Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

عصر القوى المتوسطة... من الكمون إلى الانطلاق

تمتلك إمكانات الاستفادة من متغيرات الواقع الجيوسياسي الدولي والانحياز إلى التعددية القطبية وتوظيف قدرة عالم الذكاء الاصطناعي على تغيير المواصفات الاقتصادية والاستراتيجية للدول

مثلما كان للحرب العالمية الثانية كلمتها في صعود دولية قوى فإن للأحداث الكبرى كلمتها أيضا في صعود قوى جديدة (موسوعة الحرب الالمية الثانية)

ملخص

يعود مفهوم "القوى المتوسطة"، لأصول نظام الدولة الأوروبية. ففي أواخر القرن الـ16، قسم المفكر السياسي الإيطالي جيوفاني يوتيرو العالم إلى ثلاثة  أنواع من الدول، "غرانديسيم" أي القوى العظمى، و"ميزانو" أي الدول المتوسطة، و"بيكولي" أي الدول الصغرى، ووفقاً ليوتيرو، فإن الـ"ميزانو" أو "القوى المتوسطة" تتمتع بالقوة والسلطة الكافيتين للوقوف بمفردها من دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين.

مع تراكمات وتداعيات القضايا المشتعلة في أرجاء العالم، يستاءل عدد من علماء العلوم السياسية والمراقبين الدوليين للمشهد الدولي المتغير الإيقاع وبسرعة هائلة: هل حان دور القوى المتوسطة في تغيير ملامح ومعالم عالمنا المعاصر؟ وهل تلك القوى يمكنها رسم خريطة عالمية مختلفة عما درجت عليه الأوضاع الجغرافية والسياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى الساعة؟

الثابت أنه لا يمكننا الجواب عن علامة الاستفهام السالفة من غير أن ننظر بعمق إلى المشهد العالمي الذي باتت تشكله عملية إعادة  توجيه التجارة العالمية، وإعادة تصميم سلاسل التوريد، وتشكيل تحالفات أمنية جديدة. كل هذا يحدث بينما يضطر العالم إلى الاعتراف بالحاجة إلى تسريع التحول في مجال الطاقة، وتسخير قوة الذكاء الاصطناعي.

هنا يبدو من المؤكد أن هناك دولاً لديها مزيد لتكسبه من غيرها  في هذا النظام سريع التطور، لا سيما إذا لعبت أوراقها بصورة صحيحة، سيما أن ما يجمع بينها هو الفرصة المتاحة للاستفادة من مكانتها في عالم يتحول من ثنائي القطبية إلى متعدد الأقطاب كـ"قوى متوسطة " أو "دول متأرجحة جيوساسياً"، وهي مصطلحات تصف البلدان التي تستخدم قدرتها على تجنب اختيار الجانبين لمصالحهما، في نهاية المطاف لملاحقة مصالحها المحلية  بمرونة.

يعن لنا أن نتساءل بداية عن ماهية تلك القوى، وكيف تتشكل وهل هناك اتفاق حول تعريفها أو توصيفها، وما الإمكانات التي لا بد أن تتوافر لديها لتحوز تلك الصفة.

 في ماهية القوى المتوسطة

بحسب الموسوعات العالمية تبدو القوى الدولية المتوسطة في وضع  بين القوى العظمى الفاعلة على المستوى الدولي مثل الولايات المتحدة الأميركية، وبين الدول النامية أو الآخذه في النمو.

يصف بعض منهم مثل الكاتب الأميركي ستيفن دي أنجيلس تلك القوى بأنها شيء ما ليس فظيعاً، ولكنه أيضاً ليس عظيماً، وهكذا  عولمت ما يسمى "القوى المتوسطة".

غالباً ما تمتلك هذه الدول قدرات معينة، مثل الاقتصادات القوية والتكنولوجيات المتقدمة والنفوذ الدبلوماسي، مما يسمح بأن يكون لها صوت في الشؤون العالمية.

وفي العادة ينظر إلى القوى المتوسطة على أنها جسور بين القوى  الأكبر، لا سيما حال ميلها إلى تفعيل الأدوات المختلفة التي تمتلكها في النزاعات وتعزيز التعاون في شأن القضايا الدولية.

فهل مفهوم القوى المتوسطة مفهوم حداثي معاصر؟ أم أن له جذوراً وأصولاً تاريخية؟

يعود مفهوم "القوى المتوسطة"، لأصول نظام الدولة الأوروبية. ففي أواخر القرن الـ16، قسم المفكر السياسي الإيطالي جيوفاني يوتيرو العالم إلى ثلاثة  أنواع من الدول، "غرانديسيم" أي القوى العظمى، و"ميزانو" أي الدول المتوسطة، و"بيكولي" أي الدول الصغرى، ووفقاً ليوتيرو، فإن الـ"ميزانو" أو "القوى المتوسطة" تتمتع بالقوة والسلطة الكافيتين للوقوف بمفردها من دون الحاجة إلى مساعدة الآخرين.

ووفقاً لأدوراد جوردان من جامعة سنغافورة للإدارة، فإن كل القوى المتوسطة تتبنى سلوكاً في السياسة الخارجية يعمل على استقرار النظام العالمي وإضفاء الشرعية عليه، وعادة ما يجري ذلك من خلال مبادرات متعددة الأطراف وتعاونية.

أما معهد الأمن العالمي، فيرى أن القوى المتوسطة هي الدول ذات  القدرات الوسطية التي تتمتع بأهمية سياسية واقتصادية، وتحظى بالاحترام الدولي، وتخلت عن السباق النووي، مما يمنحها مكانة دولية كبيرة.

وعلى رغم وجود بعض الغموض المفاهيمي المحيط بمصطلح القوة المتوسطة، فإن القوى المتوسطة غالباً ما يجري تحديدها من خلال سلوكها الدولي، الذي يطلق عليه "دبلوماسية القوة المتوسطة" والميل إلى السعي إلى إيجاد حلول متعددة الأطراف للمشكلات الدولية، والميل إلى تبني مواقف تسوية في النزاعات الدولية، عطفاً على الميل إلى تبني مفاهيم المواطنة الدولية الصالحة.

السياقات التاريخية للقوى المتوسطة

على أن السؤال المهم المتعلق بمفهوم القوى المتوسطة يدور حول ظهورها في عالمنا الحديث، وغالب الظن أنه طفا على سطح الأحداث بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، إذ طفت على السطح قوى عظمى، وتلاشت من فوق الخريطة قوى كانت ذات مرة مهيمنة وباسطة أجنحة نفوذها.

على سبيل المثال تراجعت بريطانيا التي كانت عظمى، إلى ما وراء الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، ولم تعد قوة عظمى  كما كان الحال سابقاً، وإن جاءت في مرتبة أعلى من المتوسطة.

غير أن دولاً أخرى من عينة كندا طفت على السطح لتحتل تلك المكانة المتوسطة، بحسب التوصيفات المتقدمة.

ولعله يمكن القول إن مصطلح القوى المتوسطة دخل عالم الخطاب السياسي العالمي للمرة لأولى بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن وصف رئيس الوزراء الكندي لويس سان لوران بلاده بأنها "قوة متوسطة"، وساعد في وضع التعريف الكلاسيكي للدبلوماسية الكندية للقوة المتوسطة.

مرة جديدة وفي أوائل القرن الـ21، عاد هذا المفهوم مرة جديدة ليملأ الأجواء. في مارس (آذار) 2008، وصف رئيس الوزراء الأسترالي كيفين رود السياسة الخارجية لبلاده بأنها "دبلوماسية القوة المتوسطة"، على غرار معايير مماثلة، ولاحقاً سيظهر بالفعل تأثير أستراليا في صناع القرار الدوليين في قضايا التحديات الاقتصادية والأمنية والبيئة العالمية.

في الوقت عينه يصف المحلل السياسي الأميركي كليف كوبشان القوى المتوسطة بأنها "دول ذات نفوذ كبير في الجغرافيا  السياسية، ولكنها أقل من القوتين العظميين، أي الولايات المتحدة وروسيا". وفي رأيه فإن القوى المتوسطة، وخصوصاً في الجنوب العالمي، تتمتع بمزيد من القوة والثقل الجيوسياسي في القرن الـ21، أكثر من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، وهو يحدد البرازيل والهند وإندونسيسا والمملكة العربية السعودية وجنوب أفريقيا وتركيا كقوة متوسطة رائدة يصفها بأنها "دول متأرجحة" قادرة على خلق ديناميكيات قوة جديدة بسبب عدم انحيازها لمعظم القوى العظمى. ومن بين الخصائص المشتركة  لهذه الدول الست عضوية مجموعة الـ20 والشراكة مع الاقتصادات الكبيرة وسريعة النمو، وكذا المشاركة الدبلوماسية  النشطة في الأحداث الكبرى مثل الحرب في أوكرانيا والعمل المناخي الدولي.

على أن هناك تساؤلات لا تزال حائرة، حول توصيف وتصنيف تلك القوى المتوسطة.

من جهته يحذر خبير العلاقات الدولية ميراس زينباييف من أن محاولات تصنيف الدول قد تكون مضللة، ويوضح "أن جاذبية  تقسيم الدول بدقة إلى أقسام هرمية غالباً ما تطغى عليه الفروق  الدقيقة الأكثر تعقيداً في مشاركتها العالمية الفعلية"، إذ تقليدياً كان ينظر إلى هذه القوى من خلال عدسة المقاييس الاقتصادية أو البراعة العسكرية، مع الإشارة إلى ميلها إلى الدبلوماسية المتعددة الأطراف واحترام القانون الدولي. ومع تطور ملامح الجغرافيا  السياسية وتزايد عدد تلك الجهات الفاعلة، أصبح من الواضح  بصورة متزايدة أن مثل هذه التصنيفات النمطية، في أحسن الأحوال بدائية، وفي أسوأ الأحوال مضللة.

القوى المتوسطة وتشكيل نظام عالمي

هل يمر النظام الدولي في الوقت الراهن بلحظات تحول دراماتيكية من عالم أحادي القطبية، وبالتحديد أميركي الهوى والهوية، إلى عالم متعدد الأقطاب تلعب فيه القوى المتوسطة دوراً واضحاً ومميزاً في إعادة ضبط مساراته ورسم مساقاته؟ بحسب الباحثة فريحة بتول، من جامعة أسلام أباد، فإن القوى المتوسطة تحتل  مكانة خاصة في النظام العالمي الجديد والوليد، ومرجع ذلك دبلوماسيتها الاستباقية واقتصاداتها القوية ونفوذها المعتدل، ذلك أنها لا تشارك في الحوكمة العالمية فحسب، بل إنها تصممها أيضاً  باستخدام استقلاليتها الاستراتيجية وتعزيز التعاون متعدد الأطراف واستقرار العالم وحل النزاعات.

هل تقدم الدول المتوسطة القوة دعماً واضحاً لتيار التعددية الكوكبية الذي يكثر الحديث من حوله حالياً؟

المقطوع به أن الدعم القوي الذي تقدمه الدول المتوسطة الحجم للتعددية، هو أحد أعظم مساهماتها في النظام الدولي.

ولأن الشعوب وليس الجيوش فحسب كما قال نابليون بونابرت تمشي على بطونها، فإن المعيار الاقتصادي يبدو في هذا الإطار مهم للغاية، ومن هنا تبدو المساهمات الاقتصادية للدول متوسطة القوة أو الحجم، لاعباً فاعلاً في تشكيل العالم الجديد القادم.

تسهم هذه الدول بصورة كبيرة في فعالية الاقتصاد العالمي، من خلال العمل كمحفزات مهمة للتكامل الإقليمي والنمو الاقتصادي. وتمثل اتصالاتها التجارية ومشاركتها في سلاسل القيمة العالمية وتعزيز التعاون الإقليمي المحاور الرئيسة لاستراتيجيتها الاقتصادية. كما تستخدم الدول المتوسطة الحجم نفوذها الاقتصادي للتأثير في القرارات الاقتصادية الدولية، وتدفع في كثير من الأحيان نحو أنظمة اقتصادية دولية أكثر ليبرالية وشمولاً.

لا يتوقف الأمر عند مرتكزات التعاون الاقتصادي فحسب، بل ينسحب الأمر على التعاون الأمني بنوع مهم للغاية، لا سيما في مجالات محاربة الإرهاب العالمي، ذاك الذي يتسرب بقوة إلى مفاصل قارات العالم بأسرها.

هنا تبدو القوى المتوسطة الحجم فاعلة بقوة في دعم جهود حفظ السلام حتى وإن لم تتوافر لديها الأدوات العسكرية القوية التي للقوى العظمى، وكثيراً ما تشارك الدول المتوسطة في قوات حفظ السلام الدولية، فتعمل على تجنب الحروب والحفاظ على الهدوء  باستخدام حضورها العسكري وعلاقاتها الدبلوماسية.

على سبيل المثال تتمتع كندا بتاريخ طويل في دعم عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة، وجيشها محترف للغاية، ويحظى باحترام كبير في الدوائر الدولية، على رغم كونه أصغر حجماً من نظرائه في القوى العظمى. واستفادت منطقة الشرق الأوسط والبلقان وأفريقيا من جهود حفظ السلام الكندية، التي أظهرت مدى أهمية القوى المتوسطة في الحفاظ على الاستقرار الدولي.

ولعل أستراليا بدورها تتشارك مع كندا في هذا الإطار، إذ احتلت مكانة رائدة في منطقة آسيا والمحيط الهندي عندما يتعلق الأمر بتقديم المساعدات الأمنية والإنسانية للدول المجاورة، ويتجلى التزام أستراليا بالاستقرار الإقليمي من خلال مشاركتها في المحادثات الأمنية، مثل المنتدى الإقليمي لرابطة دول جنوب شرقي آسيا، ومن خلال مساهماتها في عمليات حفظ السلام في جزر سليمان وتيمور الشرقية. كما تتعزز قدرة أستراليا على التأثير في ديناميكيات الأمن في منطقة آسيا والمحيط الهادئ من خلال علاقاتها الاستراتيجية، وخصوصاً مع الولايات المتحدة واليابان.

هل من أمثلة عربية وشرق أوسطية وآسيوية على فاعلية القوى المتوسطة الحجم في عالمنا المعاصر؟

السعودية والهند... كوريا وتركيا

يقودنا البروفيسور أليخو تشيرونكو، مدير الاستثمار الرئيس للأسواق الناشئة في المنتدى الاقتصادي العالمي، إلى ملامح للخريطة الجيوسياسية العالمية التي تشهد أعمق إعادة تشكيل لها منذ عقود، إذ تحتل دول عدة المكانة المتقدمة في سلم القوى المتوسطة عبر تحديث الإدارة المالية والأنظمة الاقتصادية العاملة والفاعلة فيها.

يتوقف تشيرونكو بداية مع المملكة العربية السعودية التي يعتبرها مثالاً رئيساً للدول التي تسهم في بلورة مفهوم متقدم للقوى المتوسطة، سيما أنها قدمت مثالاً جيداً للغاية عبر خطتها التي يرعاها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والمعروفة باسم 2030  الرامية إلى تنويع مصادر إيراداتها من خلال زيادة حصة الاستثمارات الأجنبية المباشرة والصادرات غير النفطية، من بين أمور أخرى، وفي الوقت نفسه، تعلي فرص مداخيلها عبر الاهتمام بالقطاع السياحي، إذ تملك عدداً من الشواطئ الرائعة، وبالقدر نفسه تزيل الرمال من فوق الآثار الصحراوية حيث مدن تاريخية راقدة هناك.

لقد لعبت السعودية دوراً متقدماً خلال رئاستها لمجموعة الدول الـ20، غير كثيراً من المقدرات التقليدية سواء على الصعيد الاقتصادي أم السياسي، وكذلك الأمني، عطفاً على أدوار الوساطة  السياسية في منطقتها الجغرافية المشتعلة، وقدر لها أن تشارك في تهدئة الأجواء السياسية المضطربة من خلال دبلوماسيتها الرصينة.

من بين الدول التي يتوقف معها تشيرنكو بوصفها من القوى المتوسطة الدولية الفاعلة الهند، التي يعتبرها قوة متوسطة مثالية، وخير دليل على ذلك الحفاوة التي يجري بها استقبال رئيس وزراءها في البيت الأبيض من أي رئيس أميركي، إذ تمتد نجاحاتها يوماً تلو الآخر، من المجال الزراعي، إذ باتت دولة منتجة للقمح بكميات تكفي مليار وأكثر من 300 مليون نسمة تعداد سكانها.

الهند عما قريب ستجلس على طاولة واحدة مع الصين من حيث القوة الاقتصادية، كما أنها تفوقها في قطاع البرمجيات والإلكترونيات، ومن صحيح القول الزعم إن هذه القفزات الناجحة للهند مكنتها من جذب استثمارات أجنبية هائلة من جانب الشركات متعددة الجنسيات الأكثر قوة حول العالم.

ومن أفضل الأمثلة التي تعد محركات ديناميكية للعالم المعاصر، تأتي كوريا الجنوبية، إذ يعد اقتصاد هذا البلاد أحد أقوى الاقتصادات في آسيا وقوة رئيسة في التجارة الدولية بفضل التصنيع السريع والتطور التكنولوجي. وبصفتها عضواً في مجموعة الـ20، لعبت كوريا الجنوبية دوراً فاعلاً في التأثير في السياسة الاقتصادية الدولية، وخصوصاً تلك التي تهدف إلى معالجة الأزمة المالية لعام 2008، وتسلط زعامة كوريا الجنوبية في الاقتصاد الرقمي ومساهماتها في التنمية العالمية الضوء على  أهمية البلاد في النظام العالمي المتعدد الأقطاب.

وعلى الناحية الأخرى من آسيا، تبدو تركيا بدورها قوة متوسطة فاعلة، لا من خلال عضويتها في حلف "ناتو" فقط، بل من خلال كونها قوة اقتصادية كبرى في قريبة من الشرق الأوسط، إذ تقع  بين أوروبا وآسيا. إن اقتصاد تركيا الذي يتميز بقطاع خدمات متطور وقاعدة صناعية متنوعة، سمح لها بالتأثير بصورة كبيرة في أمن الطاقة والتجارة الإقليمية. ومن هنا يمكن القول إن تركيا أصبحت لاعباً مهماً في النظام العالمي المتعدد الأقطاب نتيجة لدبلوماسيتها الاقتصادية، التي تشمل مشاركتها في مشاريع البنية التحتية واتفاقات التجارة الإقليمية.

هل يمكن للباحث عن منسوب القوى المتوسطة ودورها في خلق عالم مغاير أن ينسى أو يتناسى قطاعاً جغرافياً بعينه حول العالم؟

أميركا اللاتينية وأوان الاستيقاظ

كثيراً ما اعتبر العالم منطقة أميركا اللاتينية خلفية جغرافية للولايات المتحدة، وليس أكثر من ذلك.

غير أن التغيرات والتبدلات في الموازين الدولية منذ بداية الألفية  الثالثة، غيرت الأوضاع وبدلت الطباع بصورة واضحة، وليس أدل على ذلك من التوجهات المثيرة للرئيس الأميركي الجديد دونالد ترمب، لجهة عدد من كبريات دولها، مثل المكسيك والبرازيل وفنزويلا، وحتى الصغيرة منها مثل بنما.

لقد أضحت منطقة أميركا اللاتينية موقعاً وموضعاً لتنازع القوى العظمى، لا سيما الولايات المتحدة والصين، ذلك أن الجميع يستشعر الضجة التي تلم بدول تلك المنطقة، وتصاعد مقدراتها  على الأصعدة كافة، وفي مقدمها القدرات الاقتصادية.

في الوقت الحاضر يبدو أن كل شيء يسير على ما يرام بالنسبة إلى أميركا اللاتينية لكي تبدأ في التمتع بعلاقة أكثر تناسقاً مع بقية  العالم. كانت المنطقة دائماً في حاجة إلى الدعم الخارجي، ولكن لم تبدأ البلدان الأخرى إلا أخيراً نسبياً في النظر إلى أميركا اللاتينية  كمورد موثوق به للسلع الأساسية، وقائدة في التحول في مجال الطاقة، ومركز محتمل للتصنيع.

إن بلداناً مثل البرازيل والمكسيك تجني بالفعل فوائد هذا الموقع، ولا يحتاج المرء إلى النظر إلى أبعد من قطاع الأعمال الزراعية  المزدهر في البرازيل أو الآثار الملموسة في "نويفو ليون"، مركز التصنيع الأكثر تقدماً في المكسيك، ويتلخص التحدي الرئيس في أن هذه الفوائد تتراكم غالباً على رغم ـ وليس بفضل - الخيارات السياسية المحلية، ولا يزال غالب الزعماء السياسيين في المنطقة لديهم مجموعات مختلفة من الأولويات السياسية ولم يتوصلوا بعد إلى وضع خطة استراتيجية مقنعة لاغتنام الفرص المتاحة.

لقد مارست البرازيل نفوذها في مختلف أنحاء أميركا الجنوبية  وخارجها من خلال استخدام مواردها المالية على نحو مماثل، إذ عملت البرازيل العضو البارز في تحالف مجموعة "بريكس" (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، على دفع  عجلة التغيير في المؤسسسات الاقتصادية الدولية بما يخدم  احتياجات الدول النامية على نحو أفضل. وكان تعزيز التكامل الاقتصادي الإقليمي، الذي أصبح ممكناً بفضل زعامة البرازيل  في السوق المشتركة الجنوبية (ميركوسور)، أحد العوامل الرئيسة  في تحقيق الأمن والازدهار في أميركا الجنوبية.

وفي المجمل، فإن استعادة دول أميركا اللاتينية لا سيما النفطية منها، لقدراتها على تصميم وتنفيذ خطط التحول التي تمتد لعقود من الزمن يجعلها على الأرجح من الفائزين بالنظام العالمي المتطور. وبالنسبة إلى المستثمرين العالميين، يعني هذا أن محفظة الاستثمار  التي لا تعترف بهذا الواقع ليست محمية من الأخطار المستقبلية. وتكمن أكبر الفرص في تقاطع بلدان القارة اللاتينية التي تعرض عليها الفرصة، وتلك التي تتخذ خطوات ملموسة، لتحويل إمكاناتها  إلى واقع.

على أن تساؤلاً جذرياً يقابل الباحث: أين موقع القارة الأوروبية  العتيقة التي كانت في لحظة زمنية بعينها، موطئاً وموطناً لعدد من القوى العظمى، من الإمبراطوريتين الفرنسية والإنجليزية، إلى البرتغالية والإسبانية، وهل تعد أوروبا اليوم من القوى العظمى أم من القوى المتوسطة؟

الذكاء الاصطناعي ومستقبل أوروبا

هل سيلعب الذكاء الاصطناعي دوراً في إعادة رسم خريطة القوى العالمية؟

المعروف أن الولايات المتحدة الأميركية والصين هما القوتان الأعظم المهيمنتان على مقدرات الذكاء الاصطناعي حول العالم، غير أن مجموعة أخرى من البلدان المتوسطة في مجال الذكاء الاصطناعي التوليدي بدأت تظهر، وكل منها تتمتع بنقاط قوة  مميزة قد تمكنها من المنافسة على نطاق إقليمي، بل وحتى عالمي، كمورد للتكنولوجيا.

يتناول تقرير جديد بعنوان "كيف يمكن للرؤساء التنفيذييين التعامل مع الجغرافيا السياسية الجديدة للذكاء الاصطناعي"، من معهد هندرسون ومركز الجغرافيا السياسية التابعين لمجموعة بوسطن الاستشارية، الوضع الحالي والآثار المترتبة على كل من قادة  الشركات وصناع السياسات.

فهل سيغير الذكاء الاصطناعي من تراتبية القوى العالمية عامة، ومن أوضاع دول القارة الأوروبية بنوع خاص؟

عند نيكولاس لانج، الرئيس العالمي لمعهد "بوسطن كونسلتينج هيندرسون" المشارك في تأليف التقرير، "أنه مع اتضاح أن الذكاء الاصطناعي سيشكل الصناعات والمجتمعات، فإن ظهور القوى  المتوسطة يشير إلى تحول حاسم في التوازن العالمي للقوة التكنولوجية. وبالنسبة إلى قادة الشركات الذين يدمجون الذكاء الاصطناعي في عملياتهم التجارية، فإن الاعتماد فقط على الذكاء الاصطناعي الذي توفره الشركات في الولايات المتحدة أو الصين قد يشكل أخطاراً جسيمة بسبب إمكان تعرض اللوائح ومتطلبات البيانات وتوافر النماذج للتغيرات في السياسة الحكومية.

هل يمكن للذكاء الاصطناعي وأدواته وآلياته أن يعيد الزخم لدول القارة الأوروبية؟

المؤكد أن الاتحاد الأوروبي قادر على وضع نفسه كقوة متوسطة  مهمة في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال الجمع بين نقاط القوة في الدول الأعضاء، فالاتحاد الأوروبي هو بالفعل موطن لنظام بيئي ناشئ لشركات الذكاء الاصطناعي، كما أنه يمتلك ثاني أكبر مجموعة مواهب متخصصة في الذكاء الاصطناعي على مستوى العالم. وباعتباره سوقاً كبيرة، إذ يبلغ الناتج المحلي الإجمالي المشترك 18 تريليون دولار، فإنه قادر على دعم تطوير نماذج الذكاء الاصطناعي المطورة محلياً، التي قد ينظر إليها على أنها أكثر حماية لبيانات المستخدمين في سياق بيئته التنظيمية الصعبة. وفي حين اجتذبت شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة استثمارات كبيرة، فإن الاتحاد الأوروبي يواجه تحديات في توسيع البنية الأساسية وسد فجوة التمويل مقارنة بالولايات المتحدة والصين.

أين يوجد إشكال الاتحاد الأوروبي الذي جعل بعض أكبر دوله تتراجع عن كونها قوة كبرى وعظمى، إلى قوة متوسطة وبعضها أقل من المتوسطة؟

غالب الظن أن الأمر مرتبط ارتباطاً وثيقاً بإشكال الوحدة الأوروبية، التي بعد أن جمعت دول القارة على وحدة هدف وتوجه، يبدو من الواضح أنها تتعرض لحالة انفراط عقد في السنوات الأخيرة، مما يضعف من قدرة القارة الأوروبية على مواجهة أو مجابهة روسيا والصين من جانب، وضعف القدرات والمقدرات في التعاطي مع الحليف الأكبر والجار الأقرب على الجانب الغربي من الأطلسي، أي الولايات المتحدة الأميركية.

القوى المتوسطة وحالة الحياد السياسي

لكن السؤال الأخير: هل عالم القوى المتوسطة سيقود العالم مرة أخرى إلى ظهور تكتل لدول شبيه بمجموعة عدم الانحياز، لكن على نطاق أكبر بكثير من ذاك الذي شهده العالم في ستينيات القرن  الماضي؟

في العادة تتبنى بلدان القوى المتوسطة سياسات خارجية مميزة ترفض الانحياز الواضح للولايات المتحدة أو الصين، وعلى النقيض مما يعتقد كثيرون في واشنطن، فإن القوى المتوسطة لا تشعر بتقارب كبير مع الصين، ولا تريد التقرب منها على حساب علاقتها بالولايات المتحدة. والواقع أن التقرب من الصين يرجع إلى السياسات الأميركية، فقد دفعها تسليح أميركا بقوتها التجارية  والمالية إلى التحوط في رهاناتها.

لا يريد زعماء القوى المتوسطة عالماً يضطرون فيه إلى الانحياز إلى أي من الجانبين.

هنا يقول الرئيس الإندونيسي السابق جوكو ويدودو "نرفض أن نكون أداة في حرب باردة جديدة"، وبدلاً من ذلك يريدون بناء  علاقات تجارية واستثمارية متعددة الأبعاد، والاختيار من قائمة الخيارات التي لا تقيدها بصورة مصطنعة أية منافسة بين القوى العظمى. ويعتقد كثيرون، إلى جانب رانا فوروهار من صحيفة  "فاينانشيال تايمز"، أن "الولايات المتحدة ليست مرساة للاستقرار، بل هي خطر يجب التحوط منه وربما ضده".

وعلى خلاف تكتل دول عدم الانحياز في ستينيات القرن الماضي،   من غير المرجح أن تتحول القوى المتوسطة إلى كتلة هائلة قائمة بذاتها، ويرجع هذا في الأساس إلى تنوع مصالحها إلى الحد الذي يجعلها غير قادرة على التوافق ضمن أجندة اقتصادية أو أمنية  مشتركة.

هل يعني ذلك أن معالم وملامح النظام العالمي السياسي على مقربة  قريبة جداً بحلول عام 2030 من تغيرات جذرية وإعادة تركيب مشاهد السياقات الدولية بصورة مغايرة؟

قد يكون ذلك كذلك، سيما مع سرعة التبدلات، في ضوء متغيرات مثل الحوسبة الكمومية والعالم الرقمي وآفاق الذكاءات الاصطناعية.

المزيد من تقارير