وأنت تتجول في شوارع المدن اليمنية الحديثة، تجد أحياء سكنية ذات تصاميم متشابهة جامدة تغيب عنها الأشكال الهندسية والألوان البديعة التي عُرفت بها العمارة اليمنية وتميزت بها عن بقية عمارات الحضارات الأخرى.
تقليد تراثي
القمرية التي تقع في المكان العلوي لنوافذ البيوت في العمارة اليمنية شكلت طابعاً فريداً امتد لآلاف السنين... وباتت صناعة القمرية قريبة من الاندثار بعد قرون من انتشار هذا الطراز المزخرف في العديد من مناطق البلاد كتقليد ثقافي تراثي توارثته الأجيال.
والقمرية عبارة عن نصف دائرة تعلو النوافذ بالواجهات الخارجية للمبنى، مكونة معظمها من مادة تسمى الجص (الجبس) ذي اللون الأبيض، وفي داخلها أشكال زخرفية مختلفة يُزينها الزجاج الملون كالأزرق والأحمر والأصفر والبرتقالي لتضفي نوعاً من الجمال والزينة على داخل المنازل وخارجها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وإلى جانب وظيفتها الجمالية لها وظيفة أخرى في جلب مزيد من الضوء إلى داخل المبنى.
والقمرية ابتدعها المعماري اليمني لتأمين الإضاءة الداخلية بعد إغلاق النوافذ الخشبية التي يترتّب على إغلاقها ليلاً أو نهاراً فقدان الإضاءة الطبيعية.
ويستخدم اليمنيون منذ فترة طويلة القمرية في المنازل بالمدن والأرياف، وعادة ما يتم وضعها في الطوابق العلوية أو ما يسمى بالمفرج في العمارة اليمنية.
ووصل عدد القمريات في المبنى الواحد إلى ما يزيد على عشر قمريات، ويتضاعف العدد مع بناء طوابق علوية إضافية في البيت الواحد.
تكاد أن تختفي
يحيى مسعد، حرفي يعمل منذ 20 سنة في صناعة القمريات والزخرفة في أحد الشوارع بمدينة مأرب وسط اليمن.
يقول مسعد، قديماً كانت القمريات في كل مكان واليوم تكاد أن تختفي ولا توجد إلا في الأرياف.
وعن رمزية القمرية في العمارة اليمنية يقول، تعتبر القمرية من التراث اليمني، وفي صنعاء القديمة تجدها في كل مبنى بأشكال هندسية كثيرة وزخارف إسلامية وألوان مختلفة جميلة.
وعن الأشياء التي تهدد مهنة صناعة القمريات يقول مسعد، إن نوافذ الألمنيوم حلت محل القمرية، مشيراً إلى ارتفاع أسعار كلفة المواد التي تُصنع بها القمرية كالزجاج الألماني مثلاً.
ويضيف مسعد "أصبحت القمرية تكلف أكثر من 70 ألف ريال ويختلف سعرها بحسب الحجم والنوعية، والزجاج الممتاز الذي كنا نستخدمه في صناعتها أصبح شبه معدوم، وحل محله الزجاج الماليزي وسعره مرتفع أيضاً".
تراجع عمليات الشراء
ويشكو مالكو معارض صناعة القمريات حالياً من التراجع الحاد لعمليات الشراء من قبل رجال الأعمال والمواطنين، الذين لجأوا إلى استخدام نوافذ الألومنيوم لنوافذهم بدلاً من القمرية التي تتم صناعتها بطريقة يدوية وتأخذ وقتاً طويلاً لعدم اعتمادها على الآلات الحديثة.
إبراهيم الكامل وهو مالك أحد معارض صناعة وبيع القمريات يقول إن هناك تراجعاً حاداً في مسألة شراء القمريات من قبل اليمنيين. ويضيف أن الكثير من رجال الأعمال والمقاولين والمواطنين عزفوا عن شرائها.
ولفت الكامل إلى أن البناء المعماري الحديث الخارجي خال من القمريات ويعتمد بشكل كبير على نوافذ الألومنيوم.
والمناطق التي اشتهرت بفن القمرية كما يُعدد الكامل، هي صنعاء والأرياف والمدن القديمة، ويقول "هنا في مأرب المدينة لا أحد يستخدم القمرية يستخدمها سكان الريف فقط".
وعن الأسباب التي أدت إلى تراجع الطلب على القمريات يقول الكامل، إن مع التغيير الكبير الذي طرأ على أسلوب العمارة في المدن اليمنية بات الكثير يستخدم النوافذ المصنوعة من الألومنيوم.
ومضى الكامل بالقول، كنا قبل سنوات نعمل طوال أيام السنة في المعرض، نصنع قمريات، أما الآن فلم نعد نعمل باستمرار. ويضيف إن أراد أحدهم ذلك نتفق معه على تحديد الكمية والشكل الذي يريده ومن ثم نبدأ بتلبية طلبه.
جزء من التميز الحضاري
القمرية جزء من التميز الحضاري في البناء وحضارات اليمن مثل: سبأ (1000 قبل الميلاد - 275 للميلاد)، وحِمير (110 قبل الميلاد - 525 للميلاد) كانت بطابع حضري ومدني بحت. وبحسب الروايات التاريخية فإن قصر غمدان احتوى على القمريات في غرفه العليا، التي تُعرف الآن بـ"المفرج".
ويضيف باحثون في مجال العكترة اليمنية، أن القمرية بمرور الزمن تطورت بشكل أو بآخر، من حيث نوعية المواد المستخدمة في تشكيلها كالرخام أو الزجاج، إضافة إلى الشكل، وهو ما يلاحظ بوضوح في المساجد الأثرية والمنازل القديمة في صنعاء.
وكانت القمرية لها وظيفة أخرى، فهي إلى جانب إدخال الضوء، لا تسمح لمن في الخارج برؤية من هم داخل المنزل، وهو ما جعلها في كل منزل بسبب طبيعة المجتمع اليمني المحافظ.