ملخص
تنازل الدائنون الثنائيون بموجب الاتفاق عن 3 مليارات دولار، كما منحت روسيا الصومال إعفاء بقيمة 684 مليوناً.
استعادت الصومال التي عانت ويلات الحرب الأهلية والإرهاب والمشكلات الاقتصادية، الأمل بوطن يسوده السلام والوئام والعيش الكريم، بعد أن ألغت كثير من دول العالم الديون المترتبة عليها، إذ ألغى أكبر المقرضين، الولايات المتحدة، أكثر من مليار دولار، وهو ما يمثل خطوة حاسمة في إعادة دمجها في النظام المالي العالمي بعد غياب دام أكثر من 30 عاماً.
وعلى مدى الأعوام الـ 15 الماضية واجهت حكومات مقديشو المتعاقبة التي تكافح من أجل فرض سيطرتها على دولة منقسمة، تمرداً بقيادة جماعة "الشباب" المسلحة، ولقي آلاف حتفهم في الصراعات والهجمات مع توسع الحركة وامتداد دائرة العنف لتصل إلى خارج الصومال، في حين أكدت الحكومة الحالية بقيادة الرئيس حسن شيخ محمود أنها أحرزت تقدماً في قمع حركة "الشباب".
ويرى مسؤولون مقربون من محمود أن إلغاء الديون يمثل حدثاً محورياً ويأتي نتيجة جهود الإدارة الرامية إلى معالجة التحديات الاقتصادية والسياسية ذات الجذور العميقة، ومن شأن الاتفاق أن يمكن الصومال من الحصول على قروض ميسرة وتعزيز الإصلاح الاقتصادي وإرساء الأساس للنمو المستدام.
تخفيف الديون
وفي إطار مبادرة "صندوق النقد الدولي" الخاصة بالدول الفقيرة المثقلة بالديون، حصلت الصومال على تخفيف أعباء ديونها البالغة 4.5 مليار دولار أميركي، وتعمل حزمة التخفيف على خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 65 إلى نحو ستة في المئة، وهو ما يزيل عقبة كبرى أمام تعافي واحدة من أكثر دول العالم تضرراً، ولا سيما بعد إقحام البلاد في دوامة الحروب القبلية عقب الإطاحة بحكومة محمد سياد بري عام 1991، والمحاولات الفاشلة اللاحقة من قبل الولايات المتحدة والقوى الأخرى لتحقيق الاستقرار في البلاد.
أولويات اقتصادية
وأوضح الخبير الاقتصادي في "معهد مقديشو" ياسر أفرح أن إجراءات تخفيف ديون الصومال ترفع عبئاً كبيراً عن كاهل البلاد وتسمح للأمة بالتركيز على الأولويات الاقتصادية والحد من الفقر وخلق فرص العمل، وكلها ضرورية لتحقيق الاستقرار على المدى الطويل، بخاصة وأن المؤسسات الدولية الداعمة وافقت على شطب الديون بعد أن استوفت الصومال 13 من أصل 14 شرطاً تتعلق بالنفقات وجمع الضرائب والحوكمة والإحصاءات وتخفيف حدة الفقر.
تنازل الدائنين
وأضاف أنه بموجب الاتفاق تنازل الدائنون الثنائيون عن 3 مليارات دولار، ومنحت روسيا الصومال إعفاء بقيمة 684 مليوناً، وهذه العملية التي استمرت لنحو عقد من الزمان تعكس تحسناً في علاقات الصومال مع المجتمع الدولي، كما كشف أفرح عن أن الولايات المتحدة أكبر مقرض للصومال، إذ كانت تمتلك ما يقارب خُمس إجمال ديون مقديشو عام 2018، قبل بدء جهودها لتخفيف أعباء الديون.
عدم استقرار
وبناء على أحدث البيانات المتاحة فلا يزال وضع الدين العام في الصومال يمثل تحدياً بسبب عقود من الصراع وعدم الاستقرار السياسي والهشاشة الاقتصادية، إذ يقدر إجمال الدين العام بنحو 5.2 مليار دولار، يشمل الديون الخارجية والمحلية، لافتاً إلى أن الصومال تجاوز مراحل عدة في جهود تخفيف عبء الديون بعد أن باشر بتنفيذ إصلاحات اقتصادية واستيفاء المعايير الرئيسة للتأهل لتخفيف ديونه.
سعى الصومال خلال العام الحالي إلى الوصول لـ "مرحلة الإنجاز" في إطار "مبادرة البلدان الفقيرة المثقلة بالديون"، ومن المتوقع إعفاؤه من 4.5 مليار من الديون مما يقلص ديونه إلى نحو 700 مليون دولار، أي بخفض نسبته 90 في المئة.
انتعاش الاقتصاد
وأضاف بروفيسور الاقتصاد حسين إيمان أن الانتعاش الاقتصادي في الصومال وتصفية الديون بالكامل مربوطان بالاستقرار السياسي المستدام والإصلاحات المستمرة والدعم الدولي، ولدى بلوغ الصومال "نقطة الإنجاز" يمكن تخفيف ديونه بصورة كبيرة والبدء في إعادة بناء اقتصاده، ومع ذلك قد تستغرق فترة عودة الانتعاش الاقتصادي الكامل من 10 إلى 20 عاماً، اعتماداً على عوامل عدة ومنها تحسين الاستقرار والحوكمة والاستثمار في البنية التحتية ورأس المال البشري، وتنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على التحويلات المالية.
كما بيّن أن هناك عوامل عدة تساعد الصومال في تخفيف ديونه وإعادة بناء اقتصاده، ومنها الدعم الدولي وتنفيذ إصلاحات لتحسين الإدارة المالية العامة وزيادة تحصيل الإيرادات وتعزيز الحوكمة وغيرها.
ويلحظ قطاع البناء في الصومال نمواً لافتاً، ولا سيما في مقديشو، على رغم أنه يواجه تحديات كبيرة، ففي حين أدى استثمار المغتربين وتحسن الأمن إلى تسريع التعافي لكن عقبات مثل انعدام الأمن والافتقار إلى التنظيم وضعف البنية التحتية لا تزال تعوق التقدم، وعلى رغم أن البيانات الدقيقة المتعلقة بحجم البناء والإنفاق محدودة لكن يعول كثيراً على هذا القطاع باعتباره محركاً رئيساً للتعافي الاقتصادي في البلاد.
قطاع البناء
وأكد إيمان أن بداية نمو قطاع البناء في الصومال كانت عام 2021 حين بدأ البلاد بالتعافي من مخلفات الحرب الأهلية، ويقدر معدل نمو القطاع ما بين 15 و25 في المئة سنوياً، على رغم أن هذ المعدلات تختلف بحسب كل المنطقة، فقد شهدت مقديشو نشاطاً كبيراً في مجال البناء حيث أدى النمو السكاني السريع والهجرة إلى مدن مثل مقديشو وهرجيسا وبوساسو إلى زيادة الطلب على المساكن والبنى التحتية، إضافة إلى استثمار المغتربين بكثافة في مشاريع العقارات والبناء.
استقرار نسبي
وقال إيمان إن تحسن الوضع الأمني والاستقرار النسبي شجعا على استثمارات القطاع الخاص، وذكر أن ورش البناء في مقديشو تعتبر الأعلى في الصومال، حيث تشير التقديرات إلى أن قطاع البناء يمثل ما بين 10 و15 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، ففي العاصمة وحدها هناك أكثر من 788 من المشاريع الإنشائية قيد التنفيذ، بما في ذلك المباني السكنية والعقارات التجارية والفنادق ومشاريع البنى التحتية مثل الطرق والموانئ، وتقدر القيمة الإجمالية لمشاريع البناء هناك خلال العام الحالي بأكثر من 500 مليون دولار منذ بداية الربع الأول من العام الحالي، حيث يتركز جزء كبير منها في العاصمة.
وقال إن الاختلافات الإقليمية تحدث تغييرات في معدلات البناء، إذ نرى أن العاصمة مقديشو شهدت أكبر نشاط إنشائي مدفوعاً بمكانتها كمركز اقتصادي وسياسي للصومال، بينما نالت هرجيسا (صوماليلاند) أيضاً نمواً كبيراً مع التركيز على البنية التحتية والعقارات، ومن المتوقع أن يستمر قطاع البناء في النمو مدفوعاً بالتحضر واستثمار المغتربين والجهود الحكومية، ومع ذلك سيعتمد النمو المستدام على تحسين الأمن وتعزيز الأطر التنظيمية ومعالجة أوجه القصور في البنى التحتية.
وأشار المدير العام للهندسة والبناء في الصومال المهندس سليمان حسين إلى أن القطاع يلحظ نمواً على رغم ما يواجهه من عدم استقرار سياسي وأخطار أمنية، أدت إلى تراجع المشاريع والاستثمار الأجنبي والإنفاذ غير المتسق لقوانين البناء والتصاريح، مؤكداً أن الصومال يعتمد بصورة كاملة على المواد المستوردة بسبب افتقاره إلى الصناعات المحلية وزيادة الكُلف، وأن آخر التقديرات تشير إلى أن هناك زيادة سنوية بنسبة تتراوح ما بين 17 و22 في المئة داخل المدن الكبرى.
تصاريح البناء
وبينت التقارير الصادرة عن بلدية مقديشو إصدار نحو أكثر من 6425 تصريحاً سنوياً، ورجحت أن تتزايد مشاريع البناء غير المرخص لها، لا سيما في المناطق الريفية التي تفتقد إلى حد كبير أنظمة التصاريح، بحسب ناشطين.
وكشف حسين عن ورود بلاغات كثيرة عن الانهيارات المتكررة خلال مواسم الأمطار وغيرها، إذ سجلت مقديشو وحدها أكثر من 20 حادثة سنوياً، وغالباً ما ترتبط بالأسس الضعيفة والمباني غير القانونية متعددة الطوابق، كما أن عدم اعتماد قانون بناء هندسي تترتب عليه آثار سلبية كبيرة في السلامة والجودة والاستدامة في البناء وتطوير البنية التحتية، موضحاً أنه مع غياب قوانين وأنظمة صارمة في القطاع الهندسي فقد تستخدم مواد لا ترتقي إلى المستوى المطلوب أو غير مناسبة، مما يؤدي إلى ضعف هيكلية وأخطار محتملة، ولافتاً إلى أن كثرة البناء العشوائي والاستعانة بعمال البناء والأخذ برأيهم على أنهم مهندسون يهدد سلامة المجتمع بأكمله، إضافة إلى عدم امتثال العملاء لعدد الطوابق المسموح بها مما يتسبب في حدوث انهيارات بصورة متكررة.
من جانبه قال المدير العام للتخطيط الهندسي عبدالرحمن طاهر، إن "مقديشو تشهد طفرة عمرانية منذ بداية استعادة الأراضي الحكومية وتحفيز البناء، مدفوعة بتحسن الأمن وعودة الاستقرار النسبي وزيادة الاستثمارات في قطاع البناء، ومن أبرز الخطوات التي ساعدت في هذا النمو استعادة الحكومة الصومالية الأراضي العامة التي كانت مملوكة للدولة قبل سقوط حكومة محمد سياد بري عام 1991، والتي اُستولي عليها خلال فترة الفوضى، واليوم تُستخدم في مشاريع عمرانية كبرى تشمل المجمعات السكنية والمنشآت العامة"، لافتاً إلى أن استعادة الحكومة لهذه الأراضي وإعادة تخصيصها لمشاريع تنموية خطوة مهمة جداً بعد أن كانت مهملة أو جرى توظيفها بصورة غير قانونية، لكنها الآن تتحول إلى مجمعات سكنية حديثة ومستشفيات ومدارس ومشاريع بنية تحتية، مما يسهم في تحسين جودة الحياة في مقديشو، مضيفاً أن الحكومة تمكنت من استعادة أكثر من 100 ألف وحدة سكنية كانت تعرضت للاستيلاء بعد سقوط الحكومة السابقة.