ملخص
في سبتمبر عام 1967، بعد أسابيع من حرب حزيران، كان الحدث في باريس معرضاً للتاريخ الفرعوني المصري، نجمه الأكبر توت عنخ آمون، حيث تدفق الفرنسيون وزوار باريس لحضوره في "القصر الكبير" عبر زحام فني لم يكن سبق لباريس أن عرفت مثيلاً له من قبل
من يراجع الصحافة الفرنسية الصادرة يوم الخامس من سبتمبر (أيلول) عام 1967، سيدهشه كيف أن تلك الصحافة التي كانت قبل ثلاثة أشهر جعلت الضربات العسكرية الإسرائيلية عناوين صفحاتها الأولى، تهتم هذه المرة بالتاريخ المصري الفرعوني جاعلة منه جوهر تلك العناوين. والحقيقة أن الحدث الثقافي الرئيس في باريس كان يبرر ذلك، ولو من ناحية الأرقام القياسية. وكان الحدث معرضاً للتاريخ الفرعوني المصري، نجمه الأكبر توت عنخ آمون، تدفق الفرنسيون وزوار باريس لحضوره في "القصر الكبير" عبر زحام فني لم يكن سبق لباريس أن عرفت مثيلاً له من قبل. لقد بدا الأمر غزواً فرعونياً لعاصمة النور وتعبيراً ملموساً هذه المرة عن ذلك الشغف الفرنسي بكل ما يمت إلى مصر، وبخاصة إلى مصر الفرعونية، بصلة. فخلال أيام قليلة تمكن المعرض من اجتذاب مئات ألوف الزائرين، مسجلاً بذلك أكبر نسبة حضور منذ عقود. والحقيقة أنه حين تقرر قبل ذلك بأشهر أن تشمل جولة يقوم بها توت عنخ آمون في بلدان عديدة العاصمة الفرنسية، كانت التقديرات تشير إلى أن اهتمام الجمهور الفرنسي سيكون كبيراً بالتأكيد، غير أن ما من أحد كان يتوقع ذلك الزحام الهائل الذي شكله جمهور الزائرين منذ اليوم الأول. ومن المؤكد أن المراقبين سيعترفون لاحقاً بأنهم أخطأوا في تقدير حجم الشغف الفرنسي بمصر وتاريخها الفرعوني، شغف كانوا يرون أنه تضاءل منذ بات سائداً اعتبار مصر بلداً معادياً لفرنسا خلال تلك الحقبة من حكم الرئيس جمال عبدالناصر، غير أن كثراً سيعترفون، أمام ضخامة النجاح الذي حققه معرض "الغران باليه"، ذاك بأنهم في تقديراتهم تناسوا وجود اسمين استثنائيين في سدة الحكم في القاهرة وباريس هما المثقفان الكبيران أندريه مالرو وثروت عكاشة.
زيارة متعددة المعاني
بل إنهم تناسوا تلك الزيارة التي قام بها إلى القاهرة ذلك الوزير الفرنسي الذي سهى عن بال المراقبين أنه بأكثر مما هو وزير للثقافة في حكومة الرئيس شارل ديغول، كاتب كبير مولع بتاريخ الحضارات وسيكولوجية الفنون بل كذلك في حق الشعوب في تقرير مصيرها كما بحق الشعوب الأخرى في الاطلاع الميداني على حضارات يعرفون عنها بعض الأشياء وتغيب عنهم فيها أشياء أخرى! ومن هنا ومن ناحية مبدئية كان في خلفية الزيارة التي قام بها أندريه مالرو إلى مصر خلال الأيام الأخيرة من شهر مارس (آذار) من عام 1966، ذلك الهدف الفني الثقافي الذي سيتحقق في العام التالي كما نعرف: إقامة معرض توت عنخ آمون في باريس، ذلك المعرض الذي أثار هوس الفرنسيين جميعاً، وأقام الدنيا هناك ولم يقعدها، وأدى - بين أمور أخرى - إلى ولادة تلك النزعة الفرنسية الإيجابية في اتجاه مصر وتاريخها الفرعوني. إذا، كان أندريه مالرو، وبمعرفة ثروت عكاشة، هو الذي رتب ذلك المعرض، خصوصاً بعد أن نال في سبيل ذلك موافقة الرئيس جمال عبدالناصر، الذي كان في حاجة ماسة في ذلك الحين، إلى عملية "العلاقات العامة تلك"، إذ كان التوتر بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية يتزايد، وكانت حرب اليمن عزلت عبدالناصر عربياً، كما أن الإصلاحات الاجتماعية والاشتراكية، أثارت العواصف من حوله في الداخل، وكل ذلك في وقت كان فيه الرئيس المصري بدأ يخامره اليأس من صدق الاتحاد السوفياتي في التعامل معه. فإذا أضفنا إلى هذا أن عبدالناصر كان يزيد، في ذلك الحين، من الاندفاع في طريق نوع من الصلح مع إسرائيل، وهو يراقب بعين الحذر ما يحدث في سوريا، إذ قام نظام بعثي يساري "أخذ يزايد عليه لفظياً" بحسب تعبير صحافي ويحاول "أن يدفعه إلى تصعيد الموقف العسكري مع إسرائيل"، يبدو لنا من الواضح أن عبدالناصر وجد الحل في التقارب مع فرنسا، وعبرها، في فتح علاقات جديدة مع أوروبا.
بين السياسة والثقافة
في ذلك الحين كان شارل ديغول رئيس فرنسا القوي خطا خطوات كبيرة في اتجاه العالم العربي، وبخاصة منذ أسهم في نيل الجزائر استقلالها والتصدي للهيمنة الأميركية على الحلف الأطلسي، ومن هنا كان من الواضح أن مالرو الذي كان واحداً من كبار مستشاري الرئيس، لم يقصد مصر لمجرد أن يرتب معرضاً في باريس، حتى ولو كان المعرض على ضخامة وأهمية معرض توت عنخ آمون. كان من الواضح أن الزيارة في جوهرها سياسية فأندريه مالرو كان في ذلك الحين وزيراً للشؤون الثقافية في فرنسا، وكانت له كلمة مسموعة لدى الرئيس شارل ديغول، صديقه ورئيسه. وثروت عكاشة كان يعرف هذا، وكان يعرف أيضاً أن زيارة يقوم بها مالرو إلى مصر، ولقاء يجمعه مع الرئيس المصري، سيكون لهما أثر كبير لدى ديغول بصورة عامة. ومن هنا، حين اجتمع اندريه مالرو بالرئيس جمال عبدالناصر يوم الـ27 من آذار (مارس)، أي في أول أيام زيارته لمصر، كان من الطبيعي أن يمرا مرور الكرام على ذكر معرض توت عنخ آمون. إذ وافق عبدالناصر على إقامة المعرض خلال ثوان، ثم انتقل الرجلان إلى الحديث عن التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي بين بلديهما.
جرى الاجتماع في منزل عبدالناصر في "منشية البكري"، وسيخرج منه مالرو مبتسماً قائلاً لمن حوله إنه تأثر كثيراً بشخصية الرئيس المصري، كما وجد نقاطاً مشتركة تجمع بين الرواية التي كتبها الرئيس المصري في شبابه بعنوان "ثمن الحرية"، وبين بعض رواياته هو - أي مالرو - الرئيسة مثل "الشرط الإنساني" و"الأمل"، إذ إن "هناك قاسماً مشتركاً بيننا هو التفاؤل بمستقبل الإنسان، وتأكيد مشروعية فعل المقاومة ضد الطغيان". وكان من نتيجة ذلك كله أن عاد أندريه مالرو إلى بلاده ليجتمع من فوره إلى الرئيس شارل ديغول، ناقلاً إليه انطباعات شديدة الإيجابية عن لقائه بجمال عبدالناصر، وناقلاً إليه كذلك دعوة الرئيس المصري له إلى زيارة مصر.
نجاح كبير
ويمكننا هنا أن نقول إن ما نقله مالرو إلى ديغول، من رغبات عبدالناصر السلمية، وكذلك من توقه إلى الانفتاح على فرنسا وأوروبا، ومن إعجابه بالثقافة الفرنسية، مما حرك عواطف ديغول تجاه مصر والعرب، وأنتج تلك المواقف التي أبداها ديغول لاحقاً، ولاسيما إبان "حرب الأيام الستة" حين أدلى بتصريحات مؤيدة لمصر وللحق العربي أقامت الصهيونية الدنيا ضده ولم تقعدها بعد ذلك أبداً. أما بالنسبة إلى الجانب الثقافي الذي يهمنا هنا فلا بد من القول إنه سيبقى بالنسبة إلى الفرنسيين والمصريين، الجانب الأكثر أهمية وبخاصة أن الزوار اكتشفوا، بعيدا من الشؤون السياسية معرضاً أخاذاً تسيطر عليه عشرات القطع المذهبة التي بدت وكأنها صنعت في الأمس فقط. ولقد كان ذلك مناسبة مكنت عشرات ألوف الفرنسيين من الرجوع إلى قرن وأكثر من الاهتمام الفرنسي بكل ما له علاقة بالتاريخ المصري قديمه وجديده بما في ذلك استعادة ذكرى ومؤلفات أعداد كبيرة من مؤلفين ومبدعين فرنسيين زاروا مصر وكتبوا عنها بشغف بدا يومها كالعدوى، من بيار لوتي إلى فلوبير ومن جيرار دي نرفال إلى ثيوفيل غوتييه، وصولاً إلى جان كوكتو واللائحة قد تطول إلى ما لا نهاية. ولقد كان ذلك المعرض في حد ذاته خطوة رائعة على طريق شغف فرنسي متجدد بمصر سيعبر عن نفسه عبر عشرات المعارض والمناسبات اللاحقة، بما في ذلك تلك اللحظة المفصلية التي أصدر فيها الصحافي والكاتب الفرنسي جان لاكوتور كتاباً بالغ الأهمية عن مواطنه شامبوليون الذي كان هو ومن دون غيره، مكتشف ومفسر اللغة الهيروغليفية. وربما تعود أهمية الكتاب لأن لاكوتور نفسه كان وهو يشتغل على كتابه نزيل السجون المصرية من دون ذنب جناه سوى كونه فرنسياً في زمن كانت العلاقات بين البلدين وصلت إلى أسفل السافلين قبل المعرض وزيارة مالرو إلى القاهرة بسنوات قليلة، لكن هذه حكاية أخرى قد نعود لها يوماً.