بعد 29 سنة على اعدامهم رمياً بالرصاص لاتهامهم بتنفيذ محاولة انقلابية ضد نظام الرئيس السوداني السابق عمر البشير، تمكنت أسر 28 ضابطا سودانياً لأول مرة من معرفة مكان دفنهم الذي تكتمت عنه السلطات الأمنية في البلاد طوال هذه المدة، وهو لغز لم يستطع أحد كشفه من قريب أو بعيد نظراً إلى ضيق حلقة مَن قام نفّذ هذه العملية، على الرغم من المطالبات المتكررة لهذه الأسر بكشف مقابرهم، وهي خطوة لاقت ارتياحاً كبيراً وسط أسر هؤلاء الضباط لرد الاعتبار لهم نتيجةً لما تعرضوا له من ظلم كبير.
لكن كيف تم التعرف على هذه المعلومات، بخاصة أن مَن أشرف على هذه العملية التي أُحيطت بسرية تامة، هو الرائد آنذاك وعضو مجلس قيادة الثورة إبراهيم شمس الدين الذي توفي بحادث سقوط طائرة عام 2001، بحسب مصادر مطلعة فإن أحد المتهمين في هذه القضية سجل اعترافاً كاملاً بكل تفاصيل عملية الإعدام ومكان الدفن والمشاركين فيها، الأمر الذي دفع رئيس المجلس السيادي الانتقالي في السودان عبد الفتاح البرهان، إلى الاجتماع بأسر هؤلاء الضباط وابلاغهم بأن لجنة التحقيق التي شكّلها النائب العام أخيراً لتقصي الحقائق حول وقائع وملابسات هذه القضية تمكنت من تحديد مكان المقبرة التي ظلت مجهولة منذ عام 1990، منوهاً بأنه سيتم التشاور بشأن نبش المقبرة أو الاكتفاء بوضع نصب تذكاري عليها بأسماء الشهداء، وذلك بعد أخذ رأي الأطباء والمختصين بشأن ما إذا كان هناك استحالة لنبش الجثث أو تصنيف الشهداء، لكنه أكد أن كل الخطوات ستُتخذ بالتشاور مع أسر هؤلاء الضباط. كما تعهد البرهان بمحاكمة كل المتورطين في القضية، والعمل على رد الاعتبار للضباط الـ 28، ومنحهم كل الامتيازات التي حصل عليها شهداء القوات السودانية المسلحة.
المتهم الأول
هروب البشير
وحول هذه القضية أشار العميد عصام الدين ميرغني في كتاب توثيقي عن القوات المسلحة السودانية بعنوان "الجيش السوداني والسياسة"، إلى أن "البشير، باعتباره قائد عام وقائد أعلى للقوات المسلحة تقع عليه مسؤولية تحقيق العدالة والالتزام بالقانون العسكري واللوائح في كل قضايا القوات المسلحة". وهذا ما لم يحدث طوال مراحل إجراءات التحقيق مع الضباط الـ 28 وحتى تنفيذ أحكام الإعدام، لافتاً إلى أن البشير هرب عند بدء تحركات الضباط لتنفيذ الانقلاب، إلى خارج الخرطوم وترك كل مسؤولياته القيادية ليديرها ضباط صغار، ولم يعد إلا في اليوم التالي بعد فشل المحاولة.
وبيّن ميرغني أن فشل المحاولة الانقلابية يعود إلى أنها افتقدت أهم عناصر نجاحها وهي الترتيب المنظم والدقيق، وضمان تأييد القطاعات العسكرية كلها وعدم وجود قوة عسكرية مضادة، فضلاً عن سرعة اعتقالات الضباط المناوئين، مشيراً أيضاً إلى أنه لم تكن هناك مقاومة تُذكر من قبل الضباط، بل أنهم قبيل اعتقالهم تلقوا وعداً بمحاكمة عادلة وهو ما لم يحدث وتم الغدر بهم.
وزاد ميرغني "أما الأدهى والأمَرّ، فهو أن البشير لم يكن يعلم عن تنفيذ أحكام الإعدام حتى صباح اليوم التالي، حين دلف إليه حوالي الساعة التاسعة صباحاً من يوم الثلاثاء 24 أبريل (نيسان) 1990 العقيد عبد الرحيم محمد حسين والرائد إبراهيم شمس الدين في مكتبه في القيادة العامة، وهما يحملان نسخة من قرارات الإعدام ليوقّع عليها بصفته رأساً للدولة كما ينص القانون العسكري. وقال أحد الشهود إن "الرائد إبراهيم شمس الدين قال للفريق عمر البشير حينما تردد في التوقيع، بالحرف الواحد: يا سيادتك وقِّع الناس ديل نِحْنا أعدمناهم خلاص. فوضع الفريق الذي يُحكَمُ ولا يَحكُم يديه على رأسه للحظات، ثم تناول القلم وهو مطأطئ الرأس، وقام بمهر قرارات الإعدام التي تم تنفيذها بالفعل قبل ست ساعات مضت على أقل تقدير".
خبر الإعدام
والسؤال المهم هو كيف تلقى أسر الضباط وبقية الشعب السوداني خبر الإعدام؟ في اليوم ذاته الذي أُعدم فيه الضباط قطع التلفزيون السوداني برامجه ليذيع بياناً قصيراً جاء فيه أن تحقيقاً جرى "مع الضباط المشاركين في المحاولة الانقلابية وتمت ادانتهم والحكم عليهم جميعاً بالإعدام وتنفيذ الحكم".
ونزل الخبر كالصاعقة على أسر هؤلاء الضباط الذين تركوا آنذاك 54 طفلاً يتيماً، ومع مرور الزمن قامت تلك الأسر بتكوين هيئة باسم "تجمع أُسر شهداء 28 رمضان"، ظل أفراده يتعرضون إلى مضايقات طيلة فترة حكم النظام السابق، فطرقوا أبواب المنظمات الإقليمية والدولية لتساعدهم في الضغط على النظام السابق لمعرفة مكان دفن الضباط. وعلى الرغم من مضايقات نظام البشير والاعتقال، لا تمر ذكرى إعدامهم إلا وتقيم أُسرهم تجمع سنوي بتنظيم المعارض والندوات داخل العاصمة وخارجها، ونصبوا خيمةً في ساحة الاعتصام أمام مقر القيادة العامة إبان الثورة الشعبية للتعريف بالشهداء وتفاصيل اعتقالهم حتى إعدامهم.