ملخص
مع صعود الدعوات الانعزالية الأميركية، وتسيد دعوات "أميركا أولاً"، بات الأوروبيون عامة، والألمان بخاصة، يستشعرون قلقاً متزايداً يوماً بعد الآخر.
هل باتت ألمانيا وربما أوروبا على موعد مع قدر جديد ومستقبل مغاير لما مضت به المقادير طوال نحو ثمانية عقود، أي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؟
تشي التحولات الجيوسياسية العالمية بذلك، لا سيما في ظل اختلافات عميقة تجري بين ضفتي الأطلسي، ما بين الولايات المتحدة الأميركية من جانب وأوروبا من جانب آخر.
عدت أوروبا أن أميركا الحليف الذي لا يتغير، وما من أوروبي عقلاني ينكر الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في إنقاذ القارة من الجنون النازي والتطرف الفاشي خلال النصف الأول من القرن الـ20، وصولاً إلى التدخل الأميركي في الحرب العالمية الثانية.
ظلت واشنطن الدرع والسيف الواقيين للأوروبيين طوال أربعة عقود من الحرب الباردة، ومع سقوط الاتحاد السوفياتي بدأت أوروبا تستشعر عالماً مغايراً، غير أن العلاقات الأميركية – الأوروبية ظلت حاضرة وبقوة.
على أنه ومنذ عام 2016 أي بداية ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الأولى، بدأت أصوات أوروبية تعلو متسائلة: هل حان أوان الانفصال بين جانبي الأطلسي؟
كانت ألمانيا وبنوع خاص قاطرة أوروبا الاقتصادية، وتحملت العبء الاقتصادي الأكبر في إنهاء مأساة تقسيمها إلى بلدين شرقي وغربي، فيما كانت أميركا ترفع عنها العبء الأمني والعسكري.
غير أنه ومع صعود الدعوات الانعزالية الأميركية وتسيد دعوات "أميركا أولاً"، بات الأوروبيون عامة والألمان بخاصة يستشعرون قلقاً متزايداً يوماً بعد الآخر.
هل لأوروبا الحق في المخاوف التي تنتابها؟ ولماذا على ألمانيا أن تقلق بنوع خاص لا سيما إذا قامت واشنطن بأمرين يمثلان خطورة وتهديداً لأمن ألمانيا؟
على جانب آخر، يتساءل الألمان وعموم الأوروبيين عن الدور الذي يمكن أن يلعبه المستشار الألماني القادم فريدريش ميرز، وهل سيكون حجر الزاوية في البناء الأوروبي الجديد أم حجر عثرة؟
سير المستشارين الألمان العظماء
يتساءل الألمان اليوم وأوروبا من حولهم هل سيكرر التاريخ نفسه، بمعنى أن يضحى ميرز مستشاراً استثنائياً في ظروف غير اعتيادية مثل تلك التي ظهر فيها أول مستشار لألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؟
خلال عام 1949 عرف كونراد إديناور (1949- 1963) طريقه إلى مبنى المستشارية الألمانية كأول رجل يحمل مسؤولية الدولة التي تهدمت بسبب أحلام الرايخ الثالث.
قاد إديناور بلاده من حالها الرثة وأنقاضها المتهدمة إلى دولة منتجة ومزدهرة، وقدر له أن يقيم علاقات وثيقة مع فرنسا والمملكة المتحدة وأميركا. وخلال الأعوام التي قضاها في السلطة حققت ألمانيا الغربية الديمقراطية والاستقرار والاحترام الدولي والازدهار الاقتصادي.
وكان إديناور أول زعيم لحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU) وهو حزب ذو أيديولوجية ديمقراطية مسيحية، وقد أصبح تحت قيادته منذ ذلك الحين الحزب الأكثر نفوذاً داخل البلاد.
يأتي ميرز بدوره من الحزب عينه الذي قدر له أن يفوز في الانتخابات الأخيرة، ليصير مستشار البلاد القادم بعد أن أخفق سلفه أولاف شولتز في أن يملأ الفراغ الكبير الذي خلفته المستشارة أنجيلا ميركل.
لكن زمان ميرز غير أوان إديناور، إذ لم يعد الحلفاء على جانبي الأطلسي على قلب رجل واحد لا سيما في ظل إدارة جمهورية كان جل أهدافها خلال إدارتها الأولى خلال الفترة بين 2016 و2020 رفع إسهام دول "ناتو" إلى حدود اثنين في المئة من ناتجها القومي، أما اليوم فيبدو المشهد مختلفاً تماماً، والمطلوب يتجاوز خمسة في المئة مقطوعة من الموازنات، إذ يبدو أن أميركا بقيادة ترمب عازمة على فرض ضرائب جمركية تصل إلى 25 في المئة على شركائها الأوروبيين، مما قد يصيب النمو الاقتصادي الأوروبي بحال من الاضطراب.
أما الطامة الكبرى التي تواجه ميرز وعموم القادة الأوروبيين فموصولة بالصراع الروسي – الأوكراني والموقف الأميركي منه. فهل يعني ذلك أن الولايات المتحدة الأميركية بالفعل، وبحسب تعبيرات ميرز، باتت غير مبالية بالقارة الأوروبية ومستقبلها؟
نظرة ميرز إلى أميركا الراهنة
عرف ميرز طويلاً بأنه أحد أكثر المؤيدين لحلف شمال الأطلسي (ناتو) وللعلاقات الأميركية الأوروبية. ومن هذا المنطلق بدا مثيراً للغاية أن يتحدث عن الهوة الكبيرة التي باتت تفصل الولايات المتحدة عن أوروبا بصورة عامة وألمانيا خصوصاً، ودعا القارة إلى تنظيم قدراتها الدفاعية بصورة عاجلة، مما يمثل تحولاً عميقاً في النهج من جانب أكبر اقتصاد أوروبي.
وفي مناظرة تلفزيونية بعد الانتخابات التي أسفرت عن فوز حزبه الديمقراطي المسيحي بنسبة 28.5 في المئة من الأصوات متقدماً بفارق ثمانية في المئة على حزب البديل من أجل ألمانيا الذي حل ثانياً، قال ميرز "لم أكن لأتصور قط أنني سأضطر إلى قول شيء كهذا في برنامج تلفزيوني، لكن بعد تصريحات دونالد ترمب بات من الواضح أن الأميركيين – أو في الأقل الأميركيين في هذه الإدارة– لا يهتمون كثيراً بمصير أوروبا".
وفي المناظرة عينها، أضاف ميرز "ستكون أولويتي المطلقة تعزيز أوروبا خلال أسرع وقت ممكن، حتى نتمكن خطوة بخطوة من تحقيق الاستقلال الحقيقي عن الولايات المتحدة".
أكثر من ذلك، عدَّ ميرز أن وضع أميركا تحت قيادة ترمب بات المكافئ الموضوعي لروسيا الاتحادية، أي إن كليهما بات مهدداً لأمن أوروبا ومستقبلها على نطاق واسع.
"نحن تحت ضغط هائل من جانبين، لدرجة أن أولويتي المطلقة الآن هي حقاً خلق الوحدة في أوروبا، وأنه من حق ألمانيا أن تكون هناك بوصفها واحدة من ثلاث قوى تاريخية في القارة مع فرنسا والمملكة المتحدة".
ولم تكن تصريحات ميرز مفاجئة، ذلك أن تطور المشهد بين أميركا وترمب دفع عدداً من المراقبين بالفعل، ومنهم المحلل ماتيا نيلس مؤسس المكتب الألماني الأوكراني، وهي شركة استشارية سياسية مقرها مدينة دوسلدورف الألمانية، إذ عدَّ أن التحول المفاجئ في السياسة الخارجية الأميركية صدم أوروبا بالفعل، وأن الألمان مصدومون".
لكن السؤال هو إلى أي مدى يمكن أن تمضي هذه الصدمة، إلى حد الافتراق بين الجانبين أم محاولة رأب الصدع بين حليفين وقفا طويلاً في مواجهة خصم عنيد خلال الماضي، وقد يكون هناك صنو له في الحاضر؟
يحاجج ماتيا نيلس بأن الأوروبيين غير مستعدين على الإطلاق لنهاية زمن السلام الأميركي، أو الـ"باكسا أميركانا"، ونهاية دور أميركا في توفير الأمن لأوروبا".
غير أن الحقيقة التي يدركها ميرز أن أوروبا اليوم تجد ذاتها بين مطرقة بوتين من الشرق، وسندان الولايات المتحدة الأميركية من الغرب، وعلى هذا الأساس سيجب على الأوروبيين السعي إلى طرح قضاياهم على موائدهم، والبحث في أفضل الطرق لتأمين الذات من تقلبات الأصدقاء ومؤامرات الأعداء.
فهل بدت الولايات المتحدة أخيراً لاعباً سياسياً مزعجاً لألمانيا بنوع خاص، مما يمكن أن يعجل بالفعل من شق الصف الأوروبي بصورة شبه مؤكدة؟
دي فانس ودعم اليمين المتطرف
في كلمته التي ألقاها خلال أعمال مؤتمر العمل السياسي المحافظ (CPAC) بمدينة أوكسون هيل بولاية ميراند خلال الـ20 من فبراير (شباط) الماضي، شكر سيد البيت الأبيض الشعب الأميركي الذي وصفه بأنه انتفض وهزم اليسار المتطرف، وهذا أمر يمكن تفهمه.
غير أن ما يتجاوز حدود الداخل الأميركي، هو قول ترمب لجموع الأميركيين الذين شاركوا في أعمال المؤتمر، ومنهم الرجال الذين شاركوا في تظاهرات السادس من يناير (كانون الثاني) 2021 أمام الكونغرس، "إنكم الآن تقدمون للغرب كله مثالاً يسمح بهزيمة اليسار المتطرف، والأخبار الجميلة أتت من ألمانيا. إن شعبنا هو صاحب القيادة والريادة دائماً".
ما الذي كان يقصده ترمب؟ بالتأكيد هو يود الإشارة إلى الفوز الكبير وغير المتوقع لحزب البديل من أجل ألمانيا بنحو 20 في المئة من أصوات الناخبين الألمان.
ويعرف هذا الحزب بتوجهاته العدائية نحو المهاجرين وبقربه من الرؤى الروسية، ورفضه دعم أوكرانيا في حربها ضد بوتين، ناهيك برؤاه الأحادية الدوغمائية ورفض الآخر، ومن دون مواربة يعرف عن أنصاره ولاؤهم للإسلاموفوبيا وما إلى ذلك من القضايا.
وخلال كلمته في أعمال مؤتمر الأمن العالمي بميونيخ منتصف فبراير الماضي، بدا أن نائب الرئيس الأميركي جي دي فانس متحامل على القوى السياسية الألمانية التقليدية لمصلحة حزب البديل من أجل ألمانيا.
وانتقد دي فانس ما أطلق عليه سياسة الإقصاء التي تنتهجها الأحزاب الديمقراطية الألمانية ضد اليمين المتطرف، والذي بات سمة رئيسة للسياسة في البلاد، والتقى مرشحة اليمين المتطرف.
وقال دي فانس الجمعة الـ14 من فبراير مستخدماً المصطلح الذي يشير إلى المحرمات السياسية الألمانية ضد الارتباط باليمين المتطرف، "تعتمد الديمقراطية على المبدأ المقدس المتمثل في أن صوت الشعب مهم ولا مجال لجدران الحماية". مضيفاً "إما أن تقبل المبدأ أو لا تقبله".
وبدا هذا اليوم وكأنه "الجمعة الحزينة" في تاريخ العلاقات الأوروبية - الأميركية، فقد كانت واشنطن الحليف الأعظم لأوروبا هي التي انقلبت على شركائها مما أدى إلى تفتيت الغرب، بعد أن حذر دي فانس من أن "ثمة عمدة جديد في واشنطن"، ثم أطلق هجوماً عنيفاً على الديمقراطيات الأوروبية، متهماً إياها بقمع حرية التعبير والحرية الدينية. فهل كان دي فانس وحده من حاول التلاعب بمقدرات الألمان؟
الشاهد أن الفتى المعجزة إيلون ماسك، الذي بات يمثل اليوم الرقم الصعب في إدارة الرئيس ترمب، لعب بدوره عاملاً مساعداً في إنجاح اليمين الألماني عبر منصته "إكس"، فقد قدم دعماً منتظماً لحزب البديل من أجل ألمانيا ومرشحه لمنصب المستشار أليس فايدل، مما دعا المستشار الحالي أولاف شولتز إلى إبداء نوع من الغضب للتدخل الأميركي في السياسات الحزبية الألمانية الداخلية.
على أن نظرة متأنية لما جرى في واشنطن خلال الأيام القليلة الماضية، لا سيما بعد الحوار غير المسبوق في المكتب البيضاوي بين الرئيس الأميركي ونائبه من جهة والرئيس الأوكراني زيلينسكي من جهة أخرى، تقودنا إلى القطع بأن عقبة أوكرانيا ستعمق ولا شك من الشرخ في جدار العلاقة بين برلين وواشنطن في الحال والمستقبل بصورة غير مسبوقة. فما الذي يجري؟
حجر عثرة يدعى أوكرانيا
لم يكن ما جرى في البيت الأبيض أمراً معتاداً، ذلك أنه على رغم الاختلافات السياسية الواضحة بين كثير من ضيوف واشنطن من رؤساء وزعماء، والتي دائماً ما كانت تناقش في المكاتب المغلقة وليس أمام الكاميرات، فإن خروج الخلاف مع زيلينسكي إلى العلن على النحو الذي شاهده العالم حمل رسالة للأوروبيين، والألمان في مقدمتهم، بأن هناك واشنطن أخرى غالب الظن أنها تنحو بعيداً جداً من مسارات الرؤساء الأميركيين السابقين.
وانضمت واشنطن أخيراً داخل مجلس الأمن إلى روسيان في رفضها لمشروع قرار يدين موسكو، وذلك حرصاً على المحادثات الأميركية – الروسية التي انطلقت في الرياض، وغالب الظن أنها ستمضي قدماً بما يقود إلى مرحلة مغايرة من العلاقات بين البلدين، مرحلة عنوانها التفاهم والتصالح والعودة ربما إلى عالم الثنائية القطبية مرة جديدة.
هنا كان من الواضح أن ترمب يريد من زيلينسكي وقف إطلاق النار بصورة فورية وسريعة، فيما الآخر يرفض أن يحدث ذلك من غير ضمانات أمنية، وهو مطلب أوروبي – ألماني قبل أن يكون أوكرانياً.
ويبدو واضحاً أن المخاوف من سيد الكرملين بلغت الحلقوم كما يقال، وأن هناك بالفعل رجفة حقيقية من أن يتكرر السيناريو الأوكراني بنوع خاص ضمن الخاصرة الرخوة القريبة من روسيا، أي دول البلطيق.
وطفت ألمانيا على سطح الأحداث في مواجهة روسيا بوتين، وكأن مخاوف وكراهيات الحرب العالمية الثانية عادت من جديد.
وقبل نحو عام، وبالتحديد خلال مارس (آذار) 2024 تمكنت الاستخبارات السوفياتية من اكتشاف مؤامرة ألمانية تهدف إلى قصف جسر شبه جزيرة القرم بصواريخ ألمانية متقدمة، مما لو تم إلى نهايته لربما كانت روسيا قامت بردود فعل تقرب الجميع من الحرب العالمية الثالثة، التي تحدث عنها ترمب في حواره داخل البيت الأبيض مع زيلينسكي.
خلفت أنباء هذا الاعتداء غير المكتمل حالاً من صحوة الماضي حين تحدى الاتحاد السوفياتي ألمانيا النازية، وجاء الرد على ألسنة عدد من الجنود الروس "سنظهر في برلين عما قريب"، وهو أمر بالحسابات العسكرية ممكن جداً، إذا لا مجال للمقارنة بين القدرات العسكرية الروسية ونظيرتها الألمانية.
والآن تدرك ألمانيا أنها تكاد تكون في ورطة جراء مقارعتها لروسيا عبر أوكرانيا من دون الدعم الأميركي، الذي لولاه لما كان لأوكرانيا أن تظل حاضرة حتى الساعة.
والمعروف أنه حتى الآن كانت ألمانيا ثاني أكبر مانح للمساعدات العسكرية إلى أوكرانيا بعد الولايات المتحدة. وكانت مواقف فريدريش ميرز دائماً لمصلحة كييف وانتصارها على موسكو، حتى وإن لم يكن من المتصور هزيمة دولة نووية.
وبصورة عامة تبنى ميرز موقفاً أكثر تشدداً من موقف المستشار المنتهية ولايته أولاف شولتز، فقد دعا إلى تسليم صواريخ "توروس" الألمانية بعيدة المدى إلى أوكرانيا، وأوضح أن الدعم لأوكرانيا يجب أن يستمر حتى لو توصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار.
غير أن مواقف وتصريحات وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث في مؤتمر ميونيخ للأمن الشهر الماضي، أظهرت أن واشنطن ليس في نيتها التورط داخل مستنقع نووي مع روسيا بسبب أوكرانيا.
وفي هذا السياق كان الحديث واضحاً، وهو أن الولايات المتحدة لن تشارك في أعمال قوات حفظ سلام أوروبية داخل أوكرانيا، وحال تعرض أي من القوات الأوروبية المشاركة في تلك المهمة لاعتداءات من جانب القوات الروسية، فإن واشنطن لن تعمد إلى تفعيل المادة الخامسة من ميثاق "ناتو" الذي يلزم جميع الأعضاء بالدفاع عن أي عضو يتعرض لاعتداء من قوى خارجية.
هنا حتماً ستجد ألمانيا ذاتها في موقف تحسد عليه، وهي التي كانت حتى زمن المستشارة ميركل قاب قوسين أو أدنى من شراكة استراتيجية مع روسيا الاتحادية.
تلقى هذه الخلافات الأميركية – الألمانية بظلال قاتمة على أمرين، مستقبل "ناتو" عسكرياً من ناحية، ومستقبل الوجود العسكري الأميركي على الأراضي الألمانية من ناحية أخرى. فماذا عن الأمرين؟
كعب أخيل أو حلف "ناتو"
يتساءل الأوروبيون اليوم، هل كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على حق حين طالب قبل بضعة أعوام، وخلال ولاية ترمب الأولى تحديداً بجبهة عسكرية أوروبية مستقلة حتى ولو لم تكن بديلاً عن "ناتو"؟
المعروف أن ماكرون هو من أطلق تعبير "الموت السريري" لحلف "ناتو"، وقارب الأمر هذه الحال بالفعل، غير أن الأقدار أمدت الحلف بقبلة الحياة من خلال متغيرين طارئين لم يكن أحد ليتوقعهما إذ جاءا من حيز النوازل القدرية"، الأول هو جائحة "كوفيد 19" التي أعاقت كل تفكير بشري فيما انشغل الجميع بالبحث عن مسارب للنجاة من الموت القادم طائراً على جناح الأثير.
والمتغير الثاني هو العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، والتي يقطع كثير من المراقبين أنها كانت رد فعل على مخططات "ناتو" للزحف والامتداد حتى حدود روسيا، عطفاً على ضم أوكرانيا إلى الحلف بصورة أو بأخرى بما يهدد أمن روسيا.
واليوم، وبعد نيات إدارة ترمب تجاه الحرب الروسية - الأوكرانية ورغبته في وضع حد لها بأسرع وقت مع يقين مؤكد بوقف المساعدات العسكرية، يقول فريدريش ميرز "ستكون أولويتي المطلقة هي تعزيز أوروبا في أسرع وقت ممكن حتى نتمكن من الاستقلال التام".
غير أن الاستفهام التي يطرح هنا ذاته بذاته هو هل هذا الاستقلال الذي يتحدث عنه ميرز يشمل الجانب السياسي والاقتصادي فحسب، أم أنه ينسحب كذلك على الشق العسكري، أي أن تضحى أوروبا بمفردها في مواجهة الدب الروسي الذي لا يقيد؟
ويقول ميرز إن قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) خلال يونيو (حزيران) المقبل يمكن أن تكون لحظة حاسمة، مضيفاً أنه من غير المعروف ما إذا كان الحلفاء "سيظلون يتحدثون عن حلف شمال الأطلسي في شكله الحالي، أو ما إذا كان يتعين علينا إنشاء قدرة دفاعية أوروبية مستقلة بسرعة أكبر".
وخلال الأشهر الأولى من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، أعلن المستشار الألماني أولاف شولتز أن ألمانيا ستعود من جديد إلى الاهتمام بواقعها العسكري، ورُصد بالفعل نحو 100 مليار يورو (106.99 مليار دولار) لتحسين أحوال العسكرية الألمانية مرة جديدة.
غير أن واقع الحال يضع الألمان أمام تساؤلات عدة، في مقدمها حال الصناعات العسكرية الأوروبية بصورة عامة، والمتراجعة كثيراً جداً عن نظيرتها الروسية، ويكفي المرء أن يراجع مشهد الصاروخ الروسي المخيف "أوريشنيك" برأس تقليدية وليست نووية تكتيكية، وما أحدثه من هلع حين أطلق كإشارة رمزية على أهداف أوكرانية، مما فهمه الأميركيون كرسالة ومن هنا أدركوا عبثية استمرار هذه الحرب.
الأمر الآخر هو مدى إمكانية استجابة بقية الدول الأوروبية للتوجهات الألمانية الخاصة بالانسحاب من "ناتو"، أو فك العروة التي تجمع دولاً أوروبية وثيقة الصلة بالولايات المتحدة، لا سيما المملكة المتحدة.
وهنا تبدو خيارات المستشار الألماني الجديد مثيرة للتأمل وتدور من حولها علامات استفهام عريضة، لا سيما أن فكرة إنشاء جبهة دفاعية عسكرية أوروبية أمر يحتاج إلى جهد ضخم، ويتطلب قدراً كبيراً من الإرادة السياسية.
وبعض الأنباء في الداخل الألماني تذهب إلى أن أحد الخيارات تدور حول قيام ألمانيا بمصادرة أصول الدولة الروسية وأموالها المتوافرة لديها، والمكشوف منها يصل إلى 200 مليار دولار، وربما تكون هناك أصول مخفية أخرى يمكن استخدامها كنواة في تجهيزات عسكرية لمواجهة روسيا، غير أن هذا الأمر حكماً سيثير ثائرة دونالد ترمب وإدارته ويدفعه في طريق قرارات ربما تعرض ألمانيا لخيارات أميركية مزلزلة. فماذا عن هذا التوجه؟
جنود أميركا من ألمانيا إلى بولندا
هل يمكن أن يؤدي الطريق الأميركي– الألماني المسدود في زمن المستشار الجديد فريدريش ميرز، إلى قيام إدارة ترمب بإحداث تغييرات هيكلية في علاقاتها التاريخية مع برلين؟
المعروف أنه منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقيام الحلفاء بفرض عقوبات على ألمانيا، وفي مقدمها القيود العسكرية على جيشها وعتادها العسكري، عدت مهمة حماية ألمانيا إحدى مهام "ناتو" وبتوكيل أميركي عبر القواعد العسكرية المنتشرة على أراضيها، واليوم يوجد هناك نحو 35 ألف جندي أميركي يقومون على حماية ألمانيا.
ولأن الرئيس ترمب لديه عقلية غير متوقعة فمن المحتمل جداً، لا سيما حال إصرار ميرز على دعم أوكرانيا وإثارة عداوة بوتين، أن تسعى واشنطن إلى سحب جنودها من هناك، مما يترك الجيش الألماني التقليدي الذي يعاني نقصاً حاداً في الكوادر والتجهيزات وحيداً في مواجهة ما لا يقدر على مقابلته من نوازل بوتين تارة، ومن يدري ربما يلحق به الصينيون عند لحظة زمنية بعينها.
هنا تطفو على السطح علامة استفهام "إلى أين يمكن أن تمضي القوات الأميركية الموجودة داخل القواعد الألمانية، حال تدهورت العلاقات على جانبي الأطلسي؟"
الجواب لم يتأخر من طرف أوروبي يبدو مرشحاً بقوة لعلاقة خاصة مع واشنطن، ونعني به بولندا. فقد أعلن الرئيس البولندي أندريه دودا أنه إذا كانت ألمانيا لا تريد قوات أميركية على أراضيها، فإن بولندا ستكون سعيدة باستقبالهم.
وكان دودا يرد على تصريحات ميرز بأن ترمب لا يهتم بأوروبا، وأن القارة تحتاج بصورة عاجلة إلى تعزيز دفاعاتها، وقد جاءت تصريحاته عبر قناة "بولسات نيوز" البولندية.
ويرى دودا أن الأمر ربما يمثل فرصة تاريخية، لهذا أضاف "أنا مهتم بنقل كل التعاون الذي تتمتع به ألمانيا مع الولايات المتحدة إلى بولندا، وعلى استعداد تام لذلك".
ووضع دودا المستشار الألماني القادم أمام واقع حقيقي بقوله "حلف شمال الأطلسي من دون الولايات المتحدة؟ كل شيء ممكن، ولكن ما الهدف منه؟ إذا كان هناك تحالف أمني من دون الولايات المتحدة، فإن ضماناته بلا أقوى قوة في العالم ستكون وهمية بكل بساطة".
دودا يرى أن "الحليف الموثوق به هو الولايات المتحدة التي أظهرت مراراً وتكراراً على مدى المئة عام الماضية أنها عندما تعود إلى اللعبة فهي قادرة على مقاطعة أي صراع مسلح وإنهائه. لقد رأينا هذا خلال الحرب العالمية الأولى، ورأيناه خلال الحرب العالمية الثانية، هنا في أوروبا". ماذا يعني ذلك؟
يعني أن الولايات المتحدة لن تعدم بديلاً على الأراضي الأوروبية ليقوم مقام ألمانيا لوجيستياً في الأقل، مما يخصم من القيمة الاستراتيجية لألمانيا.
والمعروف أن دودا تواصل مع ترمب أخيراً، إذ سافر إلى الولايات المتحدة وشارك في فعاليات مؤتمر العمل السياسي المحافظ، إذ التقى لفترة وجيزة مع الرئيس ترمب.
وقال دودا خلال المقابلة إنه لا يخشى أن "يبيع ترمب أوكرانيا"، وهو رد فعل على العلاقات الوثيقة بين الرئيسين الأميركي والروسي والإدانات الحادة للرئيس الأوكراني.
أبعد من ذلك، اعتبر دودا أن أميركا استثمرت بالفعل مبالغ ضخمة من المال داخل أوكرانيا، وأن من حق الولايات المتحدة أن تحصل على شيء في المقابل، في إشارة لا تخطئها العين لفكرة الاتفاق الذي يسعى إليه ترمب مع أوكرانيا للحصول على حصة من معادنها النادرة.
فهل يمكن أن تسفر الخلافات الألمانية – الأميركية عما هو أشد خوفاً بالنسبة إلى ألمانيا؟ والجواب موصول ولا شك بالمظلة النووية الأميركية التي قدمت الحماية لألمانيا لعقود طوال، وهل يمكن أن تقوم واشنطن بسحبها لتجد ألمانيا ذاتها تحت رحمة الصواريخ الروسية؟ أم أنه يمكن لأوروبا أن تنشئ مظلتها النووية الخاصة بها وبعيداً من مظلة "ناتو" بمقدمته الأميركية؟