Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
يحدث الآن

حملة في باريس تمنع كتابا عن فكر الصحوة "الووكية"

اعتراض جماعي على تضييق الحريات الأكاديمية في فرنسا وتنديد بتأثير "الترمبية"

رسمة تمثل الفكر الووكي أو الصحوة (غيتي)

ملخص

يبدو أن مساحة الحريات الأكاديمية آخذة في الانكماش بفرنسا، ففي الوسط الجامعي الفرنسي، في المكان المفترض أن يتسع لجميع الآراء والنقاشات الفكرية وتطوير المعرفة النقدية بعيداً من الدغمائية، تعد دراسة الحركة "الووكية" نشاطاً علمياً محفوفاً بالأخطار.

ألغت "المنشورات الجامعية الفرنسية" (PUF) نشر كتاب جماعي بإشراف باحثين كبار مثل بيار فيرميرين، أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة باريس 1 بانتيون - سوربون، وإيمانويل هينان، أستاذة الأدب المقارن، وكزافيه - لوران سالفادور، أستاذ الأدب الحديث في الجامعة نفسها، وعنوانه "في مواجهة الظلامية الووكية"، الذي كان من المقرر إصداره بداية شهر أبريل (نيسان) من هذا العام، وذلك بعد حملة قادها ضده بعض المثقفين والصحافيين.

في إطار استجابة لمبادرة "قفوا من أجل العلم" التي أطلقت في أميركا، قررت بعض الجامعات الفرنسية الأسبوع الماضي التنديد بتأثير "الترمبية" على النقاش الفكري والبحث العلمي. فافتتح هذا اليوم الاحتجاجي في "الكوليج دو فرانس"، المؤسسة الفرنسية العريقة التي تختص بالبحث العلمي والتعليم العالي، بكلمة للمؤرخ باتريك بوشيرون، أستاذ كرسي "تاريخ السلطات في أوروبا الغربية من القرن الـ13 إلى القرن الـ16"، انتقد فيها "جزءاً كبيراً من الإعلام" وبعض "الحمقى الجامعيين" الذين يزعمون في رأيه أن "الووكية تشكل تهديداً للمجتمع"، شاجباً مواصلة بعض دور النشر، مثل "المنشورات الجامعية الفرنسية" (PUF) التحضير لإصدار كتاب بعنوان "في مواجهة الظلامية الووكية". وقد نجح بوشيرون في إيقاف نشر هذا الكتاب الجماعي في اللحظة نفسها التي كان يتحدث فيها عن التهديدات التي تحدق بحرية التعبير في الولايات المتحدة الأميركية، معيباً على مؤلفيه الحديث عن الآثار الووكية المدمرة، في رفض صريح منه لأي مشروع نشر لا يسير في الاتجاه التفكيكي للتاريخ ولتجاهل النقاش الضروري للفكر العلمي.

وللتذكير، إن الووكية، موضوع الكتاب، بدأت في الستينيات من القرن الماضي في الأوساط الأفرو - أميركية ووصلت إلى أوروبا.

الدعوة إلى الاستيقاظ

في البداية، كان الغرض من هذه الحركة دعوة الناس إلى الاستيقاظ من سباتهم الفكري الذي سيطر على الثقافة والمجتمعات الغربية، مخدراً حسهم بالمسؤولية والنقد والإصلاح، لكنها تجاوزت اليوم حدود المطالبة بالصحوة الفكرية ورفض العبودية والتنديد بالعنصرية النظامية وعنف الشرطة، لتشمل قضايا أخرى. إذ بدأت الووكية تدعو أنصارها إلى المناداة بالهدم المنهجي لكل القيم الأخلاقية التي قامت عليها هذه المجتمعات، منتقلة من مناصرة المقهورين والمهمشين إلى المطالبة بإنصاف الأقليات، أياً يكن نوعها، عرقياً وجندرياً، مؤيدة المثلية والثنائية الجنسية والتحول الجنسي، مطالبة بإعادة كتابة التاريخ البشري و"تعديل مسلمات العلوم الإنسانية، وشطب الإحالات العنصرية، وتشذيب المعاجم من الاصطلاحات التي تضمر بعضاً من التمييز غير المتعمد"، وحذف "كل مفردة أو صفة أو أداة تصطبغ بالاستعلاء الذكوري من قاموس اللغة"، على ما يكتب مشير عون في إحدى مقالاته التي تناولت هذه الحركة الجاعلة من كل خطاب يخالف مطالبها خاضعاً للإدانة.

كانت الووكية مثلاً وراء إنشاء الكتابة الشاملة، التي نظرت إلى اللغة الفرنسية على أنها لغة غير عادلة وتمييزية ضد المرأة، لأن "المذكر فيها يغلب المؤنث"، كما كانت وراء الترويج لفكرة أن النظام البطريركي مسؤول عن جميع الآفات في المجتمع، إلخ.

كرد فعل على موقف بوشيرون من الكتاب قيد النشر، تم توزيع بيان جماعي موقع من قبل باحثين وباحثات في العلوم الاجتماعية عبروا فيه عن قلقهم إزاء القيود الجديدة المفروضة على الحريات الأكاديمية التي باتت اليوم مهددة بالفعل، ليس فقط من خلال مجموعة من الإجراءات القانونية، بل من قبل عمليات الرقابة الذاتية والضغوط والتجريم، وهي ممارسات دخلت حديثاً على خط المجال العلمي الفرنسي، مما يحد من دور الجامعات كمكان يستطيع الباحث فيه طرح جميع الأسئلة دون خوف من الحكم المسبق.

 ويبدو بحسب بعض الأساتذة الجامعيين والصحافيين أن باتريك بوشيرون، منذ نجاح كتابه "التاريخ العالمي لفرنسا"، الذي صدر سنة2017 وبيع منه أكثر من 100 ألف نسخة، بات يتحكم بالمشهد الأكاديمي الفرنسي، مما يؤكد المخاوف التي عبر عنها بيار فيرميرين. وتقول إيمانويل هينان، "إن بوشيرون يعتمد على موقعه في (الكوليج دو فرانس) وقربه من السلطة ليمنح نفسه سلطة أخلاقية وأيديولوجية".

الإرهاب الفكري

 هذا الإرهاب الفكري من قبل بعض أساتذة الرقابة في "الكلية الفرنسية" التي تضم أساتذة هم الأفضل في مجال اختصاصاتهم ومراكز بحثية عالية المستوى، كان كافياً لتلغي دار النشر إصدار الكتاب.

 واللافت أن أصداء قرار "تعليق نشر الكتاب" وصلت إلى القيمين عليه من طريق المقالات الصحافية التي صدرت في صحيفة "ليبراسيون" و"لوفيغارو" وفي مجلة "لو نوفيل أوبسرفاتور"، قبل أن يتلقوا رسالة رسمية من الناشر، يبرر لهم فيها قرار الإلغاء بـ"السياق غير الملائم للنشر" وبـ"التوترات الأيديولوجية الحالية"، على رغم أن "المنشورات الجامعية الفرنسية" كانت قد وافقت على نشر الكتاب قبل ثلاث سنوات.

يعترف المشرفون على الكتاب أن عنوانه "إشكالي ومثير للجدل"، لكنهم يؤكدون في الوقت عينه على طابعه العلمي. فالكتاب يضم 26 دراسة تقارب الحركة الووكية من زوايا علمية وسياسية مختلفة، تهدف كلها إلى تسليط الضوء على كيفية تغلغل هذه الأيديولوجيا التقاطعية في العلوم الاجتماعية والعلوم الدقيقة على حد سواء.

يقول بيار فيرميرين، المشرف الأساس على الكتاب، إن صحيفة "ليبراسيون" دانت الكتاب دون قراءته، مستندة فقط إلى عنوانه، مدرجة إياه على "القائمة السوداء"، كما لو أن الحملة التي تطاول هذا المؤلف سياسية. فهي "لا تنظر في التفاصيل، بل تعتمد بصورة تعسفية على خلطات فجة"، علماً أنه ليس بين المؤلفين الذين وضعوا الدراسات التي يشكل مجموعها متن الكتاب أي شخص على صلة بالرئيس الأميركي دونالد ترمب وتوجهاته السياسية وخياراته الأخلاقية. وقد أشار الباحث بيار فالنتين الذي وضع دراسة في الكتاب حول العلاقة بين الليبرالية وأيديولوجيا "الووك" إلى مدى تأثر فرنسا بالنموذج الأميركي، الذي بات يحدد المواضيع المسموح بها أو المحرمة في النقاش الفكري الفرنسي. في حين رأى بيار فيرميرين أن "ممارسة الرقابة في بلدان حرة هو أمر غير مناسب على الإطلاق، بخاصة في وقت تسجن فيه بلدان عديدة كتاباً. هذا الاتجاه قاس بالنسبة إلى الباحثين في دول الجنوب، الذين يعيشون في بلدان لا تمتلك أيديولوجيات، بل أنظمة سلطوية خالصة".

خلاف حول المصطلح

ولئن أكد بعض الأكاديميين في "الكوليج دو فرانس" أن مصطلح "ووك" غير أكاديمي ولا يحمل تعريفاً علمياً دقيقاً، فإن باحثين آخرين أكدوا أنه مصطلح محدد وواضح، على غرار ما كتبه فيلسوف العلوم جان - فرنسوا بروانشتاين في كتابه "دين الووكية" الصادر عن دار "غراسيه أو بيار فالنتان في كتابه "فهم الثورة الووكية" الصادر عن دار "غاليمار، واللذان قاما بتقديم تعريف دقيق لهذا المصطلح، مشددين على أن الووكية خطر يهدد مصير عصر الأنوار، وأن الإدانات الاعتباطية التي تطلقها إنما تصدم المتنورين.

اقرأ المزيد

 ولكنَّ ثمة سؤالاً يسأل: لماذا يعد مصطلح "النظام الأبوي" مصطلحاً علمياً مناسباً، في حين ينظر إلى مصطلح "الووكية" بوصفه مصطلحاً فضفاضاً غير دقيق؟ ومن يحدد المصطلحات المقبولة في الخطاب الأكاديمي والمواضيع المسموح مناقشتها فكرياً؟

يلاحظ بعض المتابعين لهذا السجال أنه لم يعد أمام مؤلفي "في مواجهة الظلامية الووكية" سوى خيارين: "إما الصمود في وجه الرقابة ونشر الكتاب في "المنشورات الجامعية الفرنسية"، أو اللجوء إلى دور نشر أخرى. في حين يرى البعض الآخر أن "الاستسلام غير مقبول"، معتبرين أن دار النشر "أهانت نفسها" حين خضعت سريعاً للضغوط التي مورست عليها.

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن الكتاب لم يكن بمنأى عن الهجوم منذ البداية. فقد حذف الناشر من مسوداته فصل وضعته عالمة الديموغرافيا ميشيل تريبلات، ناقشت فيه أطروحات عالم الاجتماع فرنسوا هيران، أستاذ كرسي "الهجرة والمجتمعات" في "الكوليج دو فرانس"، لكن المشرفين على الكتاب وضماناً لنشره، اضطروا  إلى الخضوع لهذا القرار. غير أنهم أصروا على إهدائه "إلى جميع ضحايا الرقابة"، من دون أن يدركوا أن أسماءهم ستكتب لاحقاً على رأس لائحتها.

مهما يكن من أمر هذا الكتاب، فإن السجالات التي ترافق إصداره تنذر بتحولات كبرى على الساحة الفكرية الفرنسية. لعلها تنذر بأن النخبة الثقافية والسياسية ما زالت منقسمة إزاء "الووكية" التي ينظر إليها اليمين كغول أيديولوجي يهدد ثقافة فرنسا ومؤسساتها العريقة، محاولاً استبدال أنساق ثقافية مدمرة بها، وأن "الأمركة" زاحفة لا محالة إلى أوروبا وأن وسائل الإعلام تترصد كل الكتابات والتعليقات التي تتناول هذه المفاهيم، بينما تتقاعس الأوساط الجامعية عن مواجهة هذه الحركة الثورية وتبعاتها.

المزيد من ثقافة