ملخص
بينما لم تحسم البحوث والدراسات العلمية في علاقة عديد الأمراض بما تفرزه أبراج الاتصالات من ذبذبات مغناطيسية، تتباين المواقف إزاء تركيزها وسط السكان، بين من يرى أنها ضرورية لتوفير التغطية في شبكات الهواتف الجوالة ولا ضرر في وجودها وسط الأحياء السكنية، وبين من يرفض تركيزها وسط السكان تحسباً للأخطار الصحية التي قد تسببها.
تنتصب الأبراج الهوائية لمشغلي الهواتف الجوالة في تونس على كامل تراب البلاد، إذ يفوق عددها سبعة آلاف بحسب آخر الإحصاءات، ومع دخول الجيل الخامس لشبكات الهاتف الجوال الثلاثة تحتاج هذه الشبكات إلى أعداد إضافية من الأبراج التي تتوسط الأحياء السكنية، كما يوجد بعضها فوق البنايات المأهولة، بينما يسكن الخوف قلوب سكانها من تأثيرها السلبي على صحتهم، علاوة على أنها في نظر بعض المتخصصين تشوه وجه المدن.
"اندبندنت عربية" رصدت تخوفات عدد من التونسيين من الحقول الكهرومغناطيسية التي ترسلها هذه الأبراج، وبحثت في التداعيات الصحية المحتملة لهذه الأبراج بسبب تلك الإشعاعات التي تسببها، وفي مدى احترام شبكات الاتصالات في تونس للمعايير القانونية والبيئية والشروط الصحية لتركيزها.
يتربص بصحتي وأولادي
تتلقى الوكالة الوطنية لتقييم الأخطار التابعة لوزارة الصحة سنوياً عشرات الشكاوى من مواطنين يتذمرون من وجود تلك الأبراج في محيط سكنهم، معبرين عن تخوفهم من أن تؤدي الذبذبات التي ترسلها تلك المحطات إلى الإصابة بأمراض منها السرطان، علاوة على عدم استساغتهم وجودها داخل المناطق السكنية المكتظة وفي الأحياء الشعبية، بينما يستفيد عدد آخر من المتساكنين من تركيزها فوق أسطح منازلهم من خلال عقد تسويغ بمقابل مادي مع مشغل الهاتف لتلك المحطة.
جلال الغيلوفي من سكان منطقة حي الزهور غرب العاصمة يقول إن "وجود البرج الهوائي في الحي الذي أقطنه منذ عقود عكر مزاجي، وبت أنظر إليه كعدو يتربص بصحتي ويتهدد أولادي"، داعياً إلى "ضرورة نقله من المناطق السكنية لما قد يخلفه من أمراض للمقيمين قربه".
ويضيف "أصبحت أعاني أوجاعاً قوية ومتواصلة في رأسي، وأتابع حالتي الصحية في مستشفى للأمراض العقلية جراء الذبذبات التي يحدثها العمود الملاصق لمنزلي، فهو يحدث أصواتاً مزعجة على مدار الليل والنهار".
في المقابل، يستفيد حامد المولهي أحد سكان الضاحية الجنوبية للعاصمة تونس من وجود البرج فوق سطح منزله، بعد أن قبل عرضاً من أحد مشغلي الهواتف الجوالة في تونس لنصب برج هوائي فوق منزله مقابل مبلغ مالي قيمته 6 آلاف دينار تونسي في العام (نحو 3 آلاف دولار)، لكنه لم يكن يعلم أن ذلك البرج سيتسبب في قطيعة مع جيرانه الذين باتوا يتذمرون من وجود البرج، ووصل الأمر إلى التقاضي أمام المحاكم، وعلى رغم الزيارات التي تقوم بها الجهات المتخصصة بصورة دورية لمراقبة مدى اتفاق ذلك الهوائي مع مختلف الإجراءات والشروط القانونية والصحية فإن ذلك لم يشفع له.
يقول حامد "لا أحد من جيراني بات يتواصل معي بسبب برج الاتصالات الذي لم يتسبب لهم في الواقع بأي أذى"، مستدركاً "تلك هي عقلية التونسي، يحسدونني بسبب ما أجنيه مقابل وجود ذلك البرج فوق سطح منزلي".
ويضيف "تقدم جيراني بعدد من الشكاوى إلى الوكالة الوطنية للترددات ووكالة تقييم الأخطار، اللتين قامتا بالمراقبة اللازمة وأمداني بتقرير رسمي يؤكد خلو البرج من أية إخلالات، وعدم إلحاقه الضرر بالسكان المحاذين له".
مفارقة الطلب والرفض
"المفارقة أن التونسيين يريدون تغطية كاملة وقوية لشبكات الهواتف الجوالة، لكنهم في الوقت نفسه لا يرغبون بوجود تلك الأبراج الضرورية لتوفير التغطية"، هكذا يقول مهندس متخصص في الاتصالات بإحدى الشركات المشغلة للهواتف الجوالة في تونس، رفض الكشف عن هويته، مضيفاً أن "تلك الأبراج ضرورية من أجل تعزيز البث الهاتفي على مختلف شبكات الهواتف الجوالة في تونس"، وداعياً إلى "التوعية بخلوها من الأخطار الصحية لأنها تحت المراقبة الدورية من قبل الجهات المعنية".
وأكد المتخصص أن "تذمر بعض المتساكنين من وجودها لا يعكس دراية علمية بكيفية اشتغالها، وإنما هو نوع من توتر العلاقات الاجتماعية التي باتت تحكم بعض التونسيين في ما بينهم، وبخاصة الذين يقطنون بجوار تلك المحطات"، لافتاً إلى أن "تلك الأبراج سيتكثف تركيزها في المستقبل نظراً إلى تزايد الطلبات على استخدام الهواتف الجوالة، وبخاصة مع تشغيل الجيل الخامس للإنترنت".
يذكر أن القانون التونسي الصادر خلال الـ23 من أكتوبر (تشرين الأول) عام 2008 يوصي شركات الاتصالات بتجنب اقتراب تركيز أبراج الهواتف الخلوية لمسافة 100 متر في الأقل من المستشفيات ورياض الأطفال والمدارس، لحماية الأطفال والمرضى من تداعيات التعرض المطول لتلك الذبذبات التي يرسلها البرج الهوائي للاتصالات.
وتعد الوكالة الوطنية للترددات، وهي هيكل عمومي تابع لوزارة تكنولوجيات الاتصال، الجهة الرسمية المخولة بإعطاء شركات الاتصالات تراخيص تركيز أبراج الهواتف الخلوية. ويستند تركيز أبراج الهاتف الجوال بتونس إلى المنشور المشترك لوزراء الداخلية وتكنولوجيات الاتصال والصحة العمومية، والذي يحدد دور المتدخلين في المجال، وإلى مذكرة وزير تكنولوجيات الاتصال إلى المشغلين التي تحدد الحدود القصوى للتعرض للحقول الكهرومغناطيسية الصادرة من الأبراج، وذلك في انتظار نص قانوني وطني يحدد مختلف إجراءات الوقاية من التعرض للإشعاعات، كما تبدي الإدارة الجهوية للصحة والبلدية رأيها حول مدى احترام الشركات للشروط عند تركيز أبراج محطات الهاتف الجوال.
انتشار فوضوي وطمأنة
أمام التنافس المحموم على سوق الهاتف الجوال من الجيل الخامس بين شركات الاتصالات الثلاث في تونس، انتشرت أبراج هذه الشركات فوق أسطح المنازل والعمارات، إذ يؤجرها مالكوها إلى هذه الشركات وفق ترخيص لمدة ثلاثة أعوام قابلة للتجديد بصفة آلية مع زيادة دورية، وبمقابل مالي يراوح بين ثلاثة و15 ألف دينار (ما بين ألف و5 آلاف دولار).
وتوقع شركات الاتصالات عقود إيجار لأسطح منازل أو عمارات يوافق أصحابها على نصب أبراج الهواتف الخلوية فوقها، ثم تودع هذه العقود لدى "الوكالة الوطنية للترددات" التي تمنحها تراخيص لإقامة الأبراج بعد أخذ رأي البلدية التي تقوم بالتحقق من مدى احترام متطلبات الجمالية الحضرية ومقتضيات التهيئة الترابية ومبدأ الاحتياط عند التركيز. تبعاً لذلك، تمنح وكالة الترددات موافقتها لشركات الاتصالات على مباشرة تنفيذ أشغال تركيز الأبراج في المناطق المحددة خلال 15 يوماً من تاريخ تقديم الطلب.
وتؤكد المديرة العامة للتكنولوجيا بوزارة تكنولوجيات الاتصال محرزية العوني لـ"اندبندنت عربية" أن "المشغل مطالب بتقديم جميع المواصفات الخاصة بهوائيات الاتصالات التي سيتم تركيزها، ومنها صلابة البرج وطوله حتى يقاوم العوامل الطبيعية والدراسة الفنية للموقع، علاوة على احترام الجمالية الحضرية والتهيئة العمرانية ومختلف الشروط التي ينص عليها القانون، لذلك تلجأ بلديات إلى تمويه البرج وتغليفه بصورة تماشى وجمالية المدينة".
وبخصوص شكوى المواطنين من وجود تلك الأبراج قرب مقار سكنهم، تؤكد المديرة العامة للتكنولوجيا أن "كل مواطن من حقه التظلم لدى وكالة تقييم الأخطار التابعة لوزارة الصحة، وتتولى لجنة متخصصة ممثلة لمختلف المتدخلين القيام بالإجراءات الضرورية، ومنها التثبت من مدى احترام المشغل للشروط الفنية عبر القيام بالقياسات اللازمة. مضيفة أن الوكالة الوطنية لتقييم الأخطار تقوم بالمعاينات الفنية للبرج موضوع الشكوى، والذي يجب أن يكون بعيداً من المؤسسات الحساسة كرياض الأطفال والمدارس والمؤسسات الصحية 100 متر في الأقل، والوكالة الوطنية للترددات تقيس حدود الحقول الكهرومغناطيسية وتتثبت من مدى احترامها للشروط الفنية.
وشددت على أن "تونس حريصة على احترام المعايير الدولية في الغرض التي نصت عليها منظمة الصحة العالمية. وحرصاً على صحة المواطنين أجرت الوكالة الوطنية للترددات أكثر من ألف عملية قياس للحقول الكهرومغناطيسية، وقامت بنشرها للعموم للتعرف على نسبة هذه الحقول ومواقع انتشارها ومدى احترامها للمعايير الصحية"، لافتة إلى أن "كل المؤشرات تؤكد أن مستوى الحقول المغناطيسية أقل بكثير من الحدود التي وضعتها الوكالة الدولية للترددات، ولا تخلف أضراراً صحية بالمواطنين".
وكشفت المديرة العامة للتكنولوجيا أن "وزارة تكنولوجيات الاتصال وضعت منصة للتعرف على مستويات الحقول الكهرومغناطيسية وحدودها، ووضعت الوكالة الوطنية للترددات تطبيقاً على الهاتف الجوال يمكن المواطن من التعرف على حجم الحقول المغناطيسية في الفضاء الذي يتحرك فيه"، مؤكدة أن "تونس تعد من الدول القلائل في العالم التي تنشر هذه المؤشرات للعموم".
وطمأنت مديرة التكنولوجيا التونسيين بأنه "لم يقع تجاوز للمعايير الدولية في الحقول المغناطيسة التي ترسلها محطات الاتصالات، وهي مؤشرات يمكن التعايش معها"، مشيرة إلى أن "الهياكل المعنية حريصة على صحة المواطنين، وكل القياسات والمؤشرات تثبت التزام تونس بالمعايير والقياسات التي حددتها المنظمة العالمية للصحة".
أخذاً بمبدأ الاحتياط
وبينما لم تؤكد نتائج الأبحاث العلمية الحالية وجود دليل علمي قاطع يفيد بأن التعرض للتردد اللا سلكي (الراديوي) يلحق ضرراً بصحة الإنسان بأي صورة من الصور، تتخذ الجهات المعنية إجراءات احتياطة عند تركيز الأجهزة التي تصدر الأشعة غير المؤينة مراعاة لمخاوف المواطنين الصحية.
ويؤكد مدير الرقابة البيئية للمنتجات بالوكالة الوطنية لتقييم الأخطار التابعة لوزارة الصحة محمد وسيم الهاني لـ"اندبندنت عربية"، أنه "على رغم مرور ثلاثة عقود على استخدام هذه الأبراج، لم يثبت علمياً أن المحطات القاعدية للهاتف الجوال تسبب أضراراً صحية، لأن هناك حدوداً قصوى للتعرض لهذه الإشعاعات تعتمدها تونس بناء على المستوى الدولي"، لافتاً إلى أن "الدراسات العلمية متواصلة في هذا المجال لحسم مدى خطورة تلك الأبراج على صحة المواطنين".
ويشير إلى أن "تونس تستخدم مبدأ الاحتياط استئناساً ببعض التجارب في الدول الأوروبية، وهو إجراء تحفظي عند تركيز المحطات القاعدية للهواتف الجوالة، كعدم توجيهه نحو المؤسسات الصحية أو التربوية لأن التعرض للحقول الكهرومغناطيسية من قبل المرضى أو التلاميذ سيكون لفترات مطولة".
ويكشف الهاني أن "إدمان استخدام الهاتف الجوال قد يخلف آثاراً صحية كالاضطرابات في الجهاز العصبي والأرق وقلة النوم"، لافتاً إلى أننا "نتعايش يومياً مع الحقول الكهرومغناطيسية في مستوياتها المقبولة".
في المقابل، يؤكد المتخصص في الطب العام أحمد العبيدي أن "أبراج الاتصالات قد تسبب الإصابة بأنواع معينة من السرطان المرتبط بزيادة الحساسية الكهرومغناطيسية لدى بعض الأفراد، وذلك بالاستناد إلى عدد من الأبحاث العلمية أكدت أن كثرة تعرض الإنسان للحقول الكهرومغناطيسية الناتجة من الإشعاع اللا سلكي المنبعث من أبراج شبكات المحمول تخلف عدداً من المشكلات الصحية مثل الاضطرابات العصبية وضعف الذاكرة والتغيرات الوظيفية لخلايا الجسم، علاوة على شعور المساكنين قرب الأبراج بالتعب والإرهاق واضطرابات النوم وأحياناً آلام الرأس".
ويشير عدد من البحوث الطبية، بحسب العبيدي، إلى أن "أبراج الاتصالات قد تؤدي إلى احتمال الإصابة بأنواع مختلفة من السرطانات كسرطان الدم والثدي والأمراض النفسية والعصبية كألزهايمر".
وتحسباً لكل هذه الأخطار تدعو اللجنة الدولية للحماية من الإشعاعات غير المؤينة (إشعاعات ذات طاقة منخفضة)، وهي منظمة غير حكومية معترف بها من قبل منظمة الصحة العالمية، إلى أن تراعي شركات الاتصالات عند تركيز أعمدة التقاط الذبذبات الراديوية المسافات المطلوبة، وتبتعد من المناطق الحساسة.
في السياق نفسه، دعا نبيه ثابت رئيس لجنة الصحة في البرلمان في تصريح خاص، إلى ضرورة إيجاد "نص تشريعي واضح المعالم يوحد الهياكل المتدخلة ويقنن عملية تركيز أبراج الاتصالات في تونس، والتخلي عن المنشور الذي ينظم هذه العملية"، مشدداً على أن "البرلمان لم يتلق أية مبادرة تشريعية في هذا المجال".