Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.
اقرأ الآن

الطبيعة الأفريقية تتجلى في  معرض لبناني عن فن النسيج

الفنانة ليلى جبر جريديني تستكشف جماليا ورمزيا "شجرة الباوباب"

من معرض الرسامة ليلى جبر عن الطبيعة الأفريقية (خدمة المعرض)

ملخص

تعرف شجرة الباوباب Baobab بأنها واحدة من أقدم وأعجب الأشجار في العالم، وتشتهر بجذعها الضخم وأغصانها التي تمتد مثل الأذرع نحو السماء، مما يمنحها مظهراً غريباً يشبه الأشجار المقلوبة. خلال رحلتها إلى زنجبار، جزيرة الأحلام في شرق أفريقيا، جذبت هذه الشجرة الفنانة ليلى جبر جريديني بسبب رمزيتها العميقة في التراث الإفريقي، إذ يعتقد أنها شجرة الحكمة والقوة والاستدامة.

تحولت الباوباب إلى محور أعمال الرسامة جريديني، حاملة بين أغصانها قصص الأرض، والجذور العميقة، وحكمة الطبيعة. في معرضها الذي تقيمه في غاليري جانين ربيز (الروشة، يستمر لغاية الـ17 من أبريل) بعنوان "شجرة الحياة" استطاعت الفنانة أن تستلهم هذا الرمز الغني في لوحاتها النسيجية ذات الطبقات والتقنيات المتعددة، وهي تعكس عمق العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين الأسطورة والواقع، مستخدمة فن الحياكة والخياطة والنسيج كوسيلة لتكريم الجمال الساحر لهذه الأشجار، ولإحياء هذا الموروث التاريخي القديم في إطلالة معاصرة.

يقال في الأساطير القديمة إن الآلهة، غضباً منها على الشجرة بسبب كبريائها، اقتلعتها وزرعتها رأساً على عقب، فبقيت جذورها في الهواء لتذكر البشر بالتواضع وحدود قوتهم أمام قوى الكون. هذه الرمزية تجد انعكاسها في أعمال الفنانة، التي تصور الشجرة العملاقة بطرق مختلفة تظهر توازناً هشاً بين السماء والأرض، وكأنها تقول إن الإنسان دائماً بين حالتي السمو والعودة للجذور. كتبت الفنانة تقول: "كان حباً من النظرة الأولى. لم يسبق لي أن صادفت اسمها إلا في كتاب طفولتي الذي ترك أثراً عميقاً في نفسي- رواية "الأمير الصغير" لسانت إكزوبيري. قصة ألهمت أحلام طفولة لا تحصى، وحملت خيالي إلى آفاق مجهولة. من كان ليتوقع أنني، بعد سنوات، سأفتن تماماً بأشجار الباوباب التي اكتشفتها في زنجبار؟ في اللحظة التي رأيتها فيها، تعرفت عليها غريزياً، ثم وجدت نفسي في رحلة بحث، أمسح المناظر الطبيعية بحثاً عن كل شجرة مهيبة ألمحها في الأفق.. لقد سحرتني، وشعرت برغبة في اكتشاف ما يجعل أشجار الباوباب استثنائية إلى هذا الحد. هل كان حجمها الهائل، أم أشكالها المذهلة، أم الشعور بالغموض الذي تثيره؟ ربما كان الأمر مزيجاً من كل ذلك".

البحث عن الفن في المجهول

عرفت ليلى جبر جريديني انطلاقتها الأولى من قلب الأماكن ذات السيرة الذاتية، ثم راحت تفتش عن  المواقع الغريبة. لئن كان البحث عن الفن في البعيد المجهول، يحث على الإلهام ويحرض العين على اكتشاف كل ما هو غريب، غير أن فن النسيج الذي تشابكت خيوطه في حياة الفنانة منذ طفولتها قد علمها الثبات وأشعل موهبتها بدفء الألوان وتدفق الحنين، ودفعها إلى الإمساك بميراث عائلتها التي كانت تملك مصنعاً للنسيج خرج عن الخدمة، ولكنه بقي مترسخاً في ذاكرتها حتى شكلت مدخراته ومخلفاته من خيوط ملونة ومكوكات صوفية وأدوات خشبية أهمية محورية في حياتها.

وفي هذا التداخل والتشابك ما يدعو إلى التميز والاستثناء. فهي إلى جانب الرسم والنحت استطاعت أن تعزز تجربتها في الحياكة النسيجية متجاوزة الحدود التقليدية لتشمل فن التصميم بوسائط جديدة ومبتكرة تعبر عن الروح الإنسانية وتعيد تشكيل الواقع من زوايا مختلفة، إذ درست التصميم الغرافيكي في ESAG في باريس، حصلت على شهادة في الفنون الجميلة وفن التصميم من مدرسة بارسونز الجديدة في نيويورك، ودرست جريديني أيضاً علم الاجتماع والأنثروبولوجيا في جامعة السوربون، ثم عملت كمصممة لسنوات عديدة في مؤسسات في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. منذ عام 2008 عرفت اعمالها انتشاراً بعد دخول منحوتاتها وسجادياتها في مقتنيات بعض المتاحف العربية.

في حضرة شجرة الباوباب أيهما أجمل الحلم أم الحقيقة؟ تتنوع لوحات الفنانة لتشمل تصورات مختلفة لشجرة الباوباب، فتارة تصورها كشجرة قائمة شامخة تتحدى الزمن، وتارة أخرى تتحول الأغصان إلى أياد تحتضن السماء. لوحات تحمل ألواناً زاهية وأخرى أحياناً ترابية داكنة، لتعكس المشاعر المرتبطة بالأرض والهوية والانتماء. في أحد منسوجاتها، تصور الباوباب في مشهد غروب، إذ تنسج بألوان النسيج الحمراء والبرتقالية تدرجات شمس تغيب، وكأن الشجرة تودع يوماً آخر من حياتها الطويلة. وفي لوحة أخرى، تدمج بين جدائل الخيوط المتدلية كالأغصان مع الألوان الترابية لتبرز الباوباب كنقطة تواصل بين السماء والأرض، بين الماضي والحاضر.

بحثت جريديني عن تاريخ تلك الشجرة فوجدت أنها ذات أهمية في عدد من الثقافات الأفريقية، إذ تعتبر رمزاً للقوة والحياة والانتماء، وهي تزرع في مناسبات حياتية مهمة كالولادات أو لتكريم الأسلاف، كرمز للاحتفال أو لإظهار الاحترام. لذا وصفتها من الرأس إلى الجذع بحجمها الهائل في رسومها بالألوان المائية ونسجت قامتها على عدد من القطع الصغيرة، ثم أغمضت عينيها لترسمها في الحلم. هكذا أخذت المناظر الطبيعية تظهر في سجادياتها ذات الأحجام الكبيرة كإطار مكاني يطارد روح الشجرة، وما المشهد الطبيعي إلا استعارة لها. لذا يبدو المنظر مختزلاً وتجريدياً ومبسطاً في هندسته، يحيل إلى جماليات النسيج بتناغم ألوانه.

الهوية والموروث

ليلى جبر جريديني من بين المعاصرين القلائل التي تمكنت من تطويع خامات عديدة مع النسيج في آن واحد، يتراءى ذلك في التدخلات والعلاقات التي تقيمها الفنانة بين سطحين متغايرين: سطح اللوحة المرسوم بألوان الأكريليك ويكتنفه سطح منسوج بغرز الخيوط. ملمس ناعم  وآخر نافر، كأنه الحوار بين القديم والمعاصر. كما أن الإلهامات المتأتية من الطبيعة الوحشية للشجرة بضخامتها أضفت على النسيج ملامس متنوعة الكثافات والألوان، مع أنواع من الغرزات والضفائر النافرة حتى الحواشي تبدو مقلوبة رأساً على عقب، بما يغاير الاتجاه الصحيح لحواشي السجاديات التقليدية. من الوهلة الأولى يدرك الناظر لأعمالها أن المشغولات متأتية من فكر تصميمي متمتع بالحرية في التأليف والتشكيل.

اقرأ المزيد

ثمة قطع متوسطة الحجم مشغولة باليد تجسد مناظر لدغل من أشجار ونبات، ولوحات صغيرة عبارة عن رسوم لشجرة الباوباب بالألوان المائية على قماش الكتان، مندمجة بالخياطة مع أنامل الفنانة التي خاطت جذوعها وأغصانها بالإبرة والخيط، فضلاً عن اللوحات النسيجية الكبيرة التي صممتها ونفذتها مع معامل للنسيج في تركيا ومصر. وثمة قطع استخدمت فيها الفنانة الشبكة التي تنجدل عليها الخيوط الصوفية الملونة بطريقة المسدس اليدوي كبديل عن باليت الرسام، تاركة فراغاً كفضاء خال في خلفية المنظر كي تبدو المنسوجة شبيهة باللوحة التشكيلية مع الحامل الخشبي، وهي أنيقة وجميلة من الوجه والخلف. ذلك فضلاً عن أعمال تجهيزية عبارة عن إنشاءات لأشجار الباوباب منفذة بقضبان الخيزران ومزينة أغصانها بأنواع من مكوكات صوفية تذكر بميراث عائلة الفنانة من جهة وبأهمية حضور فن النسيج في ثقافات العالم وكشاهد على الحضارات القديمة.

ليلى جبر جريديني، ليست نساجة عادية بالمعنى المهني، بل هي رسامة تقوم بعمل إنشائي، إذ تستمر أعمالها في البحث عن إلهامات جديدة اكثر ارتباطاً بالهوية والتاريخ والموروث من مقتربها وأسلوبها الخاص الآخذ ما بين التشخيص والتجريد، إذ نعثر في مناظرها على أشجار وهضاب وأشكال مجردة ذات تقاطعات ودروب تلتقي وتفترق كما الحياة.

المزيد من ثقافة