ملخص
يبدو أن "الثنائي الشيعي" بدأ الانقلاب على التعهدات التي التزم بها خلال المفاوضات التي أُجريت بعد حرب "حزب الله" مع إسرائيل، إذ نفى وجود اتفاقات موقعة من قبل الحكومة وكذلك رفض المقايضة بين إعادة الإعمار وتسليم سلاح "حزب الله" للدولة.
في مشهدٍ بات مكرراً إلى حد العبث، تطل قيادات "الثنائي الشيعي"، وعلى رأسها رئيس مجلس النواب نبيه بري، لتكرار مسلسل الخداع السياسي والتلاعب الفج بالحقائق والتفاهمات التي دُفعت دماء اللبنانيين ثمناً لها، وبخاصة تلك التي عُقدت تحت وطأة الحروب التي جرَّ إليها "حزب الله" لبنان، ثم فُرضت على الحزب وشريكه بري تنازلات قاسية أجبرتهما الظروف على قبولها تحت ضغط عسكري دولي قاسٍ.
يصر نبيه بري، بأسلوب يحمل الكثير من المراوغة والخداع السياسي، على نفي وجود اتفاقات مع إسرائيل، على رغم وجود نص رسمي موقّع من الحكومة اللبنانية، ففي لحظة الحقيقة التي أُرغم فيها "حزب الله" على الخضوع لشروط القرار (1701)، تسلّم بري ملف التفاوض، وقاد بنفسه، بالتنسيق الكامل مع "حزب الله"، عملية الوصول إلى اتفاق وقف إطلاق النار في الـ27 من نوفمبر (تشرين الثاني) 2024 بوساطة أميركية، وبعدما وقَّعه بنفسه، قدّم الاتفاق للحكومة اللبنانية مرفقاً بشروط واضحة تشمل حصر السلاح بيد خمسة أجهزة أمنية رسمية لبنانية فقط، مانعاً أي التفاف على هذه الشروط.
ولم يكتفِ بري بنفي وجود الاتفاق الموقّع وحتى علمه بـ"ورقة الضمانات"، التي بموجبها حصلت إسرائيل على حرية العمل العسكري عبر الأجواء اللبنانية واستهداف ما تعتبره أهدافاً مشبوهة، بل ذهب بعيداً برفض ما سماه "مقايضة تسليم سلاح الحزب للدولة اللبنانية مقابل إعادة الإعمار وتعويض الأضرار"، وواجه رئيس الجمهورية جوزاف عون بشروط تعكس كميناً سياسياً محكماً، تمهيداً للانقلاب عبر محاولة إفشال انفتاحه على الشروط العربية والدولية، التي باتت واضحة لناحية عدم استعدادها لمساعدة لبنان قبل التأكيد على أن قرار الحرب والسلم بات بيد الدولة، وحصر السلاح بيد الجيش.
تصريحات بري هذه تثير تساؤلات جدية حول مدى صدق الطبقة السياسية في لبنان، وحول محاولاتها المستمرة للالتفاف على الحقائق وتضليل الرأي العام. ففي عام 2006، وبعد توقيع اتفاق على القرار الدولي رقم (1701) خلال الحرب مع إسرائيل، سرعان ما التفَّت بعض القوى السياسية على هذا القرار، واتهمت الحكومة اللبنانية آنذاك بالتعامل مع إسرائيل، ونظَّمت تظاهرات في وسط بيروت، وأقامت مخيمات اعتصام دائمة، مطالبة باستقالة الحكومة، وصولاً إلى أحداث السابع من مايو (أيار) 2008 الشهيرة، إذ فرضت واقعاً أمنياً جديداً في البلاد.
التنصل من الالتزامات
اليوم، تظهر بوادر خطيرة في لبنان تشير إلى أن "حزب الله" بدأ يشعر بالاطمئنان إلى أن الحرب الخارجية انتهت، وبدأ يوجّه أنظاره نحو الداخل، ساعياً إلى إسقاط المرحلة الجديدة التي بدأها العهد الحالي. فالرئيس عون بدأ عهده بخطاب قسمٍ واضح، يُعتبر الأول من نوعه منذ اتفاق الطائف عام 1990، إذ أظهر حزماً في قيادة البلاد، كما كان لافتاً كلامه في القمة العربية الاستثنائية التي عُقدت في القاهرة، حيث أكد أن لبنان لم يعد ساحة لحروب الآخرين على أرضه، وتحدث عن مقاربة للقضية الفلسطينية تنسجم مع السقف العربي المرفوع وحل الدولتين بما يتفق عليه العرب.
في هذا السياق، تأتي تصريحات بري الرافضة لمقايضة المساعدات وإعادة الإعمار بسحب سلاح "حزب الله"، لتزيد من حدة الجدل، فالجميع بات يعلم أن سلاح "حزب الله" أصبح قضية دولية وعربية وإقليمية ومحلية، نظراً إلى تدخلات الحزب في سوريا والعراق واليمن والبحرين، وتأثيره في عدد من دول العالم، إضافة إلى اتهامه بتجارة المخدرات والكبتاغون وتبييض الأموال وغيرها، هذه الوضعية باتت تزعزع الأمن والاستقرار الإقليميين والدوليين، مما أدى إلى ضغوط متزايدة على سلاحه ودوره، ومطالبة الحكومة اللبنانية بالقيام بما يلزم لمنعه وإعادته تحت الشرعية والقوانين.
ما يثير الاستغراب والدهشة هو الهجوم الشرس الذي يشنه جمهور وقيادات "الثنائي الشيعي" على الرئيس جوزاف عون ورئيس الحكومة نواف سلام، محمّليهما مسؤولية الحرب الأخيرة ونتائج الاتفاق الذي تم التوصل إليه.
هذا الهجوم يتسم بالوقاحة، وبخاصة أن بري نفسه كان المفاوض الرئيس، بتكليف من "حزب الله"، في التوصل إلى الاتفاق، متناسين أنهما كانا السبب الرئيس في هذا التوقيع.
هذا يثير تساؤلات حول سبب هجوم الرأي العام التابع لـ"الثنائي الشيعي"، فلماذا لا يهاجمون من كان سبباً في هذا التوقيع، وهو رئيس مجلس النواب نبيه بري، بالتنسيق مع "حزب الله"؟
التضليل والفوضى
لكن بري، الذي اعتاد طوال عقود من العمل السياسي استخدام الحيل والتلاعب بالألفاظ، عاد مرة أخرى لينفي علناً هذا الاتفاق، مستهدفاً تضليل اللبنانيين، وخلق حال من الفوضى السياسية، بهدف التحرر من قيود اتفاق فرضته هزيمتهم العسكرية والسياسية الواضحة. هذه المناورة الخطيرة ليست مجرد تلاعب سياسي داخلي، بل تهدد بجرّ البلاد نحو كارثة حقيقية قد تكون نتيجتها فتنة داخلية أو حرباً أهلية جديدة، أو تدميراً كاملاً لكيان الدولة اللبنانية.
فمن الواضح أن "حزب الله"، وبعدما خسر رهانيه العسكري والسياسي في الحرب الأخيرة مع إسرائيل، قرر استعادة ما خسره داخلياً من خلال إسقاط كل التفاهمات، مستخدماً بري واجهة سياسية لتبرير خرق التزامات لبنان الدولية، والتراجع عن الشروط القاسية التي قبِلها الحزب في لحظة ضعف.
هذا السلوك الانتحاري يهدد بإعادة لبنان إلى نقطة الصفر، بل وربما إلى ما هو أسوأ من ذلك، عبر فتح أبواب الجحيم من جديد على البلاد، مما قد يُنذر بتقسيم لبنان أو إعادة احتلاله من قِبل إسرائيل وصولاً ربما إلى قلب العاصمة بيروت هذه المرة.
والأخطر في هذه اللعبة المتهورة أن نبيه بري، بأساليبه السياسية الملتوية يتحمّل المسؤولية الأكبر في إيصال لبنان إلى هذه المرحلة الحرجة، فهو الذي يدّعي حماية الدستور والشرعية اللبنانية بينما يمارس الالتفاف على هذه الشرعية من خلال تحالفه الكامل مع "حزب الله"، الذي يرفض بالمطلق تسليم سلاحه أو وضعه تحت سلطة الدولة.
هذه الازدواجية تكشف الوجه الحقيقي لبري، الذي كثيراً ما أجاد استخدام المناصب الرسمية لتغطية انخراطه في أجندة الحزب الإقليمية، التي دمّرت علاقات لبنان الخارجية وأبعدته عن محيطه العربي وأدخلته في عزلة دولية خانقة.
اليوم، ومع الهجوم الوقح وغير المبرَّر الذي يقوده جمهور "الثنائي الشيعي" ضد الرئيس عون ورئيس الحكومة سلام، نجد أن من يقف خلفه مباشرة هو بري، في محاولة منه للهروب من المسؤولية المباشرة عن الاتفاق الذي أشرف عليه بنفسه.
لم يكتفِ بري بتوريط الحكومة وتكبيل الدولة اللبنانية بشروط تعجز عن تنفيذها، بل تجرأ ليحوّل المسؤولية إلى الرئيسين الجديدين، مستغلاً فوضى الشارع الموجَّه إعلامياً وسياسياً من قبل "حزب الله".
بري وشريكه "حزب الله" يعلمان جيداً أن الدولة اللبنانية اليوم عاجزة تماماً عن توفير متطلبات إعادة الإعمار بسبب رفضهما الواضح للشروط الدولية المتعلقة بحصر السلاح بيد الدولة.
وعلى رغم ذلك، فإنهما يُصرّان على تحميل الحكومة اللبنانية والدول العربية المسؤولية في وقاحة سياسية غير مسبوقة، هذا السلوك الانتقائي يعكس نهجاً خطيراً في التعامل مع الدولة اللبنانية، إذ يريدانها دولة فقط عندما يحتاجان إلى المال، بينما يرفضان تماماً الالتزام بشرعية هذه الدولة أو احترام قوانينها ومؤسساتها.