Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

ريادة الأعمال تنجح بشروط في ليبيا

يقول الشحومي إن الحديث عن اقتصاد ابتكاري في بلاده غير ممكن في غياب الإنترنت السريع أو أنظمة الدفع الإلكتروني

يحدد المتخصص الاقتصادي سبعة أسس لإستراتيجية وطنية داعمة للابتكار في بلاده (اندبندنت عربية)

ملخص

يرى مدير صندوق رأسمال الجريء في المملكة المتحدة أن واحدة من المعضلات الليبية هي اختزال الإصلاح في إصدار قوانين جديدة

حين أعلنت حكومة ليبيا مطلع عام 2025 عن تأسيس "صندوق دعم وضمان تمويل الشركات الناشئة"، ضمن مبادرة "1000 رائد لـ1000 مشروع"، بدا المشهد للوهلة الأولى واعداً، وربما للمرة الأولى يتحول الحديث عن ريادة الأعمال في ليبيا من حلم نخبوي إلى سياسة عمومية مصدّقة بقرار رسمي، لكن ككل لحظة افتتاحية، فإن السؤال الحقيقي لا يكمن في الإعلان، بل في ما بعده: هل تمتلك ليبيا المقومات الحقيقية لترجمة هذه الخطوة إلى تحول اقتصادي فعلي؟

الحكومة تبدأ، لكن من يتابع؟

يرى المحلل الاقتصادي الليبي، مدير صندوق رأسمال الجريء في المملكة المتحدة منذر الشحومي، أن الحكومة اختارت أن تجعل الصندوق تحت إشرافها المباشر، مع منحه شخصية اعتبارية وذمة مالية مستقلة، وهذا قرار يحمل إشارات مزدوجة: من جهة يُظهر جدية رسمية، ومن جهة أخرى يُنذر بأخطار التسييس وضعف الحوكمة، وهنا تحديداً تكمن أولى المفارقات، فالتجربة العالمية في هذا المجال – من بريطانيا إلى سنغافورة – أثبتت أن التمويل الحكومي، إن لم يُدر وفق منطق السوق ومعايير الشفافية والمساءلة، يتحول إلى قناة لامتصاص الموارد بدل توزيعها بفاعلية.

ويضيف الشحومي في مقابلة مع "اندبندنت عربية" أن المشكلة تكمن في ما يُعرف بـ"مشكلة الوكالة"، حين تختلف حوافز من يدير الصندوق عن مصلحة المستفيدين الحقيقيين، أي رواد الأعمال والمجتمع، لذا، فإن إشراك القطاع الخاص في لجان التقييم، وتحديد آليات واضحة لقياس الأداء والنتائج، ليس مجرد إجراء تقني، بل هو ضرورة سياسية واقتصادية لضمان ألا يُختطف الصندوق من قبل البيروقراطية أو الزبونية.

رأس المال الجريء لا يشبه المنح

ويعتقد الشحومي أن الخطأ الأكثر شيوعاً حين يتعلّق الأمر بريادة الأعمال، هو الخلط بين منطق الدعم ومنطق الاستثمار، إذ إن المنح الحكومية مفيدة في بدايات بعض الأفكار، لكن الإصرار على استخدامها كأداة التمويل الرئيسة يخلق اعتمادية مشوهة، وعلى العكس، رأس المال الجريء – الذي يغامر بالمال مقابل حصة – يشكل آلية مثالية لبناء شركات قادرة على النمو والاستقلالية.

وبحسب ما يردف المتحدث، هنا تبرز أهمية التصميم المؤسسي للصندوق: هل سيكون مستثمراً جريئاً أم مانحاً؟ التجارب المتقدمة مثل بريطانيا تقدم نموذجاً ذكياً: الحكومات تسهم بنسبة محدودة (غالباً لا تتجاوز 25 في المئة) في صناديق يديرها شركاء من القطاع الخاص، في حين أن الدولة تعطي دفعة أولى، وتترك القرار الاستثماري للمتخصصين، مما يشجع الآخرين على الدخول ويجنب الدولة أخطار التدخل اليومي في قرارات الاستثمار.

مراحل الشركات الناشئة

ويلفت المتخصص الاقتصادي إلى أن الشركة الناشئة لا تولد جاهزة، بل تمر برحلة تبدأ من "ما قبل البذرة" إلى "الطرح العام الأولي"، وكل مرحلة تتطلب نوعاً مختلفاً من التمويل والدعم، وفي البداية يكون التمويل ذاتياً أو من العائلة ثم يأتي المستثمرون الملائكة، فصناديق رأس المال الجريء، وأخيراً شركات الاستثمار الخاص وأسواق المال.

لكن كما يقول الشحومي فإن التمويل وحده لا يكفي، إذ إن المنظومة تحتاج إلى لاعبين متعددين: حاضنات ومسرّعات وجامعات ومستشارين قانونيين، ومؤسسات حكومية ذكية، فالبيئة التي تنجح في خلق شركات ناجحة ليست تلك التي تضخ الأموال فحسب، بل تلك التي توفر المعرفة والعلاقات والبنية التحتية والمرونة التشريعية.

إصلاح القوانين

واحدة من المعضلات الليبية هي اختزال الإصلاح في إصدار قوانين جديدة، بدلاً من تفعيل الموجود، فالقانون 23 لعام 2010 يشكل أساساً جيداً، لكن المشكلة تكمن في غياب التنفيذ، وتشتت الصلاحيات بين جهات عدة، والأسهل اليوم ليس كتابة قانون جديد، بل تنقيح القائم وتفعيل "نافذة موحدة" لتسجيل الشركات وتحديث اللوائح لتنسجم مع طبيعة الاقتصاد الرقمي، بحسب الشحومي.

ويتساءل، "ما الذي يمنع رائد أعمال ليبياً من تسجيل شركته خلال يومين إلكترونياً؟ هل يحتاج حقاً إلى مقر ثابت؟ لماذا لا نستفيد من نموذج إستونيا أو رواندا، حيث الخدمات رقمية بالكامل؟ المشكلة ليست في النصوص، بل في الثقافة الإدارية وفي ضعف الإرادة التنسيقية بين الجهات التنظيمية".

البنية الرقمية... الوقود الغائب

لا يمكن الحديث عن اقتصاد ابتكاري في غياب الإنترنت السريع، أو أنظمة الدفع الإلكتروني، فتطوير شبكات الاتصال وإتاحة بوابات دفع للشركات الناشئة وتحفيز المصارف على احتضان خدمات مالية رقمية ليست كماليات، بل أُسُس بناء اقتصاد القرن الـ21، والحل ليس فقط في البناء، بل في التشريع، وهو ما يفرض على مصرف ليبيا المركزي وهيئة سوق المال، بحسب المتحدث، أن يتبنيا نموذج "الحاضنة التنظيمية" التي تسمح للشركات الناشئة باختبار منتجاتها قبل خضوعها الكامل للضوابط.

ويضيف، "إن كانت الحكومة جادة فعليها أن تبدأ بنفسها: رقمنة الخدمات الحكومية، من السجل التجاري إلى الضرائب، ستخلق سوقاً أولية للشركات التقنية المحلية، وتوفر نموذجاً يُحتذى في الانفتاح والفاعلية".

التعليم والجامعات والمستقبل

لكن الحديث عن الابتكار من دون تناول التعليم هو لغو نظري، وفق الشحومي، فكل شركات العالم التقنية خرجت من جامعات أو استندت إلى بحوث علمية، ولعل أبرز ما أظهرته المبادرة الحكومية هو حضور ممثلي 26 جامعة في حفل إطلاقها، في إشارة رمزية تحتاج إلى تفعيل حقيقي.

ويعاود في حديثه طرح التساؤلات "هل نُدرّس ريادة الأعمال في الجامعات؟ هل لدينا حاضنات داخل الحرم الجامعي؟ هل تُحول الأبحاث إلى تطبيقات؟ هل نُدرّب الأساتذة والطلاب على بناء النماذج الأولية، أو حتى كتابة خطط الأعمال؟ الجامعات يمكن أن تصبح مصانع أفكار، لكنها اليوم بحاجة إلى تغيير جذري في دورها وتفاعلها مع السوق".

البيئة التنافسية بين الفشل والاحتكار

ويشير الشحومي إلى أن الابتكار لا يزدهر في بيئات تخشى الفشل أو تخضع للاحتكار، وإذا أردنا شباباً يخوضون المغامرة، فعلينا أن نحميهم قانونياً إذا فشلوا، وأن نحميهم من الشركات الكبرى إذا نجحوا، موضحاً أن تحديث قوانين الإفلاس، وتسهيل الخروج من المشاريع المتعثرة، وحماية الملكية الفكرية، ومنع الاحتكار، كلها شروط جوهرية لبناء بيئة تجرّب وتتعلم.

اقرأ المزيد

لكن الأهم هو الثقافة: كيف نُعيد تعريف الفشل؟ هل نُشهر برواد الأعمال أم نُكرّمهم على المحاولة؟ وهل وسائل الإعلام تروّج لقصص النجاح المغمورة أم فقط للثراء السريع؟ هل يُعامل من يفشل على أنه عبرة أم رائد طريق للآخرين؟ وفق إضافته.

من يدير الصندوق؟

من المسائل الجوهرية التي لم تُحسم بعد، هي من يدير هذا الصندوق؟ يقول الشحومي إن المهارة في إدارة الاستثمارات الجريئة تختلف عن إدارة مشاريع الدولة، وهو ما يعني حاجة ليبيا إلى كوادر متخصصة، تلقت تدريبات داخل صناديق إقليمية ودولية، وفهمت من الداخل كيف تُدار المخاطرة، وكيف تُبنى المحافظ، وكيف يُنَفّذ الخروج الاستثماري.

وبناء هذه الكوادر، كما يردف، يتطلب برامج تدريب محلية وخارجية، وتعاوناً مع مسرّعات إقليمية، وابتعاثاً لمهنيين ليبيين للعمل داخل صناديق دولية، كما يمكن جذب الكفاءات الليبية في الشتات للمساهمة في إدارة الصناديق الجديدة، أو لتأسيس شبكات مستثمرين ملائكيين محليين.

ماذا تعلّمنا من الدول الأخرى؟

يتحدث الشحومي عن تجارب إستونيا ورواندا وكولومبيا وأوكرانيا باعتبارها براهين على أن الريادة لا تحتاج إلى موارد ضخمة، بل إلى إرادة سياسية وقرارات إستراتيجية، فإستونيا خلقت حكومة إلكترونية بـ99 في المئة من خدماتها عبر الإنترنت، ورواندا تحولت من بلد منكوب إلى نموذج أفريقي للتنمية، فيما كولومبيا حولت مدينة ميديلين من عاصمة للجريمة إلى واحة ابتكار، وأوكرانيا، على رغم الحرب، أنتجت شركات عالمية مثل Grammarly، والدروس واضحة: الإصلاح لا يمضي بمراسيم، بل بمنظومة متكاملة تشمل التعليم والتشريع والتمويل والثقافة.

هل تنجح ليبيا في رهانها؟

يرى الشحومي في إنشاء الصندوق البداية لا أكثر، وأن نجاحه مرهون بتحوّله إلى جزء من إستراتيجية وطنية متكاملة للابتكار، وهذه الإستراتيجية يجب أن تؤسس على سبعة أعمدة: حوكمة شفافة وفعالة للصندوق والمبادرات، إلى جانب منظومة تمويل متنوعة توازن بين الدعم الحكومي والاستثمار الخاص، وإصلاح تشريعي يُفعّل القوانين القائمة ويُبسط الإجراءات، إضافة إلى ربط الجامعات بالسوق وبناء رأس مال بشري مبدع وبنية تحتية رقمية ومناطق تقنية متكاملة، ثم بيئة تنافسية تحترم الفشل وتحارب الاحتكار والفساد، وأخيراً بناء كوادر وطنية محترفة في الاستثمار الجريء.

ويختتم المحلل الاقتصادي، مدير صندوق رأسمال الجريء في المملكة المتحدة بقوله، "ليبيا اليوم أمام مفترق طرق، إما أن تكون هذه اللحظة فاتحة لعقد من التحديث، أو مجرد فصل آخر في مسيرة الفرص الضائعة، ما سيُحدد المسار هو نوعية القرارات المتخذة الآن، وسرعة تنفيذها، وصدق الإرادة السياسية في تحويل النية إلى بنية".

Listen to "ريادة الأعمال تنجح بشروط في ليبيا" on Spreaker.