرعاية الصحية، وهشاشة منظومة الحماية الاجتماعية وعدم شموليتها تعد أدلة على ضعف العدالة الاجتماعية.
ويضيف المرصد عاملاً إضافياً بفرض منظومة ضريبية غير عادلة، إذ تشكل الإيرادات الضريبية غير المباشرة ما يقارب ثلاثة أرباع مجمل الإيرادات الضريبية دون تمييز بين فقير وغني.
وبدورها تشير دراسة عن العدالة الاجتماعية صادرة عن مؤسسة الملك حسين إلى أن ثمة تحديات تواجهها البلاد في تحقيق توزيع عادل للموارد والفرص بين المواطنين، لافتة إلى أن الفجوات الاقتصادية والاجتماعية لا تزال قائمة، مع وجود تفاوتات ملحوظة في الدخل ومستويات المعيشة بين مختلف فئات المجتمع.
وتتناول الدراسة دور السياسات الحكومية في معالجة هذه التحديات، وضرورة بذل مزيد من الجهود لضمان تحقيق العدالة الاجتماعية بصورة شاملة، وذلك عبر تبني سياسات تنموية مستدامة تركز على تحسين جودة التعليم والرعاية الصحية وتعزيز فرص العمل، وبخاصة داخل المناطق النائية والأقل حظاً.
وتركز الدراسة على ضرورة تعزيز المشاركة المجتمعية وتمكين الفئات المهمشة، بمن في ذلك النساء والشباب والأشخاص ذوو الإعاقة، لضمان تحقيق تنمية شاملة ومستدامة مع تعزيز الشفافية والمساءلة في المؤسسات الحكومية، وتطوير سياسات تهدف إلى تقليل الفجوات الاجتماعية والاقتصادية، لضمان توزيع أكثر عدلاً للموارد والفرص بين جميع المواطنين، وذلك أملاً في تقديم نموذج للعدالة الاجتماعية في الأردن.
لبنان... خارج مظلة العدالة
نموذج لم يكتب له الاكتمال هو ما جرى في لبنان الذي يراه بعض اللبنانيين نموذجاً لـ"اللا عدالة الاجتماعية"، بعد أن أثخنت الحروب المتعاقبة جروح المواطن العادي. وجاءت الحرب الإسرائيلية المدمرة أخيراً لتقصم ظهر البلاد التي تعاني انهياراً مالياً واقتصادياً غير مسبوقين.
يأسف المتخصص في مجال العلوم السياسية بالجامعة اللبنانية الأكاديمي إيليا إيليا من "عدم اكتمال نموذج العدالة الاجتماعية في لبنان"، بسبب المنظومة الطائفية القائمة على الزبائنية السياسية التي تشكل تحدياً لطرح العدالة الاجتماعية في مجتمع تعددي، بسبب عدم تكافؤ الفرص بين الجميع، و"استلهام الأساليب الشعبوية من قبل السلطات السياسية المتلاحقة".
ويتحدث الباحث الاقتصادي بلال علامة عن تهاوي دولة العدالة الاجتماعية في لبنان، مشيراً إلى "اللغط السائد في لبنان، إذ تستخدم هذه العبارة لدى بعض للإشارة إلى النظام الشيوعي والاشتراكي، وهذا غير دقيق. ويتمثل في الدول التي تؤمن حق السكن والطبابة والتعليم"، علماً أن هذه الأسس الثلاث ضربت في لبنان بسبب الأزمات المتكررة وسوء الحكم والحوكمة، وصولاً إلى الانهيار والفساد وحكم الأحزاب.
وفي المقابل يؤصل إيليا تاريخ "دولة العدالة الاجتماعية" في لبنان، فقد برزت محاولات "يتيمة" خلال عهدي الرئيسين كميل شمعون وفؤاد شهاب اللذين حاولا وضع أسس دولة المؤسسات ومظلة الحماية الاجتماعية، وشكل إنشاء الجامعة اللبنانية نقطة الانطلاق فأصبح التعليم حقاً للجميع، بعد أن كان مقصوراً على المقتدرين مادياً. ومن ثم جاء تأسيس الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، ليؤمن العناية الطبية والخدمات الصحية لأكثر من نصف الشعب اللبناني.
وجاء تأسيس "مجلس الخدمة المدنية" ليشكل ضمانة لأصحاب الكفاءة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، من أجل تبوء المراكز العليا في الدولة اللبنانية. واكتملت هذه المنظومة الرعائية مع تأسيس "مؤسسة الإسكان" التي أتاحت المجال أمام المواطنين محدودي الدخل لتملك مسكن وتأسيس عائلة. وأدى نشوء هذه المؤسسات إلى "شعور الإنسان بأنه يعيش في دولة" بحسب وصف إيليا الذي يشيد بفاعلية "جهاز التفتيش" وعمل المؤسسات الرقابية قبل عام 1975.
وشكلت الحرب الأهلية اللبنانية محطة فاصلة في مسار دولة الرعاية الاجتماعية، إذ هدم بنيان العدالة على يد الأحزاب السياسية المتناحرة والميليشيات، وسيطرتها على الإدارة بعد انتهاء الحرب وتخصيص المؤسسات والوزارات للطوائف والأحزاب وليس لجميع مكونات الشعب وصولاً إلى إنهاك الشعب اللبناني، ووقوع الانهيار وتفكك العقد الاجتماعي، إذ عجزت الدولة عن تأمين الحد الأدنى من الحماية والرعاية لأبنائها ودخول البلاد في لعبة المحاور الإقليمية، وجاءت الحرب الإسرائيلية الأخيرة لتدمر أجزاء كبيرة من الجنوب والبقاع وبيروت. ويذكر الوضع بما جرى داخل ألمانيا التي منعت كل الضالعين في الحرب من الالتحاق بمؤسسات الدولة، لعدم تسلل العقلية الصراعية إلى داخل النظام.
وشهدت دولة الرفاه الاجتماعي تآكلاً في لبنان والعالم أجمع، ويقدم الباحث في الاقتصاد السياسي حسن شري تشخيصاً انطلاقاً من الواقع اللبناني، إذ ضعف النظام الصحي بعد ما هاجرت الكوادر الطبية وتحولت الرعاية الصحية إلى خدمة متاحة فقط لمن يستطيع تحمل الكلف في المستشفيات الخاصة، مع ارتفاع كلفة التأمين الصحي الخاص، وكذلك تراجع مستوى التعليم الرسمي. واستشهد شري بـ"تشكيل الحكومة الحالية التي يترأسها القاضي نواف سلام التي أبرزت شح الطلب على حاملي الشهادات الرسمية".
وينبه حسن شري إلى المؤشرات الاقتصادية التي أدت إلى انهيار فرص العدالة الاجتماعية، فعلى مستوى السياسة النقدية والمصرفية تدهورت قيمة العملة الوطنية وانهيار النظام المصرفي، فيما مسألة توزيع الخسائر عالقة منذ أعوام عدة. أما على مستوى السياسة المالية فيبرز غياب نظام ضريبي منصف، إذ تأتي الإعفاءات الضريبية للنافذين سياسياً إضافة إلى غياب إطار واضح معني بإعادة هيكلة الدين، بما في ذلك عدم القدرة على جلب المانحين من القطاع الخاص على طاولة المفاوضات.
وجاءت الحرب الإسرائيلية المدمرة على لبنان لتقوض فرص الاقتصاد المنتج، من خلال إحراق المساحات الزراعية والحرجية وما يعنيه ذلك من تدمير للقطاع الزراعي. إلى جانب تقويض القدرة التنافسية للقطاع الصناعي جراء انخفاض القدرة الشرائية وأثرها في الطلب المحلي، وارتفاع كلفة الإنتاج التي يأتي في مقدمها زيادة أسعار المحروقات.
ولم يقتصر الانهيار على المؤسسات الرسمية إنما تجاوزها إلى تفكك النقابات المخولة بالدفاع عن العمال التي تعد من الفئات الاجتماعية الأكثر هشاشة. ويؤشر الباحث في القضايا النقابية محمد قاسم إلى أن الحركة النقابية مرت بأربع مراحل في لبنان أودت بتاريخ العمل النقابي المؤثر، طامحاً أن تستعيد الحركة النقابية أنفاسها، وتعود لتلعب دورها من أجل تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين، وإعادة الاعتبار إلى الدور الرعائي للدولة.
أدت الحروب المتكررة والانهيار المالي والاقتصادي وغياب مظلة الحماية إلى آثار عميقة في نموذج دولة الرفاه، أو الرعاية الاجتماعية. ويلاحظ العالم النفسي فضل فقيه "انعكاس انعدام العدالة على شعور الأفراد بالظلم والقهر، وبأنها وحيدة من دون وجود مدافع عنه بسبب غياب الدولة بوصفها حامي الحقوق"، لافتاً إلى استعادة نظام "استيفاء الحق بالذات إذ يلجأ الفرد للاقتصاص من أخصامه بالقدر الذي يشاء بفعل غياب الطرف المحايد والقضاء المستقل".
ويحذر فقيه من استعادة تجربة "نشوء الحركات المسلحة اللبنانية تحت ذريعة إنصاف هذه الفئة الطائفية أو تلك، واستعادة حقوقها المهدورة والتحجج بالمظلومية، واستخدام أسلوب أفضل وسيلة للدفاع هي الهجوم". ويسلط الضوء على تصاعد الشعور بالنقمة الاجتماعية إثر الانهيار المالي والاقتصادي والحرب المدمرة، إذ تؤدي الضغوط إلى استعادة المشاعر الكامنة داخل الأفراد وخروج المكبوت، مشيراً إلى "تأثير الحروب في ظهور الجماعات المتطرفة التي تستغل المكبوت الجماعي لتثبيت وجودها، أو من جهة أخرى البحث عن نظام آخر يؤمن العدالة، وهذا ما يعرف بالميل إلى الهجرة للحصول على العدالة والعيش في بيئة تسودها النزاهة والاعتراف بالحقوق".
"إعادة بناء دولة الرفاه ليست رفاهية، بل تتطلب إصلاحات هيكلية عميقة تضع حقوق المواطنين والمواطنات فوق مقتضيات استمرارية النظام الطائفي"، بحسب الدكتور حسن شري، فيما يرسم الدكتور كريم ضاهر مساراً يبدأ بإعادة الثقة بين الدولة والمواطنين والمكلفين، وبين المواطنين أنفسهم ضمن عقد اجتماعي جديد يحدد الأولويات. ويتحدث عن المسعى التعاضدي والهوية الاقتصادية أي الاتفاق على بناء دولة راعية تمنح مواطنيها فرصاً متساوية، وتسمح لهم بالمبادرات الفردية والعمل الحر، والاقتصاد المنتج مع حوافز لخلق فرص عمل. ويضاف إلى ما سبق ترسيخ مبدأ التنمية المستدامة، وحزام أمان اجتماعي لتفادي الفوارق الكبيرة مما يستلزم وعياً لدى المواطنين، معبراً عن أمله بقيام دولة راعية من خلال تضافر الجهود بين القطاعات الإنتاجية والمسؤولين الجدد.
غزة... ترف وحلم لا طاقة له
الأمل في أن تكون الدولة راعية، والحديث عن تضافر جهود بين شتى القطاعات والأطراف يبدو ترفاً شديداً، بل وحلماً لا طاقة لأحد بأن يحلم به في غزة. والعمل حتى لو كان مضنياً وظروفه ظالمة فإنه غير مضمون أصلاً.
ويصرخ صاحب العمل على العامل بلال "جر العربة بسرعة لا داعي للحديث كثيرا، وإذا لم يعجبك ذلك عليك الرحيل فوراً. هناك ألف عامل يمكنه القيام بمهامك". دفع "بلال" العربة في صمت تام لكن الغضب كان قد تملكه تماماً. إنه غضب العاجزين المجبرين، إذ الخيارات ترف.
صوت انفجارات القصف الإسرائيلي على أنحاء قطاع غزة، ذكر بلال بالحرب وأجبره على الصمت، فلا فرصة عمل متاحة في ظل الأحداث السياسية والعسكرية الدامية، ولا الأمل في غد أفضل يلوح في الأفق. وبعد أن ابتعد من أعين صاحب العمل تمتم "في الحرب غابت العدالة الاجتماعية، وأصبح الحديث عنها ترفاً".
ويعمل بلال لدى شخص يمتلك عدداً كبيراً من عربات الجر اليدوية، مهمته حمل البضائع على هذه العربات البدائية، ودفعها إلى مكان آخر. ويتقاضى مقابل يوم عمل كامل يمتد نحو 12 ساعة ما يعادل 10 دولارات فحسب.
الدولارات الـ10 لا تكفي، ففي زمن الحرب ارتفعت الأسعار كثيراً وأصبحت تفاصيل الحياة اليومية بالغة الصعوبة لدرجة الاستحالة، وعلى رغم ذلك يقبل بها لكن ما لا يستطيع تحمله هو معاملة صاحب العمل الفظة.
يمثل بلال الآلاف من الشباب من مهدوري الحقوق من أهل غزة. ويقول "تسبب انهيار النظام والقانون في انهيار العدالة الاجتماعية. قبل الحرب كانت وزارة العمل ومؤسسات حقوق الإنسان والمجتمع المحلي حريصة على تطبيق العدالة الاجتماعية، لكن اليوم أصبح التفكير في أي نوع من العدالة ترفاً لا يملكه أحد".
ويقول إن مفهوم العدالة الاجتماعية بكل حيثياته سبر بالكامل في غزة، فلا عمل لائقاً أو رواتب مناسبة أو حقوقاً اجتماعية أو حواراً بين العمال وأصحاب الأعمال، كل شيء اندثر في زمن الحرب.
في غزة، أثرت الأحداث السياسية والعسكرية والأمنية سلباً في جميع أنواع العدالة، لدرجة أن البحث عن العدالة يعرض لاضطهاد إضافي. ويزداد وضع العدالة مأسوية بتوسع رقعتها، فلم تعد قاصرة على انتهاكات إسرائيل ضد سكان غزة، بل هدر أهل غزة لحقوق بعضهم بعضاً الاجتماعية.
وفي ظل الحرب الدامية انهار النظام الاقتصادي، وأصبح العمل مقتصراً على القطاع التجاري في البيع والشراء، وبعض الحرف المتداخلة مع هذا المجال. حتى فرص العمل في منظمات دولية إغاثية تفتقد تطبيق مبدأ العدالة الاجتماعية.
فاتن، ممرضة في منظمة دولية نشطت داخل غزة خلال فترة الحرب، تقول "تعاقدت معي المؤسسة وأبلغتني أن العمل يومياً سبعة أيام في الأسبوع بلا راحة، وأن العمل 16 ساعة يومياً، وبسبب الحرب وحس المسؤولية مني تجاه المجتمع قبلت".
وتضيف أنها مرضت أثناء العمل وكانت في حاجة إلى بعض الراحة، إضافة إلى حاجة أطفالها إليها ولو ليوم واحد، لكن إدارة العمل رفضت. وبحثت عن فرصة عمل أخرى وبالفعل وجدتها، "لكن جهة العمل الأولى رفضت استقالتي وهددوني. ظننت أن المنظمات الدولية أكثر وعياً واحترماً بمبدأ العدالة الاجتماعية، لكن يبدو أنه في زمن الحرب كل الحقوق مهدرة".
عندما دخل اتفاق وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ قررت ياسمين العودة إلى شمال غزة، لكن المنظمة التي تعمل معها رفضت السماح لها بذلك، وعدت عودتها ولو للاطمئنان على ذويها، لا سيما أن والدها قتل هناك أثناء الحرب، خرقاً لاتفاق العمل بينهما، وأبلغت الإدارة السيدة أن تغيُّب أي يوم يعرضها للفصل نهائياً.
مجموعة العدالة بين الجنسين والسكان والتنمية الشاملة في "لجنة الأمم الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا" (الإسكوا) تؤكد أن العدالة الاجتماعية في غزة أصبحت شيئاً من الترف. وذكرت في تقرير أن تحقيق هذه النوع من العدالة بات غائباً تماماً داخل غزة بسبب الحرب وانهيار النظام والقانون.
ويقول الباحث الاجتماعي طلال أبو ركبة إن العدالة الاجتماعية غابت عن غزة خلال فترة الحرب، ولن تعود إلا بعد فترة طويلة جداً، أي بعد استقرار الأوضاع السياسية والاقتصادية والأمنية ولحين عودة النظام القانوني، مضيفاً "أصبح من الترف الحديث عن العدالة الاجتماعية في غزة. هنا الناس مطحونون ومنشغلون في أمور تبدو لهم أكثر أهمية. لا مجال للمطالبة بحقوق العمال والعلاقة الإيجابية وغيرهما، بينما كل مناحي الحياة في القطاع تتعرض لانتهاكات جسيمة".
السودان... العدالة رفاهية في زمن الحرب
ومن غزة إلى السودان وصراع من نوع آخر، لكن تقلبات شبيهة في قائمة الأولويات جعلت العدالة الاجتماعية في ذيل القائمة، وذلك بعد الأمن والغذاء والاستقرار وضمان وجود سقف يؤوي السكان. ويقول عضو المكتب التنفيذي لمحامي الطوارئ في السودان مصعب حسن صباحي إن المشكلات السياسية والعسكرية والأمنية تؤثر سلباً في كل أنواع العدالة سواء الجنائية أو البيئية، وبصورة أكبر العدالة الاجتماعية. مضيفاً "في أوقات الحروب والأزمات تكون الأولوية لكل ما يتعلق بالأمن والاستقرار وذاك أكثر من قضايا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما يجعل العدالة الاجتماعية نوعاً من الرفاهية".
وأشار صباحي إلى أن غياب الاستقرار السياسي يؤدي إلى تدهور الأوضاع في سوق العمل وعدم استقراره، من ثم تكون هناك تأثيرات سلبية مباشرة على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وذلك بارتفاع معدلات البطالة واتجاه أصحاب العمل للاستعانة بالعمالة بصورة موقتة وعشوائية، مما يؤدي إلى ضياع حقوق العمال.
وأوضح أن الأزمات الاقتصادية تجعل الرواتب العالية لا قيمة لها، إذ تتآكل بسبب التضخم وارتفاع كلفة المعيشة. وتؤدي هذه الأزمات إلى تراجع فرص التعليم والتدريب، والحد من قدرة الأفراد على تحسين أوضاعهم والحصول على حقوقهم الاقتصادية بصورة متساوية، فضلاً عن انعدام الحوار بين العمال وأصحاب العمل، لأنه غالباً تكون الأجواء مشحونة ومتوترة.
وأشار صباحي إلى أن "تحقيق العدالة الاجتماعية يتطلب ترسيخ سيادة القانون والمساواة بين الناس وعدم التعرض للانتهاكات، وإيجاد برامج دعم للفئات الأكثر ضعفاً، وهو أحد الإجراءات المهمة التي يجب اتباعها لتقليل الفجوة التي يخلفها غياب العدالة الاجتماعية، فضلاً عن تعزيز صيغ الحوار الاجتماعي بين العمال وأصحاب الأعمال، وذلك للوصول إلى بيئة عادلة ومحفزة، إلى جانب الاستثمار في التعليم لخلق فرص متساوية للجميع والاهتمام بمهارات الأفراد، وأن يكون هناك توجه لاعتماد مبدأ الشفافية ومكافحة الفساد".
ويرى المتخصص في الشأن الاقتصادي السياسي داخل الجامعات السودانية حسن بشير محمد نور أن "العدالة الاجتماعية مبدأ معقد للغاية، إذ يرتبط بالقيم الاجتماعية والأديان والنظم السياسية والاجتماعية، فهو يتدرج من مفاهيم الإنصاف ثم المساواة فالعدالة، لذلك يثار الجدل حوله وبخاصة في مجال العلوم الاجتماعية ذات العلاقة بالسياسة والاقتصاد والاجتماع وصولاً إلى الجوانب الثقافية والحريات العامة والحقوق الإنسانية المتعددة".
وعن المطلوب لتحقيق العدالة الاجتماعية، يقول رئيس مجلس أمناء هيئة محامي دارفور المكلف الصادق علي حسن إن ذلك "يختلف بحسب السياق، لكن هناك ضرورة للبحث عن سبل تحقيق العدالة الاجتماعية تحديداً بوسائل جديدة". وتطرق إلى ما سماه بما "تمارسه دول الغرب من ديمقراطية في بلدانها، وعبر شعارات هذه الديمقراطية وحقوق الإنسان، تنهب موارد الشعوب".
سوريا... معادلة صفرية
موارد الشعوب يجري نهبها بطرق عدة وعبر أطراف مختلفة. والعدالة الاجتماعية مثلاً في سوريا منقوصة حد المعادلة الصفرية ويشوبها كثير من المشكلات، ويرجع ذلك إلى أسباب عدة، وعلى رأسها كما تؤمن الغالبية من السوريين حكم آل الأسد، الذي يقولون إنه لم يبق في البلاد معاني للعدالة الاجتماعية التي صارت انتقائية وكيفية، ولا ينال جزءاً منها إلا المقربون. بمعنى آخر، العقد الاجتماعي مفقود في سوريا منذ عقود.
وتقوم نظرية العدالة الاجتماعية على إتاحة الفرص للجميع دون تفرقة، إضافة إلى ضمان حقوق التعليم والرعاية الصحية وغيرها للجميع دون النظر إلى الجنس أو المعتقد أو العرق أو الانتماء السياسي، ودون النظر إلى مدى ولائه وطاعته للحكم القائم، مما خلق مشكلات بالجملة تبلورت خلال الحرب الأهلية في سوريا بين عامي 2011 و2024، إذ صار المحظيون فقط هم من يتمتعون بتلك الامتيازات وصولاً إلى إفناء الطبقة الوسطى، وظهور الأثرياء الجدد من أمراء الحرب على حساب غالبية السوريين الذين يرزحون تحت وطأة الحاجة وانعدام الأمان الغذائي والتعليمي والصحي والمالي.
غياب العدالة الاجتماعية كان واحداً من أبرز الأسباب التي أدت إلى ثورة مارس (آذار) 2011، وسبقتها عقود من الظلم والمحسوبية والتجهيل وعدم المساواة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ناهيك بغياب حرية التعبير وحقوق الإنسان المنصوص عليها في الاتفاقات الدولية التي تشكل سوريا جزءاً منها، بما وقعت عليه سلفاً من اتفاقات لم تنفذها.
ما مرت به سوريا من أحداث دامية يجعل الحديث عن العدالة الاجتماعية ترفاً مبالغاً به، ترفاً تُلقى على عاتق الإدارة الجديدة مهمة تحقيقه بعد ترميم الوضع القائم. وعلى رغم أن الإدارة الجديدة تسلمت البلاد بموارد شحيحة جداً مما سيؤثر في مهمة إعادة الحقوق لأصحابها وانتشال من ارتطم بقاع الهرم الاجتماعي، فإن الآمال معقودة على تضافر الجهود المحلية إضافة إلى دعم الدول الإقليمية.
ومن حيث العمل، يعتمد السوريون بصورة كبيرة على الوظيفة الحكومية التي باتت لا تمنح أكثر من 20 دولاراً شهرياً، وهو رقم بالكاد يكفي مصروف بضعة أيام خلال الشهر. ولأن الإدارة الجديدة تسملت البلد بلا موارد، فقد عمقت هذه الثغرة بصرفها عشرات آلاف العاملين من وظائفهم، مما خلق جيشاً جديداً من العاطلين الذين انضموا إلى القابعين أسفل هرم الجوع والحاجة. وإن كان رقم 20 دولاراً ليس مغرياً لكنه كان المتاح، وكان على قلته يسدد جزءاً من المطلوب للاستمرار على قيد الحياة. أما حالياً فقد تبخرت تلك الدولارات ومعها حقوق العاملين الذين صرفتهم حكومة تصريف أعمال ليس من صلاحيتها الإقدام على أمر مشابه دستورياً وقانونياً.
وفي المقابل، يمكن لهؤلاء المفصولين من عملهم أو الحائزين إجازات قسرية غير مدفوعة الادعاء أمام محاكم الجزاء والمحاكم الإدارية، لكنهم يعلمون أن ذلك لن يثمر أو يؤتي نتيجة، فاكتفوا بالتظاهر في الشارع ورفع الصوت على منصات التواصل الاجتماعي، لكن دون أذن تصغى أو مسؤول يجيب.
كل تلك الإجراءات التعسفية مع حل النقابات والمنظمات والاتحادات وفصل العاملين وغيرها جعلت العلاقة معدومة، بل ومستحيلة من ناحية التواصل بين الرئيس والمرؤوس وعمقت الفقر والعوز، وهو ما لن تدرك الإدارة الجديدة خطورته إلا بعد مرور بضعة أشهر. وكل ذلك يترافق مع أزمة البنى التحتية وانعكاسها على السوريين، من قلة المستشفيات وارتفاع كلفة العلاج فيها بصورة جنونية مع غلاء المواصلات وانقطاع الكهرباء.
أبرز معوقات العدالة الاجتماعية في سوريا حالياً هي الفجوة الاقتصادية المرهونة بارتفاع نسبة البطالة، مع تدهور فادح في قيمة العملة المحلية هبوطاً من 15 ألف ليرة سورية إلى 7 آلاف مقابل الدولار، وهو ما يبدو جيداً لو كانت هناك قدرة شرائية لدى المواطن، لكنها معدومة فعلياً بسبب توقف الرواتب.
وبالنسبة إلى التعليم فإن تدمير كثير من المدارس وصرف عدد كبير من المعملين من أعمالهم، وتوقف التعليم أساساً في كثير من المناطق، أدى إلى انتشار الأمية بين الشباب والأطفال.
وسياسياً، فإن حكم الحزب الواحد (حزب البعث) على مدار ستة عقود جعل الحياة السياسية في سوريا ميتة إكلينيكياً، ولم يتحقق أدنى إصلاحات سياسية طالبت بها الثورة السورية على مدار 14 عاماً، ومن قبلها طالب بها "ربيع دمشق" مطلع القرن الحالي، وذلك قبل أن يعتقل معظم معارضيه الذين كانوا يأملون خيراً في الرؤية الديمقراطية للرئيس الشاب الذي تولى الحكم عام 2000 بشار الأسد.
كل ذلك تزامن مع وأد الصناعة والتجارة والزراعة، وعدم إحياء المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي كان من شأنها أن تسهم في إنعاش اقتصاد البلاد، وتحقيق قدر معقول من العدالة الاجتماعية، لكن حدث العكس.
الجزائر... التاريخ والعدالة في الجزائر
الجذور الأيديولوجية للسياسات الاجتماعية في الجزائر تعود إلى فترة ما بعد الاستقلال (1962)، حين تبنت الدولة نهجاً اشتراكياً يهدف إلى تحقيق العدالة الاجتماعية. وعلى رغم التحولات الكثيرة التي شهدتها البلاد، فإن هذا النهج لا يزال يؤثر في السياسات الاجتماعية الحالية.
تأثرت الجزائر بالأحداث السياسية الداخلية والخارجية، وهو ما انعكس على النظام القانوني والعدالة بصورة عام. ومن بين هذه التأثيرات فترات عدم الاستقرار السياسي، وهي اضطرابات سياسية أدت إلى تأخير أو إضعاف الإصلاحات، منها الإرهاب في تسعينيات القرن الماضي الذي أثر كثيراً في مفهوم العدالة، إذ جرى تبني سياسات أمنية صارمة، أثرت سلباً في الحقوق والحريات.
وتهدف فلسفة الدعم الاجتماعي إلى تقليل الفوارق الاجتماعية، وخلق توازن بين مصالح الأفراد في إطار سياسة اجتماعية عامة. وارتبط مفهوم الدعم الاجتماعي في الجزائر بمشروع الدولة الاجتماعية وشعار العدالة الاجتماعية. وتجسد ذلك في المواثيق المؤسسة للدولة، بداية من بيان أول نوفمبر كوثيقة مؤسسة للدولة الجزائرية المستقلة والحديثة تحت عنوان "بناء الدولة الديمقراطية الاجتماعية"، وانتهاء بمختلف الدساتير.
وجرت ترجمة ذلك عبر دعم قطاعات عدة لها علاقة بالخدمات الاجتماعية كالصحة والسكن والحماية الاجتماعية، والتحويلات الاجتماعية ودعم الطاقة، وهي قطاعات انسابت فيها مخصصات الدعم الاجتماعي في كل قوانين المالية على مر الأعوام والحكومات. ومع صدور القانون 84 - 17 خلال عام 1984 تحت عنوان "التدخلات العمومية" في المادة 24 من القانون، أصبحت مسألة الدعم الاجتماعي بنداً ثابتاً في قوانين المالية، كضرورة حتمية مؤكدة عدم تخلي الدولة عن كينونتها الاجتماعية.
ويوضح تقرير المجلس الوطني الاقتصادي والاجتماعي والبيئي حول التنمية الاجتماعية والبشرية، المكتسبات المحققة خلال الفترة 2019 - 2023 في مجال مكافحة الهشاشة المعيشية وتحقيق العدالة الاجتماعية عبر تبني سياسات مكافحة الفقر والحد من عدم المساواة، من بينها رفع الأجور ومنح التقاعد والمعاشات، وبرامج لمساعدة الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة والأسر المعوزة، وتمكين المرأة اقتصادياً.
يقول اختصاصي علم الاجتماع خالد بن فافا إن "العدالة الاجتماعية مطلب كل الشعوب، ومعناها الحقيقي أن يحصل كل فرد على ما يستحقه من المجتمع الذي ينتمي إليه، مقابل أن يقوم بدوره وواجبه المنوط به"، مشيراً إلى أن "العدالة الاجتماعية لن تتحقق إلا بتوافر أساسات بناء وتطور الدول، منها الأمن والوحدة الوطنية، وبدونهما يكون الحديث عن العدالة الاجتماعية غير ذي فائدة".
ومن جهته، يرى الإعلامي الجزائري موسى قاسيمي أن الدولة اتخذت جملة من الإجراءات لتحقيق العدالة الاجتماعية، مثل زيادة الرواتب التي استفاد منها العاملون في القطاعات الحكومية، وكذلك زيادة معاشات المتقاعدين ومنح الطلبة الجامعيين، إضافة إلى رفع قيمة الأجر الأدنى ومنح البطالة. ويقول إن جميعها قرارات تصب في خانة سعي الدولة إلى تحسين الوضع المعيشي والقدرة الشرائية للمواطن الجزائري.
ويشير قاسيمي إلى أنه على رغم ذلك فإن هذه القرارات لم تعد كافية في ظل الارتفاع الكبير في أسعار المواد الغذائية التي يعتمد عليها الجميع مثل البقوليات والخضراوات، وكذلك الخدمات. مضيفاً "توزيع الثروة بصورة عادلة يتم باتخاذ قرارات جريئة تفيد الجميع مثل تشييد مصانع ووحدات إنتاج وتشجيع الاستثمار، ومنح فرص أكبر للشباب لتفجير طاقاتهم والإسهام بصورة فعالة في خلق الثروة، وفرص العمل والخروج بصورة تدريجية من اقتصاد الريع. ويضاف إلى ذلك استمرار العمل بمبدأ تكافؤ الفرص، مع أخذ خصوصية كل منطقة في الحسبان لتعظيم الفائدة".
ويرى حسين زبيري المتخصص في علم الاجتماع والديموغرافيا في جامعة الجلفة، أن المطالبة بالعدالة الاجتماعية سببها التفاوتات الاجتماعية الكبيرة في المجتمع. موضحاً "نفتقد مبدأ المساواة بناءً على الجنس والجغرافيا وغيرهما. وما التدابير المعلنة والرسمية إلا دليل على عدم وجود عدالة اجتماعية. وعادة، يتأرجح الحديث عن العدالة الاجتماعية بين الرغبة في الكلام والترف الفكري، وبين ضرورة يظهرها الخطاب الرسمي، ونضال فئات اجتماعية ممثلة عن المجتمع المدني من جمعيات ونقابات عمالية".
ويضيف "هذه النضالات برزت في فترات عديدة، وتؤكد وجود فروق اجتماعية خاصة في ما يتعلق بتوزيع الثروة وضياع حقوق بسبب توزيع جغرافي، إذ تعاني فئات عريضة التهميش وعدم الاستفادة من الثروة بصورة عادلة مقارنة بسكان شمال مثلاً. والحركات الاجتماعية التي شهدتها بعض المناطق قبل أعوام هي ترجمة فعلية لغياب عدالة اجتماعية".
ويرى المتخصص الاقتصادي فارس هباش أن الحكومة أجرت عدداً من الإصلاحات معظمها يهدف إلى تحسين القدرة الشرائية للمواطن، وبناء نموذج اقتصادي قوي ومستدام بعيداً من التقلبات والهزات التي تؤثر سلباً في مستوى معيشة الجزائريين وقدراتهم الشرائية، مضيفاً أنه على رغم مبدأ الحفاظ على التوزيع العادل للثروة، فإنه يصعب تحقيق ذلك بصورة كاملة.
وأفاد بأن "تقييم الإصلاحات الاقتصادية وانعكاسها على العدالة الاجتماعية يقود إلى الحديث عن سياسة الدعم الاجتماعي التي تعد خطوة إيجابية على عدد من الصعد، فالحكومة حافظت على دعم المواد الأساس مثل الوقود والكهرباء والخبز والسكن وغيرها، مما يسهم في تخفيف آثار الأزمة الاقتصادية على المواطن".
وتابع "يمكن الحديث عن تحسين بيئة الاستثمار، وخلق فرص العمل من خلال دعم المؤسسات الناشئة والمقاولاتية بهدف خلق فرص عمل جديدة وتقليل نسبة البطالة، وكذلك بناء نموذج متوازن لتوزيع الاستثمارات بين مختلف المناطق، وهو ما يضيف بعداً تنموياً منصفاً للاستثمار".
وتطرق هباش إلى النظام الضريبي وفرض ضرائب أعلى على أصحاب الدخل المرتفع لتقليص الفجوة بين طبقات المجتمع، مع تكثيف جهود مواجهة التهرب الضريبي لزيادة موارد الدولة بهدف تمويل المشروعات الاجتماعية، وتحسين الخدمات الأساس مثل الصحة والتعليم والإسكان.
أكبر تحديات العدالة الاجتماعية في رأي هباش هي البطالة وحرمان بعض المناطق من نصيبها العادل من التنمية، والحاجة إلى تطوير القطاعات الصناعية، فلا تكون مقتصرة على قطاع المحروقات فحسب، إضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة وجميعها يعرقل بناء مجتمع متوازن الفرص.
تونس... رحلة البحث عن التوازن
جهود مماثلة تجري في تونس لضمان مجتمع متوازن الفرص. وكانت العدالة الاجتماعية واحدة من أهم القيم التي عملت عليها تونس بعد أحداث عام 2011 لبناء مجتمع متوازن ومزدهر، لا سيما أن تحقيق العدالة الاجتماعية يعني تعزيز التنمية المستدامة وتحقيق استقرار اجتماعي شامل.
الباحث في علم الاجتماع منذر عافي يقول إن "العدالة الاجتماعية في تونس تعتمد بالأساس على مبدأ تكافؤ الفرص، بحيث يتاح لكل فرد الوصول إلى الموارد والخدمات الأساس مهما كان جنسه أو طبقته الاجتماعية. وما جرى تحقيقه على أصعدة مثل التعليم والصحة يمثل خطوات مهمة نحو تحقيق هذا الهدف".
وعلى رغم ذلك يرى عافي أن هذه الجهود يجب أن تعزز خلال المرحلة المقبلة وبخاصة داخل المناطق الريفية والداخلية للبلاد، موضحاً أن "الفروق الاقتصادية والاجتماعية ما زالت سائدة بين المدن وبعضها بعضاً"، مؤكداً أن المرحلة المقبلة تتطلب تعزيز الحوار بين الفاعلين الاجتماعيين والمؤسسات الحكومية، مع التركيز على الاستماع إلى الفئات الأقل حظاً، إذ يسهم هذا التفاعل المستمر بين المواطنين وصناع القرار من فعالية السياسات العامة، ويضمن أنها تعكس الحاجات الحقيقية للمجتمع.
ويرى أن التفاوت في الدخل بين الأفراد وبعضهم والمناطق وبعضها يمثل تحدياً حقيقياً أمام تحقيق العدالة الاجتماعية، موضحاً أنه لتحقيق توزيع أكثر عدالة للثروة والفرص يجب أن يكون هناك اهتمام بتوجيه الاستثمارات إلى المناطق المهمشة، مع التركيز على تنمية البنية التحتية ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة التي تسهم في تعزيز فرص العمل، مؤكداً أن السياسات الاقتصادية التي تعتمد على الشفافية والمساواة في توزيع الموارد والثروة تلعب دوراً كبيراً في تعزيز العدالة الاجتماعية، من ثم تحقيق هدف المجتمع المتوازن.
ومن جانبه، يرى مؤسس مبادرة شبابية وسفير تونس في اتحاد الشباب العربي خير الدين الخليفي أن بناء دولة اجتماعية عادلة في تونس بمشاركة الشباب أمر ممكن، بل قد يكون حاسماً، فالشباب يشكلون شريحة كبيرة من المجتمع ولديهم القدرة على دفع التغيير نحو الأمام بطرق مبتكرة وطموحة، لكن هذا يتطلب تمكينهم وإتاحة الفرص لهم في صنع القرار، وضمان أن يكون لهم دور محوري في عمليات الإصلاح السياسي والاقتصادي.
ويشير إلى أن الشباب قادرون على المساهمة في بناء دولة اجتماعية عادلة من خلال الابتكار والتجديد، مضيفاً أنهم مؤهلون ليكونوا قادة في الحركات الاجتماعية والسياسية التي تطالب بالعدالة الاجتماعية والمساواة، إضافة إلى مشاركتهم في الانتخابات ومراكز صنع القرار.
ويرى الخليفي أنه يجب بذل مزيد من الضغوط عبر الاحتجاجات والحملات التوعوية والمبادرات المجتمعية، لأنها تمكن الشباب من التأثير في الحكومات ودفعها لتحقيق سياسات عادلة تتعلق بالتوزيع العادل للثروات وتحسين الخدمات العامة.
أما الباحثة سلمى الجلاصي فترى أنه لا يمكن فصل وضع العدالة الاجتماعية في تونس عما يجري في العالم. وتقول "في وقت يحيي فيه العالم اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، تعيش دول كثيرة أحداثاً عسكرية وأمنية وسياسية واقتصادية غير مسبوقة وكأنها تبشر بنهاية القيم القديمة التي قامت عليها العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، والمرتكزة على ما جاء في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من حقوق اقتصادية واجتماعية، وبما جاء في مواثيق الأمم المتحدة، وما نجم عنها من سياسات ومنظمات مثل منظمة العمل الدولية".
وتضيف "عاش العالم عقوداً على وقع الدفاع عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وعلى الحركات العمالية والاجتماعية، التي أدى كثير منها إلى قيام أنظمة ديمقراطية اجتماعية. وشهدنا موضة الأنظمة الاشتراكية والأحزاب اليسارية حتى في الدول الليبرالية، مما جعل الطبقة العاملة في مختلف الدول تحقق مكاسب عدة مثل العمل اللائق، والأجر المناسب، والحق في التعليم والتدريب والحق في الحماية الاجتماعية كالسكن والصحة والتنقل وغيرها".
وأوضحت الجلاصي أن هذا جعل بعض المفكرين يتحدث عن "برغزة" (من البرغوازية) العمال، إذ حققت الطبقة العاملة بفضل النقابات والمفاوضات صوراً من الرفاهية التي حجبت شيئاً من التناقض الطبقي. وانتُهج نموذج المجتمع الاستهلاكي الذي أوهم العمال بأنه يمكنهم العيش في رفاهية.
وتشير إلى أن هذا الوضع تغير أمام ما سمته "التغول المرتقب للذكاء الاصطناعي والذي لا تنظمه قيم رادعة، ويضاف إلى ذلك مجريات العالم العسكرية والسياسية والتي تدل على نهاية القيم القديمة، وبداية قيم جديدة مناقضة تماماً لمصالح الطبقة العاملة ولمصالح الشعوب المضطهدة والفقيرة، مما يستدعي إعادة التأسيس لقيم إنسانية جديدة محكومة بفكرة الكرامة الإنسانية والحرية والعدالة الاجتماعية والمساواة".
المغرب... عدالة اجتماعية رهينة
ومن تونس الباحثة عن قيم جديدة ترسخ منظومة العدالة الاجتماعية في ظل عالم متغير، إلى المغرب إذ لم تعد العدالة الاجتماعية موضوعاً نظرياً أو ترفاً فكرياً بل مطلب شعبي، مما دفع الدولة إلى سن استراتيجية حكومية تحت مسمى "الحماية الاجتماعية" أو "الدولة الاجتماعية"، هدفها تلبية حاجات المواطن وجعله قطب الرحى لكل تنمية وعدالة اجتماعية منشودة، غير أنها عدالة تظل رهينة بسياقات داخلية وخارجية من أحداث وأزمات عالمية تؤثر في مطلب العدالة الاجتماعية.
ويقول الناشط الحقوقي والباحث الاجتماعي عبدالإله الخضري إن المغرب خطا خطوات مهمة في سبيل تعزيز الحماية الاجتماعية، إذ جرى إطلاق مشروع تعميم الحماية الاجتماعية عام 2021، وهو مشروع يسعى إلى إدماج ملايين المغاربة في أنظمة التغطية الصحية والتقاعد. وشهد المغرب تطوير آليات دعم اجتماعي مثل برنامج "تيسير" لدعم التعليم، وبرامج للتشغيل مثل "انطلاقة" لتعزيز المقاولات الصغيرة، إضافة إلى برنامج الدعم المباشر.
واستدرك الخضري أنه بين إطلاق البرامج وتقييم الحصيلة هناك بون شاسع يدفع إلى الاعتراف بأن العدالة الاجتماعية بالمغرب لا تزال تواجه تحديات هيكلية، إذ إن نسبة البطالة على الصعيد الوطني بلغت 21.3 في المئة حسب تقرير مندوبية التخطيط، فيما تشير إحصاءات البنك الدولي إلى أن البطالة بين الشباب المغربي تجاوزت 36 في المئة العام الماضي، مع ضعف واضح في جودة التكوين المهني وفرص العمل اللائق، ثم إن الهوة الاجتماعية والاقتصادية لا تزال عميقة بين المناطق الحضرية والقروية، حيث يعيش نحو 15 في المئة من سكان الأرياف تحت عتبة الفقر.
وفي رأي الخضري فإن احترام حقوق العمال وتعزيز الحوار الاجتماعي يشكل تحدياً مستمراً، إذ تعكس الاحتجاجات المتتالية التي تعرفها الطبقة العاملة استمرار الانتهاكات المتعلقة بالرواتب غير العادلة وظروف العمل السيئة في بعض القطاعات، إضافة إلى بعض التضييقات التي يتعرض لها الإجراء خلال ممارسة حقهم في الإضراب.
وشدد المتحدث على أن الحكومة المغربية مطالبة بإعادة النظر في السياسات الاقتصادية والتشغيلية، من خلال تبني مقاربة شاملة تركز على إصلاح التعليم والتكوين المهني، وتشجيع الاستثمار في القطاعات المولدة لفرص الشغل، وتعزيز الإدماج الاقتصادي للفئات الأكثر تضرراً، وبخاصة الشباب والنساء وحاملي الشهادات، وكذا معالجة إشكالية الشغل الناقص وضمان بيئة عمل توفر أجوراً لائقة وحماية اجتماعية للعاملين.
وخلص الخضري إلى أن "تحقيق العدالة الاجتماعية في أي بلد يتطلب نظاماً مؤسساتياً مبنياً على قواعد الديمقراطية والنزاهة والشفافية وربط المسؤولية بالمحاسبة"، مستدركاً أن التحديات التي تواجه المغرب بهذا الخصوص بنيوية ومعقدة "نتيجة مظاهر الفساد وافتصاد الريع، وتغول لوبيات الإقطاع واحتكار الفرص"، وفق تعبيره.
ويلفت المتخصص في علم الاجتماع ومدير مختبر التخصصات البينية في العلوم الاجتماعية بجامعة أغادير زهير البحيري إلى أن اقتصاد المغرب مرتبط بصورة وثيقة بالاقتصاد العالمي، لذا فهو يتأثر بصورة مباشرة بارتفاع أسعار المحروقات والمواد البترولية وانخفاض قيمة الصادرات، واضطرابات سلاسل التوريد العالمية الشيء الذي يفضي إلى ارتفاع معدلات التضخم، مما يزيد من كلف المعيشة ويفاقم حدة التفاوتات الاجتماعية.
وسجل البحيري أن "المنطقة المغاربية والشرق الأوسط ودول أفريقيا جنوب الصحراء تشهد توترات أمنية وجيوسياسية متصاعدة، مما يؤدي إلى تدفق اللاجئين والمهاجرين نحو المغرب"، مردفاً أن "هذا الأمر يوجه المجهودات إلى التركيز على الاستجابة للأزمات الإقليمية والعالمية بدلاً من معالجة القضايا الداخلية المتعلقة بالعدالة والرفاه الاجتماعي، ويزيد هذا التدفق الضغط على الخدمات الاجتماعية المتعلقة بالصحة والتعليم والإسكان والعمل، ويؤثر كذلك في فرص تقليل الفوارق المجالية والاجتماعية.
وتابع "في ظل هذه التحديات، قد يرى بعض أن الحديث عن العدالة الاجتماعية أصبح مسألة رفاهية لا تناسب الظروف المشار إليها واللا يقين المتزايد، إلا أن هذا التصور يغفل حقيقة أن العدالة الاجتماعية ليست مجرد مبدأ أخلاقي، بل هي شرط أساس لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي، لأن التفاوتات والفجوات الواسعة قد تؤدي إلى تفاقم الاحتقان الاجتماعي، وتهدد الأمن والاستقرار على المدى الطويل.
وأفاد البحيري أنه "على رغم هذه التحديات التي أثرت سلباً في كثير من دول العالم، فإن المغرب استطاع في جزء كبير تحويلها إلى فرص لتعزيز استقراره الاجتماعي وترسيخ تطوره الاقتصادي والاجتماعي، من خلال البرامج التي تسعى إلى تعزيز الدولة الاجتماعية كما هو حاصل مع برنامج تعميم الحماية الاجتماعية ودعم الفئات الهامشية، أو من خلال الاستراتيجيات القطاعية كما هو حاصل مع برنامج دعم السكن، وبرنامج الدعم الاقتصادي والاجتماعي للشباب بغرض تحسين قابلية التشغيل، وكذا السياسة الوطنية للهجرة واللجوء وغيرهما.
ليبيا... العدالة مطلب عاجل أصبح حلماً
وفي ليبيا كما في بقية الدول العربية التي ضربتها رياح ما يسمى "الربيع العربي"، ظلت عبارة "العدالة الاجتماعية" الأكثر تداولاً منذ اندلاع الأحداث عام 2011 وحتى الوقت الراهن. وكانت العدالة الاجتماعية مطلبهم الأول في انتفاضتهم، ثم أصبحت حلماً طاردوه كثيراً دون جدوى. ويمكن القول إن أكثر ما يفتقده الليبيون اليوم العدالة، والأطر القانونية التي توفرها وتحميها والظروف السياسية والأمنية التي توفر البيئة الملائمة لتحقيقها.
الباحث الاجتماعي أسامة العمروني يرى أن العدالة المنشودة في أي مجتمع مفتقدة إلى حد كبير في ليبيا. ويقول "العدالة الاجتماعية غائبة إلى حد كبير. غياب الأطر القانونية وآليات التنفيذ وكذلك عدم وجود خطط استراتيجية وتنموية واضحة ومستدامة تضعها الدولة من أجل تحسين مستوى حياة المواطنين، يؤكد غياب العدالة الاجتماعية".
ويشير العمروني إلى أنه لا يمكن حصر أسباب غياب العدالة الاجتماعية في الانقسام السياسي الذي تشهده البلاد، وتبعاته من نزاعات مسلحة، وبروز قضايا إنسانية مثل النازحين والمهاجرين داخل البلاد وخارجها، والاحتقانات بين المكونات المختلفة للهوية الليبية فحسب، لافتاً إلى أن مشكلة افتقاد العدالة الاجتماعية أقدم وأعمق، موضحاً أنه حتى خلال وقت "الاستقرار السياسي" في أعوام ما قبل 2011، كان المجتمع الليبي يفتقد العدالة الاجتماعية. ويشرح ذلك في ضوء عدم وجود خطط حقيقية للتنمية أو سياسة واضحة أو مدروسة للتوزيع العادل للموارد والخدمات بين المواطنين داخل كامل الأراضي الليبية في ظل النظام السابق.
ومن جهته، يتساءل الباحث والأكاديمي محمد العنيزي عما إذا كانت العدالة الاجتماعية رفاهية مؤجلة أمام اشتداد العواصف الأمنية والحروب والأزمات الاقتصادية التي جعلت أولويات المواطن توفير حاجاته اليومية؟ ويضيف "هل يمكن تحقيق العدالة الاجتماعية يوماً ما باعتبارها ضرورة ملحة للحفاظ على التماسك المجتمعي؟ فهي ليست مجرد مفهوم نظري أو شعار سياسي، بل جوهر الاستقرار في أي مجتمع".
ويحذر العنيزي من "انعدام العدالة الاجتماعية في ليبيا أمر بالغ الخطورة، ويشكل تهديداً حقيقياً لوحدة الوطن واستقراره. والعدالة المقصودة هنا تشمل توزيع الثروات الضخمة وفق خطط تنموية شاملة وواضحة المعالم والأهداف، وحقوق العمال في الأجور العادلة وظروف العمل الإنسانية وضمان التعليم والتدريب وإتاحة فرص العمل المتساوية، فضلاً عن تحقيق التوازن في العلاقات بين أصحاب العمل والعمال".
ويخلص العنيزي إلى أنه لا يمكن الحديث عن العدالة بكل صورها ومنها العدالة الاجتماعية في ظل استمرار النزاعات العسكرية والسياسية والظروف الصعبة التي تؤدي إليها. ويقول "في ظل الحروب، يصبح البحث عن الأمن والغذاء والدواء أولويات قصوى تسبق العدالة الاجتماعية بمراحل"، مشيراً إلى أنه في مناطق النزاع يحرم العمال من حقوقهم وتهدر كرامتهم، ويتحول الاقتصاد إلى اقتصاد حرب يستنزف الموارد، تاركاً الطبقات العاملة في مواجهة أعباء لا قبل لها بها".
وعلى رغم الواقع الصعب فإن العنيزي يرى أن الحلول موجودة وممكنة، ويقول "في ظل هذا الواقع، تبدو العدالة الاجتماعية وكأنها حلم بعيد المنال، ومع ذلك فهي ليست ترفاً يمكن الاستغناء عنه بل ضرورة لضمان استقرار المجتمعات ونموها. ويتطلب تحقيقها إرادة سياسية حقيقية وإصلاحات اقتصادية توازن بين مصلحة رأس المال وحقوق العمال، فضلاً عن تعزيز الحوار بين الفئات المختلفة داخل المجتمع. كما أن الابتكار والتكنولوجيا إذا أُحسن استغلالهما يمكن أن يكونا أدوات لتحقيق عدالة أكبر، وذلك عبر خلق فرص عمل جديدة وتعزيز فرص التعليم والتدريب المهني".
ومن جهته، يقول الباحث الاجتماعي أسامة العمروني "طالما لم يدرك القائمون على وضع هذه القوانين والمسؤولون عن تنفيذها ومتابعة سياساتها أهمية تطبيق العدالة الاجتماعية على جميع شرائح ومكونات المجتمع الليبي، فستستمر الصراعات والخلافات وبينها الصراع على الموارد الأساس للدولة كالنفط والغاز. وسيستمر الشعور العام بعدم الثقة والنفور من قبل الشعب تجاه الحكومات المتصارعة. وهذا ما ترجم خلال الآونة الأخيرة على صورة حراك مدني تمثل في الخروج بتظاهرات داخل الجنوب والغرب، للمطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية وإنهاء أزمات توافر الموارد والمواد الأساس، والتوزيع العادل لها، مما يؤكد رغبة الليبيين في حياة قوامها العدالة الاجتماعية".
موريتانيا... وما زال البحث عن العدالة جارياً
وفي موريتانيا ظل مصطلح العدالة الاجتماعية حاضراً وبقوة منذ عام 1991، أي بداية المسار الديمقراطي الذي عرفته البلاد، وبدء التعددية السياسية التي أرساها نظام الرئيس السابق معاوية ولد الطايع. لكن هل توجد عدالة اجتماعية في موريتانيا اليوم حقاً؟
خلال الـ19 من مارس (آذار) عام 2024، قال رئيس موريتانيا محمد ولد الشيخ الغزاوني إن المشروع المجتمعي الذي يعمل على تأسيسه يقوم في جوهره على العدالة الاجتماعية والوحدة الوطنية، ودولة القانون والمؤسسات والتنمية المستدامة الشاملة، وهو ما عُدَّ حينها اعترافاً ضمنياً بغياب العدالة الاجتماعية على رغم مرور أكثر من خمسة عقود على قيام الدولة الوطنية وأكثر من أربعة عقود على التجربة الديمقراطية. وآخرون رأوا كلمات الرئيس تعبر عن واقع وخلل حاصل بسبب غياب العدالة الاجتماعية، وضياع كثير من حقوق المواطنين ومنها العمل اللائق وحقوق العمال وعدالة نظام الرواتب والأجور، وإتاحة فرص التعلم والتدريب وجودة التعليم ومجانيته.
وترسم موريتانيا من خلال عدد من المؤسسات والقطاعات الحكومية أهدافاً عامة بغية تحقيق العدالة الاجتماعية من بينها القضاء على الفقر وتعزيز الصحة والرفاه، وتعزيز العمل اللائق وتحقيق النمو الاقتصادي والحد من أوجه عدم المساواة، وكذا تعزيز السلام والعدل وخلق مؤسسات قوية، وتوفير التأمين الصحي وزيادة قيمة المعاشات التقاعدية وتوفير دعم مالي للمسنين، ومساعدات مالية للفئات الأكثر هشاشة واحتياجاً مع توفير دعم غذائي للفئات الضعيفة في عدد من المحافظات، وذلك حسب مؤسسة "تآزر" المعنية بالتدخلات لمصلحة الفئات الهشة اجتماعياً.
وعلى رغم هذه الجهود فإن تحديات كثيرة تقف عقبة أمام شعور الموريتانيين بالعدالة الاجتماعية، وذلك بحسب التراد ولد اسياد المهتم بالتحولات الاجتماعية في موريتانيا. ويقول "أدى ضعف التغطية إلى عدم وصول المساعدات للفئات الأكثر احتياجاً. وواجه المسؤولون صعوبات في تنظيم الخدمات الاجتماعية وتحديد الفئات المستهدفة بصورة دقيقة".
ويؤكد المتخصص في علم الاجتماع سيدي محمد محمد المصطفى أن عدالة موريتانيا الاجتماعية يجب أن تنطلق من التعليم كإطار أنسب لبلوغ أهدافها، محذراً من أن غيابها يؤثر سلباً في استقرار البلاد ويؤدي إلى احتقان مجتمعي.
ويضيف "لكي تتحقق العدالة الاجتماعية لا بد من توافر مقوماتها مثل المساواة والتوزيع العادل للثروة واحترام حقوق الإنسان والمشاركة، وكل ذلك يحققه التعليم كإطار عام مناسب لبلوغ تلك العدالة، فهو يحقق تكافؤ الفرص بين الجميع مما يفتح الباب أمام الوصول إلى المنافع وبلوغ المكانة الاجتماعية انطلاقاً من الجدارة.
ويشار إلى أن موريتانيا تحظى بثروات طبيعية من الأسماك والمعادن كالحديد والذهب والفوسفات، إضافة إلى احتياطات هائلة من الغاز تقدر بـ110 تريليون قدم مكعب، فضلاً عن موقعها الجيوستراتيجي كبوابة للعالم العربي وشمال أفريقيا. وعلى رغم ذلك، تقدر إحصاءات غير رسمية معدل البطالة 10.63 في المئة من عدد السكان البالغ عددهم أكثر من 4.7 مليون نسمة.
ويقول المتخصص في الشأن الاقتصادي بجامعة العلوم الإسلامية المامي أحمدو إن الاستقرار السياسي الذي عرفته البلاد خلال الأعوام الأخيرة يحتاج إلى استقرار اقتصادي، يمكن الدولة من رسم معالم اقتصاد قوية مبنية على رؤية تنموية واضحة المعالم تحقق مستويات مثلى من العدالة الاجتماعية وزيادة الرفاهية.
الناشط المدني محمد الأمين الفاضل يقول إنه لا يمكن تحقيق أي نوع من أنواع التنمية المستدامة دون تحقُّق عدالة اجتماعية حقيقية في البلاد، ذلك أن شرائح كبيرة من المجتمع الموريتاني تعاني الفقر والتهميش والتمييز وعدم المساواة.
وأكد أهمية انخراط المجتمع بكل فئاته وشرائحه في العملية التنموية، ذلك أن فئات عريضة من المجتمع تشكل عبئاً اقتصادياً على موارد الدولة، مما يحول دون تحقيق التنمية المطلوبة. عرقلة التنمية تؤثر سلباً في العدالة الاجتماعية المنشودة التي تمكن الفئات الهشة من الصحة والتعليم والتوظيف والمشاركة السياسة، وهذا يتطلب تدخل وعمل المجتمع المدني.
اليمن... العدالة الاجتماعية وقود الأحداث
وفي اليمن الذي شهدت محطات كبرى في عصره الحديث كانت العدالة الاجتماعية هي الدافع الرئيس لإشعال عديد من الأحداث السياسية، وفي طليعتها ثورتا 26 سبتمبر (أيلول) 1962 ضد حكم الأئمة شمالًا، و14 أكتوبر (تشرين الأول) 1967 ضد الاستعمار البريطاني جنوباً، وهو ما تضمنته مبادئ وأهداف الحدثين التاريخيين المفصليين في عمر البلاد على طريق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي.
وجسدت العدالة الاجتماعية مرتكز الفعل التثويري وحركات التغيير المختلفة التي اجترح اليمنيون لأجل إرسائها مبادئها الكثير من التضحيات الممتدة حتى اليوم بعد أن قوبلت تلك الجهود بسلسلة طويلة من الصعوبات تمثلت في القوى التقليدية التي ترى أن العدالة الاجتماعية ستسلبها امتيازاتها التاريخية. فالجماعة الحوثية المدعومة من إيران، تستند في مفاعيل مشروعها التي برزت عقب انقلابها على الدولة وقيمها الجمهورية في العام 2014، إلى نوازع تتنافى وقيم العدالة الاجتماعية كـ"الاصطفاء" و"الحق الإلهي" في الحكم، باعتبار قادتها "أعلام الهدى" هم من يحق لهم أن يقودوا الأمة، وهي وفقاً لمراقبين، مبادئ طائفية عنصرية ماضوية تحصر التميز الاجتماعي والسياسي في طائفة دون غيرها.
وعقب أحداث العام 2011 التي جاءت امتداداً لما عرف بالربيع العربي، كانت شعارات التغيير التي رفعها كل فئات الشعب، لا تنفك أن تتضمن بنود العدالة الاجتماعية كخيار يستحق كل هذه التضحيات التي بذلت في سبيل إرساء مبادئه في صورتها العصرية.
ووفقاً لذلك، كرّس مؤتمر الحوار الوطني، الذي عُقد في أعقاب تلك الاحتجاجات، مساحات بارزة ورئيسة تؤسس لتضمين بنود دستورية وقانونية جديدة تضمن تطبيق صارم لتلك المبادئ وتجرم بالمقابل كل ممارسات التمييز الطبقي أو المذهبي أو الطائفي أو التمايز في الفرص والامتيازات لأي جماعة أو شخص أو فئة، ووصفها مؤتمر الحوار الذي امتد منذ الـ 18 من مارس (آذار) 2013 إلى الـ 24 يناير من (كانون الثاني) 2014 بالجذور التاريخية التي فاقمت من مشكلاته الاجتماعية، لتأتي الحرب التي اندلعت منذ العام 2015 بين الميليشيات الحوثية وقوات الحكومة الشرعية لتفاقم من هذه المشكلات وتبعد مفاهيم العدالة عن واقع الناس المعاش أكثر.
يؤكد الباحث في علم الاجتماع، محمد السامعي، أن اليمن يعيش واحدة من أسوأ المراحل في تطبيق العدالة الاجتماعية نتيجة لتداعيات الحرب حتى أضحت قيمة شبه غائبة في عموم البلاد. مشيراً إلى وجود "تمايز ملحوظ في الحصول على الحقوق أو في القيام بالواجبات، ما أثر على مدى توازن واستقرار المجتمع، وبروز التفكك والانقسام بشكل غير مسبوق في بلد يعيش واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية والاقتصادية في العالم".
ومن تجليات غيابها "افتقار اليمنيين لأبسط الحقوق، ومنها حق الحياة وارتفاع نسب القتل جراء الحرب، بينما يعيش نحو 80 في المئة من السكان تحت خط الفقر في حين تعيش نسبة أخرى ثراءً كبيراً، ما أدى إلى اختلال ميزان العدالة الاجتماعية في واقع صادم ومحزن".
وفي ظل هذه الأوضاع، يشير السامعي إلى بروز ما وصفها "أفكار شاذة تزعم الحق الإلهي في الحكم والسلطة (في إشارة إلى الحوثيين) وتقسيم الناس وفق تراتبية اجتماعية مقيتة "بين سيد ومسود"، وهذا الأمر يدمر قيم الحرية والعدالة التي نادت بها ثورتا اليمن قبل نحو ستين عاماً.
وفيما يتعلق بتحقيق العدالة الاجتماعية فالأمر "مرهون أولاً بتحقيق السلام في اليمن، وإيجاد سلطات موحدة قادرة على تمثيل اليمنيين تمثيلاً وطنياً قائماً على حق المواطنة بغض النظر عن المنطقة أو الفكر السياسي أو العرق والجنس".
أخيراً... ضبابية التعريف
في اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية تقف العدالة في موقف لا تُحسد عليه، لا سيما داخل دول عربية عدة. والأسباب كثيرة، فلم يتفق الجميع فقط على ضبابية التعريف بل تستخدم الغالبية مسمى "العدالة الاجتماعية" لشرح أسباب ومواقف ومشكلات، بعضها لا يمت بصلة لها، وبعض آخر يعكس مشكلة أكبر، ألا وهي تحول الحقوق إلى امتيازات، واستمرار أمد حروب وصراعات لدرجة جعلت الغالبية – حكاماً ومحكومين- تعد الحديث عن العدالة الاجتماعية في زمن الحرب ترفاً لا يملكونه ورفاهية لا تناسب فداحة الأوضاع.
وفي يومها العالمي، يقف عدد من الدول العربية شاهد عيان على أن غياب الأمن سلاح ذو حدين، الأول مميت إذ يعرض حياة الناس ومصائرهم للخطر، والثاني قاتل إذ يستخدمه بعض حجة لسلب الحقوق وشماعة لتعليق الأخطاء وبينها غياب السياسات والإجراءات الضامنة للعدالة الاجتماعية. ويصل الأمر إلى درجة اعتبار المطالبين بالعدالة أو الغاضبين لغيابها مخربين للبلاد ومثيرين للفوضى.
وفي اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، يخفت الحديث عربياً عما خططته منظمة الأمم المتحدة لهذا اليوم هذا العام. التحول العادل نحو مستقبل مستدام والاقتصادات المنخفضة الكربون، والنهج الشامل في الاستدامة البيئية ودمج مبادئ الانتقال العادل في السياسات العالمية والوطنية والمهارات الخضراء، وإعادة تصور الأنظمة الاقتصادية والبيئية بصورة تعطي الأولوية للناس بقدر ما تعطى للكوكب، والعدالة الرقمية في العصر الرقمي وغيرها سيتحدث عنها بعض على الشاشات وفي قاعات المؤتمرات، لكن حديث الشارع العربي عن العدالة الاجتماعية اليوم يظل في معظمه حبيس خانات دعم السلع التموينية ومنح البطالة وفرص التعليم وإمكانات التوظيف، ناهيك بالشعور بالحرج لدى الحديث عن رفاهية العدالة الاجتماعية، بينما رحى الحروب دائرة وأسباب الصراعات مستمرة.